إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
296 - الحديث الثاني : عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال { جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت : يا رسول الله ، قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : لا قلت : فالشطر يا رسول الله ؟ قال : لا قلت : فالثلث قال : الثلث ، والثلث كثير إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها ، حتى ما تجعل في [ ص: 546 ] في امرأتك قال قلت : يا رسول الله أخلف بعد أصحابي ؟ قال : إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ، ويضر بك آخرون . اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة }


فيه دليل على عيادة الإمام أصحابه ، ودليل على ذكر شدة المرض لا في معرض الشكوى وفيه دليل على استحباب الصدقة لذوي الأموال وفيه دليل على مبادرة الصحابة ، وشدة رغبتهم في الخيرات ، لطلب سعد التصدق بالأكثر

، وفيه دليل على تخصيص الوصية بالثلث وفيه دليل على أن الثلث في حد الكثرة في باب الوصية وقد اختلف مذهب مالك في الثلث بالنسبة إلى مسائل متعددة ، ففي بعضها جعل في حد الكثرة ، وفي بعضها جعل في حد القلة ، فإذا جعل في حد الكثرة استدل بقوله صلى الله عليه وسلم { والثلث كثير } إلا أن هذا يحتاج إلى أمرين أحدهما : أن لا يعتبر السياق الذي يقتضي تخصيص كثرة الثلث بالوصية ، بل يؤخذ لفظا عاما والثاني : أن يدل دليل على اعتبار مسمى الكثرة في ذلك الحكم فحينئذ يحصل المقصود ، بأن يقال : الكثرة معتبرة في هذا الحكم ، والثلث كثير فالثلث معتبر ، ومتى لم تلمح كل واحدة من هاتين المقدمتين : لم يحصل المقصود .

مثال من ذلك : ذهب بعض أصحاب مالك إلى أنه إذا مسح ثلث رأسه في الوضوء : أجزأه ; لأنه كثير للحديث فيقال له : لم قلت إن مسمى الكثرة معتبر في المسح ؟ فإذا أثبته قيل له : لم قلت إن مطلق الثلث كثير ، وإن كل ثلث فهو كثير بالنسبة إلى كل حكم ؟ وعلى هذا فقس سائر المسائل ، فيطلب فيها تصحيح كل [ ص: 547 ] واحدة من المقدمتين

وفيه دليل على أن طلب الغني للورثة راجح على تركهم فقراء عالة يتكففون الناس ومن هذا : أخذ بعضهم استحباب الغض من الثلث ، وقالوا أيضا : ينظر إلى قدر المال في القلة والكثرة ، فتكون الوصية بحسب ذلك اتباعا للمعنى المذكور في الحديث ، من ترك الورثة أغنياء

وفيه دليل على أن الثواب في الإنفاق : مشروط بصحة النية في ابتغاء وجه الله وهذا دقيق عسر ، إذا عارضه مقتضى الطبع والشهوة ، فإن ذلك لا يحصل الغرض من الثواب ، حتى يبتغي به وجه الله . ويشق تخليص هذا المقصود مما يشوبه من مقتضى الطبع والشهوة

وقد يكون فيه دليل على أن الواجبات المالية إذا أديت على قصد الواجب وابتغاء وجه الله : أثيب عليها فإن قوله " حتى ما تجعل في في امرأتك " لا تخصيص له بغير الواجب ، ولفظة " حتى " ههنا تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأجر بالنسبة إلى المغيا ، كما يقال : جاء الحاج حتى المشاة ، ومات الناس حتى الأنبياء فيمكن أن يقال : سبب هذا : ما أشرنا إليه من توهم أن أداء الواجب قد يشعر بأنه لا يقتضي غيره ، وأن لا يزيد على تحصيل براءة الذمة ، ويحتمل أن يكون ذلك دفعا لما عساه يتوهم ، من أن إنفاق الزوج على الزوجة ، وإطعامه إياها ، واجبا أو غير واجب : لا يعارض تحصيل الثواب إذا ابتغى بذلك وجه الله كما جاء في حديث زينب الثقفية ، لما أرادت الإنفاق من عندها ، وقالت " لست بتاركتهم " وتوهمت أن ذلك مما يمنع الصدقة عليهم ، فرفع ذلك عنها ، وأزيل الوهم نعم في مثل هذا يحتاج إلى النظر في أنه هل يحتاج إلى نية خاصة في الجزئيات ، أم تكفي نية عامة ؟ وقد دل الشرع على الاكتفاء بأصل النية وعمومها في باب الجهاد ، حيث قال " لو مر بنهر ، ولا يريد أن يسقي به ، فشربت : كان له أجر " أو كما قال : فيمكن أن يعدى هذا إلى سائر الأشياء فيكتفى بنية مجملة أو عامة ولا يحتاج في الجزئيات إلى ذلك .

وقوله عليه السلام " ولعلك أن تخلف إلخ " تسلية لسعد على كراهيته للتخلف بسبب المرض الذي وقع له وفيه إشارة إلى تلمح هذا المعنى ، حيث تقع [ ص: 548 ] بالإنسان المكاره ، حتى تمنعه مقاصد له ، ويرجو المصلحة فيما يفعله الله تعالى وقوله عليه السلام { اللهم أمض لأصحابي هجرتهم } لعله يراد به : إتمام العمل على وجه لا يدخله نقض ، ولا نقض لما ابتدئ به .

وفيه دليل على تعظيم أمر الهجرة ، وأن ترك إتمامها مما يدخل تحت قوله " ولا تردهم على أعقابهم "

التالي السابق


الخدمات العلمية