إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
[ ص: 614 ] 346 - الحديث السابع : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال { اقتتلت امرأتان من هذيل . فرمت إحداهما الأخرى بحجر ، فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن دية جنينها غرة - عبد ، أو وليدة - وقضى بدية المرأة على عاقلتها ، وورثها ولدها ومن معهم ، فقام حمل بن النابغة الهذلي ، فقال : يا رسول الله ، كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ، ولا نطق ولا استهل ، فمثل ذلك يطل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما هو من إخوان الكهان } من أجل سجعه الذي سجع .


قوله : " فقتلتها وجنينها " ليس فيه ما يشعر بانفصال الجنين ولعله لا يفهم منه ، بخلاف حديث عمر الماضي . فإنه صرح بالانفصال . والشافعية شرطوا في وجوب الغرة : الانفصال ميتا ، بسبب الجناية . فلو ماتت الأم ولم ينفصل جنين : لم يجب شيء . قالوا : لأنا لا نتيقن وجود الجنين فلا نوجب شيئا بالشك ، وعلى هذا : هل المعتبر نفس الانفصال ، أو أن ينكشف ، ويتحقق حصول الجنين ؟ فيه وجوه أصحهما : الثاني . وينبني على هذا : ما إذا قدت بنصفين ، وشوهد الجنين في بطنها ولم ينفصل . وما إذا خرج رأس الجنين بعد ما ضرب وماتت الأم لذلك ، ولم ينفصل . وبمقتضى هذا : يحتاجون إلى تأويل هذه الرواية ، وحملها [ ص: 615 ] على أنه انفصل ، وإن لم يكن في اللفظ ما يدل عليه .

مسألة أخرى : الحديث علق الحكم بلفظ " الجنين " والشافعية : فسروه بما ظهر فيه صورة الآدمي ، من يد أو إصبع أو غيرهما ، ولو لم يظهر شيء من ذلك ، وشهدت البينة بأن الصورة خفية ، يختص أهل الخبرة بمعرفتها وجبت الغرة أيضا ، وإن قالت البينة : ليست فيه صورة خفية ، ولكنه أصل الآدمي : ففي ذلك اختلاف والظاهر عند الشافعية : أنه لا تجب الغرة وإن شكت البينة في كونه أصل الآدمي لم تجب بلا خلاف . وحظ الحديث : أن الحكم مرتب على اسم " الجنين " فما تخلق فهو داخل فيه وما كان دون ذلك فلا يدخل تحته إلا من حيث الوضع اللغوي فإنه مأخوذ من الاجتنان . وهو الاختفاء فإن خالفه العرف العام فهو أولى منه وإلا اعتبر الوضع . وفي الحديث : دليل على أنه لا فرق في الغرة بين الذكر والأنثى ويجبر المستحق على قبول الرقيق من أي نوع كان ، وتعتبر فيه السلامة من العيوب المثبتة للرد في البيع واستدل بعضهم على ذلك بأنه ورد في الخبر لفظ " الغرة " قال : وهي الخيار . وليس المعيب من الخيار ، وفيه أيضا من الإطلاق في العبد والأمة أنه لا يتقدر للغرة قيمة وهو وجه للشافعية والأظهر عندهم : أنه ينبغي أن تبلغ قيمتها نصف عشر الدية وهي خمس من الإبل وقيل : إن ذلك يروى عن عمر وزيد بن ثابت وفيه دليل على أنه إذا وجدت الغرة بالصفات المعتبرة أنه لا يلزم المستحق قبول غيرها ، لتعيين حقه في ذلك في الحديث . وأما إذا عدمت فليس في الحديث ما يشعر بحكمه وقد اختلفوا فيه فقيل : الواجب خمس من الإبل وقيل : يعدل إلى القيمة عند الفقد وقد قدمنا الإشارة إلى أن الحديث بإطلاقه لا يقتضي تخصيص سن دون سن والشافعية قالوا : لا يجبر على قبول ما لم يبلغ سبعا ، لحاجته إلى التعهد ، وعدم استقلاله وأما في طرف الكبر ، فقيل : إنه لا يؤخذ الغلام بعد خمس عشرة سنة ، ولا الجارية بعد عشرين سنة وجعل بعضهم الحد : عشرين والأظهر : أنهما يؤخذان ، وإن جاوزا الستين ، ما لم يضعفا ويخرجا عن الاستقلال بالهرم [ ص: 616 ] لأن من أتى بما دل الحديث عليه ومسماه فقد أتى بما وجب فلزم قبوله ، إلا أن يدل دليل على خلافه . وقد أشرنا إلى أن التقييد بالسن ليس من مقتضى لفظ الحديث .

مسألة أخرى : الحديث ورد في جنين حرة وهذا الحديث الثاني ليس فيه عموم يدخل تحته جنين الأمة بل هو حكم وارد في جنين الحرة من غير لفظ عام . وأما حديث عمر السابق - وإن كان في لفظ الاستشارة ما يقتضي العموم ، لقوله " في إملاص المرأة " لكن لفظ الراوي يقتضي أنه شهد واقعة مخصوصة ، فعلى هذا ينبغي أن يؤخذ حكم جنين الأمة من محل آخر ، وعند الشافعي : الواجب في جنين الرقيق عشر قيمة الأم ، ذكرا كان أو أنثى ، وكذلك نقول : إن الحديث وارد في جنين محكوم بإسلامه ولا يتعرض لجنين محكوم له بالتهود أو التنصر تبعا ، ومن الفقهاء من قاسه على الجنين المحكوم بإسلامه تبعا ، وهذا مأخوذ من القياس ، لا من الحديث . وقوله " قضى بدية المرأة على عاقلتها " إجراء لهذا القتل مجرى غير العمد و " حمل " بفتح الحاء المهملة والميم معا " وطل " دم القتيل : إذا أهدر ، ولم يؤخذ فيه شيء وقوله عليه السلام " إنما هو من إخوان الكهان إلخ " فيه إشارة إلى ذم السجع وهو محمول على السجع المتكلف لإبطال حق ، أو تحقيق باطل أو لمجرد التكلف ، بدليل أنه قد ورد السجع في كلام النبي صلى الله عليه وسلم

وفي كلام غيره من السلف ويدل على ما ذكرناه : أنه شبهه بسجع الكهان ; لأنهم كانوا يروجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين فيستميلون بها القلوب ، ويستصغون إليها الأسماع قال بعضهم : فأما إذا كان وضع السجع في مواضعه من الكلام فلا ذم فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية