إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
341 - الحديث الثالث : عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال { انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر ، وهي يومئذ صلح ، فتفرقا ، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل - وهو يتشحط في دمه قتيلا - فدفنه ، ثم قدم المدينة ، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كبر ، كبر - وهو أحدث القوم - فسكت فتكلما ، فقال : أتحلفون وتستحقون قاتلكم ، أو [ ص: 605 ] صاحبكم ؟ قالوا : وكيف نحلف ، ولم نشهد ، ولم نر ؟ قال : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا قالوا : كيف بأيمان قوم كفار ؟ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده . وفي حديث حماد بن زيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع برمته ، قالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟ قالوا : فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ؟ قالوا : يا رسول الله ، قوم كفار وفي حديث سعيد بن عبيد فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه ، فوداه بمائة من إبل الصدقة } .


فيه مسائل ، الأولى : " حثمة " بفتح الحاء المهملة وسكون الثاء المثلثة ، و " حويصة " بضم الحاء المهملة وسكون الياء ، وقد تشدد مكسورة ، و " محيصة " بضم الميم وفتح الحاء المهملة وسكون الياء وقد تشدد .

الثانية : هذا الحديث أصل في القسامة وأحكامها ، و " القسامة " بفتح القاف : هي اليمين التي يحلف بها المدعي للدم عند اللوث . وقيل : إنها في [ ص: 606 ] اللغة اسم للأولياء الذين يحلفون على دعوى الدم .

وموضع جريان القسامة : أن يوجد قتيل لا يعرف قاتله ، ولا تقوم عليه بينة ويدعي ولي القتيل قتله على واحد أو جماعة ، ويقترن بالحال : ما يشعر بصدق الولي ، على تفصيل في الشروط عند الفقهاء أو بعضهم ، ويقال له " اللوث " فيحلف على ما يدعيه .

الثالثة : قد ذكرنا " اللوث " ومعناه ، وفرع الفقهاء له صورا : منها : وجدان القتيل في محلة ، أو قرية بينه وبين أهلها عداوة ظاهرة ووصف بعضهم القرية ههنا : بأن تكون صغيرة . واشترط : أن لا يكون معهم ساكن من غيرهم ، لاحتمال أن القتل من غيرهم حينئذ . الرابعة : في الحديث " وهو يتشحط في دمه قتيلا " وذلك يقتضي وجود الدم صريحا ، والجراحة ظاهرة . ولم يشترط الشافعية في اللوث " لا جراحة ولا دما ، وعن أبي حنيفة : أنه إن لم تكن جراحة ولا دم فلا قسامة ، وإن وجدت الجراحة ثبتت القسامة ، وإن وجد الدم دون الجراحة ، فإن خرج من أنفه فلا قسامة ، وإن خرج من الفم ، أو الأذن ثبتت القسامة هكذا حكى واستدل الشافعية بأن القتل قد يحصل بالخنق وعصر الخصية ، والقبض على مجرى النفس فيقوم أثرهما مقام الجراحة . الخامسة : " عبد الرحمن بن سهل " هو أخو القتيل ، " ومحيصة وحويصة " ابنا مسعود : ابنا عمه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكبر بقوله " كبر كبر " فيقال في هذا : إن الحق لعبد الرحمن لقربه والدعوى له ، فكيف عدل عنه ؟ وقد يجاب عن هذا : بأن الكلام ليس هو حقيقة الدعوى التي يترتب عليها الحكم ، بل هو كلام لشرح الواقعة ، وتبيين حالها ، أو يقال : إن عبد الرحمن يفوض الكلام والدعوى إلى من هو أكبر منه .

السادسة : مذهب أهل الحجاز ، أن المدعي في محل القسامة يبدأ به في اليمين ، كما اقتضاه الحديث ، ونقل عن أبي حنيفة خلافه وكأنه قدم المدعي ههنا - على خلاف قياس الخصومات - بما انضاف إلى دعواه من شهادة اللوث ، مع عظم قدر الدماء ، ولينبه على أنه ليس كل واحد من هذين المعنيين بعلة مستقلة بل ينبغي أن يجعل كل واحد جزء علة .

[ ص: 607 ] السابعة : اليمين المستحقة في القسامة : خمسون يمينا وتكلم الفقهاء في علة تعدد اليمين في جانب المدعي فقيل : لأن تصديقه على خلاف الظاهر ، فأكد بالعدد ، وقيل : سببه تعظيم شأن الدم ، وبني على العلتين : ما إذا كانت الدعوى في غير محل اللوث ، وتوجهت اليمين على المدعى عليه ففي تعددها خمسين : قولان للشافعي .

الثامنة : قوله عليه السلام { فتبرئكم يهود بخمسين يمينا } فيه دليل على أن المدعي في محل القسامة إذا نكل : أنه تغلظ اليمين بالتعداد على المدعى عليه . وفي هذه المسألة طريقان إحداهما : إجراء قولين فإن نكوله يبطل اللوث ، فكأن لا لوث .

والثانية : - وهي الأصح - : القطع بالتعدد للحديث فإنه جعل أيمان المدعى عليهم كأيمان المدعين . .

التاسعة : قوله " تستحقون قاتلكم ، أو صاحبكم " وفي رواية " دم صاحبكم " يستدل به من يرى القتل بالقسامة ، وهو مذهب مالك وللشافعي قولان ، إذا وجد ما يقتضي القصاص في الدعوى ، والمكافأة في القتل :

أحدهما : كمذهب مالك ، وهو قديم قوليه ، تشبيها لهذه اليمين المردودة .

والثاني : وهو جديد قوليه - أن لا يتعلق بها قصاص ، واستدل له من الحديث بقوله عليه السلام { إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن تؤذنوا بحرب } فإنه يدل على أن المستحق دية لا قود ; ولأنه لم يتعرض للقصاص ، والاستدلال بالرواية التي فيها " فيدفع برمته " أقوى من الاستدلال بقوله عليه السلام " فتستحقون دم صاحبكم " ; لأن قولنا " يدفع برمته " يستعمل في دفع القاتل للأولياء للقتل . ولو أن الواجب الدية لتبعد استعمال هذا اللفظ فيها ، وهو في استعماله في تسليم القاتل أظهر ، والاستدلال بقوله " دم صاحبكم " أظهر من الاستدلال بقوله " فتستحقون قاتلكم ، أو صاحبكم " ; لأن هذا اللفظ الأخير لا بد فيه من إضمار ، فيحتمل أن يضمر " دية صاحبكم " احتمالا ظاهرا وأما بعد التصريح بالدم : فتحتاج إلى [ ص: 608 ] تأويل اللفظ بإضمار " بدل صاحبكم " والإضمار على خلاف الأصل ، ولو احتيج إلى إضمار لكان حمله على ما يقتضي إراقة الدم أقرب ، والمسألة مستشنعة عند المخالفين لهذا المذهب أو بعضهم فربما أشار بعضهم إلى احتمال أن يكون " دم صاحبكم " هو القتيل ، لا القاتل ، ويردده قوله " دم صاحبكم أو قاتلكم " .

العاشرة : لا يقتل بالقسامة عند مالك إلا واحد ، خلافا للمغيرة بن عبد الرحمن من أصحابه ، وقد يستدل لمالك بقوله عليه السلام { يقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع برمته } فإنه لو قتل أكثر من واحد ، لم يتعين أن يقسم على واحد منهم . الحادية عشرة : قوله " برمته " مضموم الراء المهملة مشدد الميم المفتوحة ، وهو مفسر بإسلامه للقتل ، وفي أصله في اللغة قولان أحدهم : إن " الرمة " حبل يكون في عنق البعير ، فإذا قيد أعطي به .

والثاني : إنه حبل يكون في عنق الأسير ، فإذا أسلم للقتل سلم به .

الثانية عشرة : إذا تعدد المدعون في محل القسامة ، ففي كيفية أيمانهم قولان للشافعي :

أحدهما : أن كل واحد يحلف خمسين يمينا .

الثاني : أن الجميع يحلفون خمسين يمينا ، وتوزع الأيمان عليهم ، وإن وقع كسر تمم ، فلو كان الوارث اثنين مثلا ، حلف كل واحد خمسة وعشرين يمينا ، وإن اقتضى التوزيع كسرا في صورة أخرى - كما إذا كانوا ثلاثة - كملنا الكسر ، فحلف سبعة عشر يمينا .

الثالثة عشرة : قوله عليه السلام " يحلف خمسون منكم " قد يؤخذ منه مسألة ما إذا كانوا أكثر من خمسين . .

الرابعة عشرة : الحديث ورد بالقسامة في قتيل حر ، وهل تجري القسامة في بدل العبد ؟ فيه قولان للشافعي وكأن منشأ الخلاف : أن هذا الوصف - أعني الحرية - هل له مدخل في الباب ، أو اعتبار ، أم لا ؟ فمن اعتبره يجعله جزءا من العلة ، إظهارا لشرف الحرية ، ومن لم يعتبره ، قال : إن السبب في القسامة : إظهار الاحتياط في الدماء والصيانة من إضاعتها . [ ص: 609 ] وهذا القدر شامل لدم الحر ودم العبد ، وألغي وصف " الحرية " بالنسبة إلى هذا المقصود ، وهو جيد . .

الخامسة عشرة : الحديث وارد في قتل النفس ، وهل يجري مجراه ما دونها من الأطراف والجراح ؟ مذهب مالك : لا ، وفي مذهب الشافعي قولان ، ومنشأ الخلاف فيها أيضا : ما ذكرناه من أن هذا الوصف - أعني كونه نفسا - هل له أثر أو لا ؟ وكون هذا الحكم على خلاف القياس مما يقوي الاقتصار على مورده . .

السادسة عشرة : قيل فيه : إن الحكم بين المسلم والذمي كالحكم بين المسلمين في الاحتساب بيمينه ، والاكتفاء بها ، وأن يمين المشرك مسموعة على المسلمين ، كيمين المسلم عليه ومن نقل من الناس عن مالك : أن أيمانهم لا تسمع على المسلمين كشهادتهم فقد أخطأ قطعا في هذا الإطلاق ، بل هو خلاف الإجماع الذي لا يعرف غيره ; لأن في الخصومات : إذا اقتضت توجه اليمين على المدعى عليه حلف ، وإن كان كافرا ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية