إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
284 - الحديث الخامس : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال { : قد أصاب عمر أرضا بخيبر . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها . فقال : يا رسول الله ، إني أصبت أرضا بخيبر ، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه ، فما تأمرني به ؟ فقال : إن شئت حبست أصلها ، وتصدقت بها . قال : فتصدق بها . غير أنه لا يباع أصلها ، ولا يوهب ، ولا يورث . قال : فتصدق عمر في الفقراء ، وفي القربى ، وفي الرقاب ، وفي سبيل الله ، وابن السبيل ، والضيف . لا جناح على من وليها : أن يأكل منها بالمعروف ، أو يطعم صديقا ، غير متمول فيه . وفي لفظ غير متأثل } .


الحديث دليل على صحة الوقف والحبس على جهات القربات . وهو مشهور متداول النقل بأرض الحجاز ، خلفا عن سلف . أعني الأوقاف . وفيه دليل [ ص: 536 ] على ما كان أكابر السلف والصالحين عليه ، من إخراج أنفس الأموال عندهم لله تعالى . وانظر إلى تعليل عمر رضي الله عنه لمقصوده ، بكونه " لم يصب مالا أنفس عنده منه " . وقوله " تصدقت بها " يحتمل أن يكون راجعا إلى الأصل المحبس . وهو ظاهر اللفظ ، ويتعلق بذلك ما تكلم فيه الفقهاء من ألفاظ التحبيس ، التي منها " الصدقة " ومن قال منهم : بأنه لا بد من لفظ يقترن بها ، يدل على معنى الوقف والتحبيس ، كالتحبيس المذكور في الحديث ، وكقولنا مؤبدة " محرمة " أو " لا تباع ولا توهب " ويحتمل أن يكون قوله وتصدقت بها " راجعا إلى الثمرة ، على حذف المضاف ويبقى لفظ " الصدقة " على إطلاقه . وقوله فتصدق بها ، غير أنه لا يباع . .. إلخ محمول عند جماعة - منهم الشافعي - على أن ذلك حكم شرعي ثابت للوقف ، من حيث هو وقف ، ويحتمل من حيث اللفظ : أن يكون ذلك إرشادا إلى شرط هذا الأمر في هذا الوقف . فيكون ثبوته بالشرط ، لا بالشرع والمصارف التي ذكرها عمر رضي الله عنه : مصارف خيرات ، وهي جهة الأوقاف . فلا يوقف على ما ليس بقربة من الجهات العامة . والقربى " يراد بها ههنا : قربى عمر ظاهرا ، والرقاب " قد اختلف في تفسيرها في باب الزكاة . ولا بد أن يكون معناها معلوما عند إطلاق هذا اللفظ ، وإلا كان المصرف مجهولا بالنسبة إليها . و " في سبيل الله " الجهاد عند الأكثرين ، ومنهم من عده إلى الحج . و " ابن السبيل " المسافر ، والقرينة تقتضي اشتراط حاجته . " والضيف " من نزل بقوم ، والمراد : قراه ، ولا تقتضي القرينة تخصيصه بالفقر . وفي الحديث : دليل على جواز الشروط في الوقف ، واتباعها . وفيه دليل على المسامحة في بعضها ، حيث علق الأكل على المعروف ، وهو غير منضبط . وقوله " غير متأثل " أي : متخذ أصل مال ، يقال : تأثلت المال : اتخذته أصلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية