إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
23 - الحديث الثاني : عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله عنه قال { شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه : أنه يجد الشيء في الصلاة ، فقال : لا ينصرف حتى يسمع صوتا ، أو يجد ريحا } .


" الشيء " المشار إليه : هي الحركة التي يظن أنها حدث ، والحديث أصل [ ص: 120 ] في إعمال الأصل ، وطرح الشك ، وكأن العلماء متفقون على هذه القاعدة ، لكنهم يختلفون في كيفية استعمالها ، مثاله : هذه المسألة التي دل عليها الحديث ، وهي " من شك في الحدث بعد سبق الطهارة " فالشافعي أعمل الأصل السابق ، وهو الطهارة ، وطرح الشك الطارئ ، وأجاز الصلاة في هذه الحالة ، ومالك منع من الصلاة مع الشك في بقاء الطهارة ، وكأنه أعمل الأصل الأول ، وهو ترتب الصلاة في الذمة ، ورأى أن لا يزال إلا بطهارة متيقنة .

وهذا الحديث ظاهر في إعمال الطهارة الأولى ، وإطراح الشك ، والقائلون بهذا اختلفوا ، فالشافعي اطرح الشك مطلقا ، وبعض المالكية اطرحه بشرط أن يكون في الصلاة ، وهذا له وجه حسن ، فإن القاعدة : أن مورد النص إذا وجد فيه معنى يمكن أن يكون معتبرا في الحكم ، فالأصل يقتضي اعتباره ، وعدم إطراحه .

وهذا الحديث يدل على إطراح الشك إذا وجد في الصلاة ، وكونه موجودا في الصلاة : معنى يمكن أن يكون معتبرا ، فإن الدخول في الصلاة مانع من إبطالها ، على ما اقتضاه استدلالهم في مثل هذا بقوله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } فصارت صحة الصلاة أصلا سابقا على حالة الشك ، مانعا من الإبطال ، ولا يلزم من إلغاء الشك مع وجود المانع من اعتباره إلغاؤه مع عدم المانع ، وصحة العمل ظاهرا : معنى يناسب عدم الالتفات إلى الشك ، يمكن اعتباره .

فلا ينبغي إلغاؤه ، ومن أصحاب مالك من قيد هذا الحكم - أعني إطراح هذا الشك - بقيد آخر ، وهو أن يكون الشك في سبب حاضر ، كما جاء في الحديث ، حتى لو شك في تقدم الحدث على وقته الحاضر لم تبح له الصلاة ، ومأخذ هذا : ما ذكرناه من أن مورد النص ينبغي اعتبار أوصافه التي ينبغي اعتبارها ، ومورد النص : اشتمل على هذا الوصف ، وهو كونه شك في سبب حاضر ، فلا يلحق به ما ليس في معناه ، من الشك في سبب متقدم ، إلا أن هذا القول أضعف قليلا من الأول ; لأن صحة العمل ظاهرة ، وانعقاد الصلاة : سبب مانع مناسب لإطراح الشك ، وأما كون السبب ناجزا : فإما غير مناسب ، أو مناسب مناسبة ضعيفة [ ص: 121 ]

والذي يمكن أن يقرر به قول هذا القائل : أن يرى أن الأصل الأول - وهو ترتب الصلاة في ذمته - معمول به ، فلا يخرج عنه إلا بما ورد فيه النص ، وما بقي يعمل فيه بالأصل ، ولا يحتاج في المحل الذي خرج عن الأصل بالنص إلى مناسبة ، كما في صور كثيرة عمل فيها العلماء هذا العمل ، أعني أنهم اقتصروا على مورد النص إذا خرج عن الأصل أو القياس ، من غير اعتبار مناسبة ، وسببه : أن إعمال النص في مورده لا بد منه ، والعمل بالأصل أو القياس المطرد : مسترسل ، لا يخرج عنه إلا بقدر الضرورة ، ولا ضرورة فيما زاد على مورد النص ، ولا سبيل إلى إبطال النص في مورده ، سواء كان مناسبا أو لا ، وهذا يحتاج معه إلى إلغاء وصف كونه في صلاة ، ويمكن هذا القائل منع ذلك بوجهين .

أحدهما : أن يكون هذا القائل نظر إلى ما في بعض الروايات ، وهو أن يكون الشك لمن هو في المسجد ، وكونه في المسجد أعم من كونه في الصلاة ، فيؤخذ من هذا إلغاء ذلك القيد الذي اعتبره القائل الآخر ، وهو كونه في الصلاة ، ويبقى كونه شاكا في سبب ناجز ، إلا أن القائل الأول له أن يحمل كونه في المسجد على كونه في الصلاة ، فإن الحضور في المسجد يراد للصلاة ، فقد يلازمها فيعبر به عنها ، وهذا - وإن كان مجازا - إلا أنه يقوى إذا اعتبر الحديث الأول وكان حديثا واحدا مخرجه من جهة واحدة ، فحينئذ يكون ذلك الاختلاف اختلافا في عبارة الراوي بتفسير أحد اللفظين بالآخر ، ويرجع إلى أن المراد : كونه في الصلاة .

الثاني : وهو أقوى من الأول - ما ورد في الحديث { إن الشيطان ينفخ بين أليتي الرجل } وهذا المعنى يقتضي مناسبة السبب الحاضر لإلغاء الشك ، وإنما أوردنا هذه المباحث ليتلمح الناظر مأخذ العلماء في أقوالهم ، فيرى ما ينبغي ترجيحه فيرجحه ، وما ينبغي إلغاؤه فيلغيه ، والشافعي رحمه الله ألغى القيدين معا - أعني كونه في الصلاة ، وكونه في سبب ناجز - واعتبر أصل الطهارة .

التالي السابق


الخدمات العلمية