إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
319 - الحديث الثاني : عن فاطمة بنت قيس " أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة ، وهو غائب - وفي رواية : { طلقها ثلاثا - فأرسل إليها وكيله بشعير ، فسخطته . فقال : والله ما لك علينا من شيء : فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فقال : ليس لك عليه نفقة } - وفي لفظ : { ولا سكنى - فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ، ثم قال : تلك امرأة يغشاها أصحابي ، اعتدي عند ابن أم مكتوم . فإنه رجل أعمى ، تضعين ثيابك ، فإذا حللت فآذنيني . قالت : فلما حللت ذكرت له : أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أبو جهم : فلا يضع عصاه عن عاتقه . وأما معاوية : فصعلوك لا مال له ، [ ص: 574 ] انكحي أسامة بن زيد ، فكرهته ثم قال : انكحي أسامة بن زيد ، فنكحته . فجعل الله فيه خيرا ، واغتبطت به } .


قوله " طلقها ألبتة " يحتمل أن يكون حكاية للفظ أوقع به الطلاق . وقوله " طلقها ثلاثا " تعبير عما وقع من الطلاق بلفظ " ألبتة " . وهذا على مذهب من يجعل لفظ " ألبتة " للثلاث ، ويحتمل أن يكون اللفظ الذي وقع به الطلاق هو الطلاق الثلاث ، كما جاء في الرواية الأخرى ويكون قوله " طلقها ألبتة " تعبيرا عما وقع من الطلاق بلفظ " الطلاق ثلاثا " وهذا يتمسك به من يرى جواز إيقاع الطلاق الثلاث دفعة ، لعدم الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم . إلا أنه يحتمل أن يكون قوله " طلقها ثلاثا " أي أوقع طلقة تتم بها الثلاث . وقد جاء في بعض الروايات " ثلاث تطليقات " .

وقوله " وهو غائب " فيه دليل على وقوع الطلاق في غيبة المرأة ، وهو مجمع عليه . وقوله " فأرسل إليها وكيله بشعير " يحتمل أن يكون مرفوعا ويكون الوكيل هو المرسل . ويحتمل أن يكون منصوبا ويكون الوكيل هو المرسل . وقد عين بعضهم للرواية : الاحتمال الأول ، والضمير في قوله " وكيله " يعود على أبي عمرو بن حفص . وقيل : اسمه كنيته . وقيل : اسمه عبد الحميد . وقيل اسمه أحمد . وقال بعضهم : أبو حفص بن عمرو وقيل : أبو حفص بن المغيرة . ومن قال " أبو عمرو بن حفص " أكثر .

[ ص: 575 ] وقوله عليه السلام " ليس لك عليه نفقة " هذا مذهب الأكثرين ، إذا كانت البائن حائلا وأوجبها أبو حنيفة .

وقوله " ولا سكنى " هو مذهب أحمد ، وأوجب الشافعي ومالك السكنى لقوله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم } وأما سقوط النفقة : فأخذوه من مفهوم قوله تعالى { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن } فمفهومه : إذا لم يكن حوامل لا ينفق عليهن . وقد نوزعوا في تناول الآية للبائن . أعني قوله " أسكنوهن " ومن قال : لها السكنى فهو محتاج إلى الاعتذار عن حديث فاطمة . فقيل في العذر : ما حكوه عن سعيد بن المسيب " أنها كانت امرأة لسنة استطالت على أحمائها ، فأمرها بالانتقال " . وقيل : لأنها خافت في ذلك المنزل . وقد جاء في كتاب مسلم { أخاف أن يقتحم علي } .

واعلم أن سياق الحديث على خلاف هذه التأويلات فإنه يقتضي أن سبب الحكم : أنها اختلفت مع الوكيل بسبب سخطها الشعير ، وأن الوكيل ذكر : أن لا نفقة لها وأن ذلك اقتضى أن سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابها بما أجاب . وذلك يقتضي : أن التعليل بسبب ما جرى من الاختلاف في وجود النفقة لا بسبب هذه الأمور التي ذكرت فإن قام دليل أقوى وأرجح من هذا الظاهر عمل به .

وقوله " فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك " قيل : اسمها غزية وقيل : غزيلة وهي قرشية عامرية وقيل : إنها أنصارية .

وقوله عليه السلام { تلك امرأة يغشاها أصحابي } قيل : كانوا يزورونها ، ويكثرون من التردد إليها لصلاحها . ففي الاعتداد عندها حرج ، ومشقة في التحفظ من الرؤية : إما رؤيتهم لها ، أو رؤيتها لهم ، على مذهب من يرى تحريم نظر المرأة للأجنبي ، أو لهما معا .

وقوله " اعتدي عند ابن أم مكتوم . فإنه رجل أعمى " قد يحتج به من يروي جواز نظر المرأة إلى الأجنبي ، فإنه علل بالعمى وهو مقتض لعدم رؤيته ، لا لعدم رؤيتها . فيدل على أن جواز الاعتداد عنده : معلل بالعمى المنافي لرؤيته [ ص: 576 ] واختار بعض المتأخرين تحريم نظر المرأة إلى الأجنبي ، مستدلا بقوله تعالى { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } وفيه نظر ; لأن لفظة " من " للتبعيض ولا خلاف أنها إذا خافت الفتنة حرم عليها النظر . فإذا هذه حالة يجب فيها الغض فيمكن حمل الآية عليها ولا تدل الآية حينئذ على وجوب الغض مطلقا ، أو في غير هذه الحالة وهذا إن لم يكن ظاهر اللفظ : فهو محتمل له احتمالا جيدا ، يتوقف معه الاستدلال على محل الخلاف .

وقال هذا المتأخر : وأما حديث فاطمة بنت قيس ، مع ابن أم مكتوم : فليس فيه إذن لها في النظر إليه ، بل فيه : أنها تأمن عنده من نظر غيره . وهي مأمورة بغض بصرها ، فيمكنها الاحتراز عن النظر بلا مشقة ، بخلاف مكثها في بيت أم شريك . وهذا الذي قاله : إعراض عن التعليل بعماه وما ذكره من المشقة : موجود في نظرها إليه ، مع مخالطتها له في البيت ، ويمكن أن يقال : إنما علل بالعمى لكونها تضع ثيابها من غير رؤيته لها فحينئذ يخرج التعليل عن الحكم باعتدادها عنده .

وقوله عليه السلام { فإذا حللت فآذنيني } ممدود الهمز ، أي أعلميني واستدل به على جواز التعريض بخطبة البائن ، وفيه خلاف عند الشافعية .

قوله عليه السلام " أما أبو جهم : فلا يضع عصاه عن عاتقه " فيه تأويلان :

أحدهما : أنه كثير الأسفار .

والثاني : أنه كثير الضرب ويترجح هذا الثاني بما جاء في بعض روايات مسلم { أنه ضراب للنساء } .

" وفي الحديث دليل على جواز ذكر الإنسان بما فيه عند النصيحة . ولا يكون [ ص: 577 ] من الغيبة المحرمة وهذا أحد المواضع التي أبيحت فيها الغيبة لأجل المصلحة . و " العاتق " ما بين العنق والمنكب .

وفي الحديث : دليل على جواز استعمال مجاز المبالغة ، وجواز إطلاق مثل هذه العبارة ، فإن أبا جهم : لا بد وأن يضع عصاه حالة نومه وأكله ، وكذلك معاوية لا بد وأن يكون له ثوب يلبسه مثلا ، لكن اعتبر حال الغلبة ، وأهدر حال النادر واليسير . وهذا المجاز فيما قيل في أبي جهم : أظهر منه فيما قيل في معاوية ; لأن لنا أن نقول : إن لفظة " المال " انتقلت في العرف عن موضوعها الأصلي إلى ما له قدر من المملوكات ، أو ذلك مجاز شائع يتنزل منزلة النقل ، فلا يتناول الشيء اليسير جدا ، بخلاف ما قيل في أبي جهم . وقوله " انكحي أسامة بن زيد " فيه جواز نكاح القرشية للمولى . وكراهتها له : إما لكونه مولى ، أو لسواده ، و " اغتبطت " مفتوح التاء والباء وأبو جهم المذكور في الحديث : مفتوح الجيم ساكن الهاء ، وهو غير أبي الجهيم الذي في حديث التيمم .

التالي السابق


الخدمات العلمية