إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
316 - الحديث الثاني : عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت : إني وهبت نفسي لك : فقامت طويلا فقال رجل يا رسول الله ، زوجنيها ، إن لم يكن لك بها حاجة فقال هل عندك من شيء تصدقها ؟ فقال : ما عندي إلا إزاري هذا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك فالتمس شيئا قال : ما أجد قال : التمس ولو خاتما من حديد فالتمس ، فلم يجد شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل معك شيء من القرآن ؟ قال : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : زوجتكها بما معك من القرآن } .


في الحديث دليل على عرض المرأة نفسها على من ترجى بركته .

وقولها " وهبت نفسي لك " مع سكوت النبي صلى الله عليه وسلم : دليل لجواز هبة المرأة نكاحها له صلى الله عليه وسلم كما جاء في الآية فإذا تزوجها على ذلك صح النكاح من غير [ ص: 568 ] صداق ، لا في الحال ولا في المآل ، ولا بالدخول ولا بالوفاة . وهذا هو موضع الخصوصية ، فإن غيره ليس كذلك ، فلا بد من المهر في النكاح ، إما مسمى أو مهر المثل .

واستدل به من أجاز من الشافعية انعقاد نكاحه صلى الله عليه وسلم بلفظ " الهبة " ومنهم من منعه إلا بلفظ النكاح " أو التزويج " كغيره .

وقوله صلى الله عليه وسلم هل عندك من شيء تصدقها ؟ " فيه دليل على طلب الصداق في النكاح وتسميته فيه .

وقوله صلى الله عليه وسلم إزارك ; إن أعطيتها جلست ولا إزار لك " دليل على الإرشاد إلى المصالح من كبير القوم ، والرفق برعيته .

وقوله " فالتمس ولو خاتما من حديد " دليل على الاستحباب ، لئلا يخلى العقد من ذكر الصداق ; لأنه أقطع للنزاع ، وأنفع للمرأة ، فإنه لو حصل الطلاق قبل الدخول : وجب لها نصف المسمى .

واستدل به من يرى جواز الصداق بما قل أو كثر وهو مذهب الشافعي وغيره ، ومذهب مالك : أن أقله ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم أو قيمتها . ومذهب أبي حنيفة : أن أقله عشرة دراهم ، ومذهب بعضهم : أن أقله خمسة دراهم

واستدل به على جواز اتخاذ خاتم الحديد ، وفيه خلاف لبعض السلف ، وقد قيل : عن بعض الشافعية كراهته .

وقوله صلى الله عليه وسلم " زوجتكها " اختلف في هذه اللفظة فمنهم من رواها كما ذكر ومنهم من رواها " ملكتها " ومنهم من رواها " ملكتكها " فيستدل بهذه الرواية من يرى انعقاد النكاح بلفظ التمليك ، إلا أن هذه لفظة واحدة في حديث واحد اختلف فيها . والظاهر القوي : أن الواقع أحد الألفاظ ، لا كلها . فالصواب في مثل هذا النظر إلى الترجيح بأحد وجوهه ونقل عن الدارقطني أن الصواب رواية من روى " زوجتكها " ، وأنه قال : وهم أكثر وأحفظ ، وقال بعض المتأخرين : ويحتمل صحة اللفظين ويكون أرجى لفظ التزويج أولا ، فملكها . ثم قال له " اذهب فقد ملكتها " بالتزويج السابق [ ص: 569 ] قلت : هذا أولا بعيد فإن سياق الحديث يقضي تعيين موضع هذه اللفظة التي اختلف فيها ، وأنها التي انعقد بها النكاح وما ذكره يقتضي وقوع أمر آخر انعقد به النكاح واختلاف موضع كل واحد من اللفظين وهو بعيد جدا وأيضا فلخصمه أن يعكس الأمر ، ويقول : كان انعقاد النكاح بلفظ التمليك .

وقوله عليه السلام " زوجتكها " إخبارا عما مضى بمعناه . فإن ذلك التمليك : هو تمليك نكاح .

وأيضا : فإن رواية من روى " ملكتها " التي لم يتعرض لتأويلها : يبعد فيها ما قال ، إلا على سبيل الإخبار عن الماضي بمعناه ولخصمه أن يعكسه ، وإنما الصواب في مثل هذا : أن ينظر إلى الترجيح ، والله أعلم .

وفي لفظ الحديث : متمسك لمن يرى جواز النكاح بتعليم القرآن ، والروايات مختلفة في هذا الموضع أيضا - أعني قوله " بما معك " والناس متنازعون أيضا في تأويله ، فمنهم من يرى أن " الباء " هي التي تقتضي المقابلة في العقود ، كقولك : بعتك كذا بكذا ، وزوجتك بكذا ومنهم من يراها باء السببية ، أي بسبب ما معك من القرآن ، إما بأن يخلى النكاح عن العوض على سبيل التخصيص لهذا الحكم بهذه الواقعة ، وإما بأن يخلى عن ذكره فقط ، ويثبت فيه حكم الشرع في أمر الصداق .

التالي السابق


الخدمات العلمية