إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
، 19 - الحديث الثالث : عن عائشة رضي الله عنها قالت { دخل [ ص: 111 ] عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مسندته إلى صدري ، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به فأبده رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره . فأخذت السواك فقضمته ، فطيبته ، ثم دفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستن به فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استن استنانا أحسن منه ، فما عدا أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم : رفع يده - أو إصبعه - ثم قال : في الرفيق الأعلى - ثلاثا - ثم قضى . وكانت تقول : مات بين حاقنتي وذاقنتي } وفي لفظ { فرأيته ينظر إليه ، وعرفت : أنه يحب السواك فقلت : آخذه لك ؟ فأشار برأسه : أن نعم } هذا لفظ البخاري ولمسلم نحوه .

الحديث الرابع : عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال { أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستاك بسواك رطب ، قال : وطرف السواك على لسانه ، وهو يقول : أع ، أع ، والسواك في فيه ، كأنه يتهوع }


" أبو موسى " عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار - ويقال : حضار - الأشعري معدود في أهل البصرة ، أحد أكابر الصحابة ومشاهيرهم . وذكر ابن أبي شيبة : أنه مات سنة أربع وأربعين . وهو ابن ثلاث وستين سنة . وقيل : مات سنة اثنتين وأربعين . وقال الواقدي : سنة اثنتين وخمسين .

قوله في حديث عائشة رضي الله عنها " فأبده رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقال : أبددت فلانا البصر : إذا طولته إليه ، وكأن أصله من معنى التبديد ، الذي هو التفريق .

ويروى : أن عمر بن عبد العزيز لما حضرته الوفاة قال " أجلسوني فأجلسوه ، [ ص: 112 ] فقال : أنا الذي أمرتني فقصرت ، ونهيتني فعصيت ، ولكن لا إله إلا أنت ، ثم رفع رأسه فأبد النظر ، فقال : إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جن ، ثم قبض "

وقولها " بين حاقنتي وذاقنتي " قيل " الذاقنة " نقرة النحر ، وقيل : طرف الحلقوم وقيل : أعلى البطن و " الحواقن " أسافله ، وكأن المراد : ما يحقن الطعام أي يجمعه ومنه المحقنة - بكسر الميم - التي يحتقن بها ، ومن كلام العرب : لأجمعن بين ذواقنك وحواقنك ، وفي الحديث الاستياك بالرطب ، وقد قال بعض الفقهاء : إن الأخضر لغير الصائم أحسن ، وقال بعضهم : يستحب أن يكون بيابس ، قد ندي بالماء ، وفيه إصلاح السواك وتهيئته ، لقول عائشة " فقضمته " والقضم بالأسنان ، ومن طلب الإصلاح قول من قال : يستحب أن يكون بيابس قد ندي بالماء ; لأن اليابس أبلغ في الإزالة ، وتنديته بالماء : لئلا يجرح اللثة لشدة يبسه ، وفي الحديث : الاستياك بسواك الغير ، وفيه : العمل بما يفهم ، من الإشارة والحركات ، وقوله صلى الله عليه وسلم " في الرفيق الأعلى " إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم } ، الآية وقد ذكر بعضهم : أن قوله تعالى { صراط الذين أنعمت عليهم } إشارة إلى ما في هذه الآية ، وهي قوله { مع الذين أنعم الله عليهم } فكأن هذه تفسير لتلك ، وبلغني أنه صنف في ذلك كتاب يفسر فيه القرآن بالقرآن ، وقوله صلى الله عليه وسلم " في الرفيق الأعلى " يجوز أن يكون " الأعلى " من الصفات اللازمة ، التي ليس لها مفهوم يخالف المنطوق ، كما في نحو قوله تعالى : { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به } وليس ثمة داع إلها آخر له به برهان ، وكذلك قوله : { ويقتلون النبيين بغير حق } ولا يكون قتل النبيين إلا بغير حق ، فكون " الرفيق " لم يطلق إلا على الأعلى الذي اختص به الرفيق ، ويقوي هذا : ما ورد في بعض الروايات " وألحقني بالرفيق " ولم يصفه بالأعلى ، وذلك دليل على أنه المراد بلفظة " الرفيق الأعلى " ، ويحتمل أن يراد بالرفيق : ما يعم الأعلى وغيره ، ثم ذلك على وجهين :

[ ص: 113 ] أحدهما : أن يختص الرفيقان معا بالمقربين المرضيين ، ولا شك أن مراتبهم متفاوتة ، فيكون صلى الله عليه وسلم طلب أن يكون في أعلى مراتب الرفيق ، وإن كان الكل من السعداء المرضيين .

والثاني : أنه يطلق " الرفيق " بالمعنى الوضعي الذي يعم كل رفيق ، ثم يخص منه " الأعلى " بالطلب ، وهو مطلق المرضيين ، ويكون " الأعلى " بمعنى العالي ، ويخرج عنه غيرهم ، وإن كان اسم " الرفيق " منطلقا عليهم .

وأما حديث أبي موسى : ففيه أمران :

أحدهما : الاستياك على اللسان واللفظ الذي أورده صاحب الكتاب - وإن كان ليس بصريح في الاستياك على اللسان - فقد ورد ذلك مصرحا به في بعض الروايات ، والعلة التي تقتضي الاستياك على الأسنان موجودة في اللسان ، بل هي أبلغ وأقوى ، لما يرتقي إليه من أبخرة المعدة ، وقد ذكر الفقهاء : أنه يستحب الاستياك عرضا ، وذلك في الأسنان ، وأما في اللسان : فقد ورد منصوصا عليه في بعض الروايات " الاستياك فيه طولا " .

الثاني : ترجم البخاري على هذا الحديث باستياك الإمام بحضرة رعيته فقال : " باب استياك الإمام بحضرة رعيته " ، قال الشيخ الإمام الشارح تقي الدين رحمه الله : والتراجم التي يترجم بها أصحاب التصانيف على الأحاديث ، إشارة إلى المعاني المستنبطة منها : على ثلاث مراتب منها : ما هو ظاهر في الدلالة على المعنى المراد ، مفيد لفائدة مطلوبة ، ومنها : ما هو خفي الدلالة على المراد ، بعيد مستكره ، لا يتمشى إلا بتعسف ، ومنها : ما هو ظاهر الدلالة على المراد ، إلا أن فائدته قليلة لا تكاد تستحسن ، مثل ما ترجم " باب السواك عند رمي الجمار " وهذا القسم - أعني ما لا تظهر منه الفائدة - يحسن إذا وجد معنى في ذلك المراد يقتضي [ ص: 114 ] تخصيصه بالذكر ، فتارة يكون سببه الرد على مخالف في المسألة لم تشهر مقالته ، مثل ما ترجم على أنه يقال " ما صلينا " فإنه نقل عن بعضهم " أنه كره ذلك " ورد عليه بقوله صلى الله عليه وسلم " إن صليتها ، أو ما صليتها " وتارة يكون سببه الرد على فعل شائع بين الناس لا أصل له ، فيذكر الحديث للرد على من فعل ذلك الفعل ، كما اشتهر بين الناس في هذا المكان : التحرز عن قولهم " ما صلينا " إن لم يصح أن أحدا كرهه ، وتارة يكون لمعنى يخص الواقعة ، لا يظهر لكثير من الناس في بادئ الرأي ، مثل ما ترجم على هذا الحديث " استياك الإمام بحضرة رعيته " فإن الاستياك من أفعال البذلة والمهنة ، ويلازمه أيضا من إخراج البصاق وغيره ما لعل بعض الناس يتوهم أن ذلك يقتضي إخفاءه ، وتركه بحضرة الرعية ، وقد اعتبر الفقهاء في مواضع كثيرة هذا المعنى ، وهو الذي يسمونه بحفظ المروءة ، فأورد هذا الحديث لبيان أن الاستياك ليس من قبيل ما يطلب إخفاؤه ، ويتركه الإمام بحضرة الرعايا ، إدخالا له في باب العبادات والقربات ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية