إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
352 - الحديث الرابع : عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال { أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد - فناداه : يا رسول الله ، إني زنيت ، فأعرض عنه . فتنحى تلقاء وجهه فقال : يا رسول الله ، إني زنيت ، فأعرض عنه ، حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات . فلما شهد على نفسه أربع شهادات : دعاه رسول الله ، فقال : أبك جنون ؟ قال : لا . قال : فهل أحصنت ؟ قال : نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهبوا به فارجموه } . قال ابن شهاب : فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن . سمع جابر بن عبد الله يقول " كنت فيمن رجمه ، فرجمناه بالمصلي ، فلما [ ص: 625 ] أذلقته الحجارة هرب ، فأدركناه بالحرة ، فرجمناه " .


" الرجل " هو ماعز بن مالك . روى قصته جابر بن سمرة ، وعبد الله بن عباس ، وأبو سعيد الخدري ، وبريدة بن الحصيب الأسلمي . ذهب الحنفية إلى أن تكرار الإقرار بالزنا أربعا شرط لوجوب إقامة الحد ، ورأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث - إنما أخر الحد إلى تمام الأربع ; لأنه لم يجب قبل ذلك . وقالوا : لو وجب بالإقرار مرة لما أخر الرسول صلى الله عليه وسلم الواجب ، وفي قول الراوي " فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله " إلخ إشعار بأن الشهادة أربعا هي العلة في الحكم ، ومذهب الشافعي ومالك ومن تبعهما أن الإقرار مرة واحدة موجب للحد ، قياسا على سائر الحقوق فكأنهم لم يروا أن تأخير الحد إلى تمام الإقرار أربعا لما ذكره الحنفية وكأنه من باب الاستثبات والتحقيق لوجود السبب ; لأن مبنى الحد على الاحتياط في تركه ودرئه بالشبهات . وفي الحديث دليل على سؤال الحاكم في الواقعة عما يحتاج إليه في الحكم وذلك من الواجبات ، كسؤاله عليه السلام عن الجنون ليتبين العقل ، وعن الإحصان ليثبت الرجم ، ولم يكن بد من ذلك فإن الحد متردد بين الجلد والرجم : ولا يمكن الإقدام على أحدهما إلا بعد تبين سببه . وقوله عليه السلام " أبك جنون " ويمكن أن يسأل عنه ، فيقال : إن إقرار المجنون غير معتبر فلو كان مجنونا لم يفد قوله : إنه ليس به جنون فما وجه الحكمة في سؤاله عن ذلك ؟ بل سؤال غيره ممن يعرفه هو المؤثر . وجوابه : أنه قد ورد أنه سأل غيره عن ذلك . وعلى تقدير أن لا يكون وقع سؤال غيره ، فيمكن أن يكون سؤاله ليتبين بمخاطبته ومراجعته تثبته وعقله ، فيبني [ ص: 626 ] الأمر عليه ، لا على مجرد إقراره بعدم الجنون . وفي الحديث : دليل على تفويض الإمام الرجم إلى غيره ولفظه يشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحضره .

فيؤخذ منه : عدم حضور الإمام الرجم ، وإن كان الفقهاء قد استحبوا أن يبدأ الإمام بالرجم إذا ثبت الزنا بالإقرار ، ويبدأ الشهود به إذا ثبت بالبينة ، وكأن الإمام لما كان عليه التثبت والاحتياط قيل له : ابدأ ، ليكون ذلك زاجرا عن التساهل في الحكم بالحدود ، وداعيا إلى غاية التثبت وأما في الشهود : فظاهر ; لأن قتله بقولهم . وقوله " فلما أذلقته الحجارة " أي بلغت منه الجهد ، وقيل : عضته ، وأوجعته ، وأوهنته . وقوله " هرب " فيه دليل على عدم الحفر له .

التالي السابق


الخدمات العلمية