إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
20 - الحديث الأول : عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال { كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأهويت لأنزع خفيه ، فقال : دعهما ، فإني أدخلتهما طاهرتين ، فمسح عليهما }

، 21 - الحديث الثاني : عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال { كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فبال ، وتوضأ ، ومسح على خفيه }


مختصر كلا الحديثين يدل على جواز المسح على الخفين ، وقد تكثرت فيه [ ص: 115 ] الروايات ، ومن أشهرها : رواية المغيرة ، ومن أصحها : رواية جرير بن عبد الله البجلي - بفتح الباء والجيم معا - وكان أصحاب عبد الله بن مسعود يعجبهم حديث جرير ; لأن إسلامه كان بعد نزول المائدة ، ومعنى هذا الكلام : أن آية المائدة إن كانت متقدمة على المسح على الخفين ، كان جواز المسح ثابتا من غير نسخ ، وإن كان مسح الخفين متقدما كانت آية المائدة تقتضي خلاف ذلك ، فينسخ بها المسح ، فلما تردد الحال توقفت الدلالة عند قوم ، وشكوا في جواز المسح ، وقد نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه قال " قد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين ، ولكن أقبل المائدة أم بعدها ؟ " إشارة منه بهذا الاستفهام إلى ما ذكرناه ، فلما جاء حديث جرير مبينا للمسح بعد نزول المائدة : زال الإشكال ، وفي بعض الروايات : التصريح بأنه { رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين بعد نزول المائدة } وهو أصرح من رواية من روى عن جرير " وهل أسلمت إلا بعد نزول المائدة ؟ " ، وقد اشتهر جواز المسح على الخفين عند علماء الشريعة ، حتى عد شعارا لأهل السنة ، وعد إنكاره شعارا لأهل البدع ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المغيرة { دعهما ، فإني أدخلتهما طاهرتين } دليل على اشتراط الطهارة في اللبس لجواز المسح ، حيث علل عدم نزعهما بإدخالهما طاهرتين فيقتضي أن إدخالهما غير طاهرتين مقتض للنزع ، وقد استدل به بعضهم على أن إكمال الطهارة فيهما شرط ، حتى لو غسل إحداهما وأدخلها الخف ، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف : لم يجز المسح ، وفي هذا الاستدلال عندنا ضعف - أعني في دلالته على حكم هذه المسألة - فلا يمتنع أن يعبر بهذه العبارة عن كون كل واحدة منهما أدخلت طاهرة . بل ربما يدعى أنه ظاهر في ذلك ، فإن الضمير في قوله " أدخلتهما " يقتضي تعليق الحكم بكل واحدة منهما نعم ، من روى " فإني أدخلتهما وهما طاهرتان " فقد يتمسك برواية هذا القائل ، من حيث إن قوله " أدخلتهما " إذا اقتضى كل واحدة منهما ، فقوله " وهما [ ص: 116 ] طاهرتان " حال من كل واحدة منهما ، فيصير التقدير : أدخلت كل واحدة في حال طهارتها ، وذلك إنما يكون بكمال الطهارة ، وهذا الاستدلال بهذه الرواية من هذا الوجه : قد لا يتأتى في رواية من روى " أدخلتهما طاهرتين " وعلى كل حال فليس الاستدلال بذلك بالقوي جدا ، لاحتمال الوجه الآخر في الروايتين معا ، اللهم إلا أن يضم إلى هذا دليل يدل على أنه لا يحصل الطهارة لإحداهما إلا بكمال الطهارة في جميع الأعضاء ، فحينئذ يكون ذلك الدليل - مع هذا الحديث - مستندا لقول القائلين بعدم الجواز ، أعني أن يكون المجموع هو المستند ، فيكون هذا الحديث دليلا على اشتراط طهارة كل واحدة منهما ، ويكون ذلك الدليل دالا على أنها لا تطهر إلا بكمال الطهارة ، ويحصل من هذا المجموع : حكم المسألة المذكورة في عدم الجواز ، وفي حديث حذيفة : تصريح بجواز المسح عن حدث البول ، وفي حديث صفوان بن عسال - بالعين المهملة وتشديد السين - ما يقتضي جوازه عن حدث الغائط ، وعن النوم أيضا ، ومنعه عن الجنابة .

التالي السابق


الخدمات العلمية