إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
[ ص: 641 ] 364 - الحديث الرابع : عن أبي هريرة رضي الله عنه { عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال سليمان بن داود عليهما السلام : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ، تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله ، فقيل له : قل : إن شاء الله ، فلم يقل ، فطاف بهن ، فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة : نصف إنسان . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قال إن شاء الله : لم يحنث ، وكان دركا لحاجته . }


قوله " قيل له : قل إن شاء الله " يعني قال له الملك فيه دليل : على أن إتباع اليمين بالله بالمشيئة : يرفع حكم اليمين لقوله عليه السلام " لم يحنث " وفيه نظر .

وهذا ينقسم إلى ثلاثة أوجه : أحدها : أن ترد المشيئة إلى الفعل المحلوف عليه ، كقوله مثلا " لأدخلن الدار إن شاء الله " وأراد : رد المشيئة إلى الدخول أي إن شاء الله دخولها وهذا هو الذي ينفعه الاستثناء بالمشيئة ، ولا يحنث إن لم يفعل .

الثاني : أن يرد الاستثناء بالمشيئة إلى نفس اليمين فلا ينفعه الرجوع ، لوقوع اليمين ، وتيقن مشيئة الله .

والثالث : أن يذكر على سبيل الأدب في تفويض الأمر إلى مشيئة الله ، وامتثالا لقوله تعالى { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } لا على قصد معنى التعليق ، وهذا لا يرفع حكم اليمين .

ولا تعلق للحديث بتعليق الطلاق بالمشيئة ، والفقهاء مختلفون فيه ومالك يفرق بين الطلاق واليمين بالله ويوقع الطلاق ، وإن علق بالمشيئة ، بخلاف اليمين بالله ; لأن الطلاق حكم قد شاءه الله ، وهو مشكل جدا تركنا التعرض لتقريره لعدم تعلقه بالحديث . وقد يؤخذ من الحديث : أن الكناية في اليمين مع النية ، كالصريح في حكم [ ص: 642 ] اليمين ، من حيث إن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حكاه عن سليمان عليه السلام وهو قوله " لأطوفن " ليس فيه التصريح باسم الله تعالى ، لكنه مقدر ، لأجل اللازم التي دخلت على قوله " لأطوفن " ، فإن كان قد قيل بذلك وأن اليمين تلزم بمثل هذا فالحديث حجة لمن قاله ، وإن لم يكن ، فيحتاج إلى تأويله ، وتقدير اللفظ باسم الله تعالى صريحا في المحكي وإن كان ساقطا في الحكاية ، وهذا ليس بممتنع في الحكاية ، فإن من قال " والله لأطوفن " فقد قال " لأطوفن " فإن اللافظ بالمركب لافظ بالمفرد . وقوله " وكان دركا لحاجته " يراد به : أنه كان يحصل ما أراد .

وقد يؤخذ من الحديث : جواز الإخبار عن وقوع الشيء المستقبل بناء على الظن ، فإن هذا الإخبار - أعني قول سليمان عليه السلام " تلد كل امرأة منهن غلاما " - لا يجوز أن يكون عن وحي وإلا لوجب وقوع مخبره . وأجاز الفقهاء الشافعية اليمين على الظن في الماضي وقالوا : يجوز أن يحلف على خط أبيه ، وذكر بعضهم أضعف من هذا وأجاز الحلف في صورة ، بناء على قرينة ضعيفة . وأما بعض المالكية : فإنه دل لفظه على احتمال في هذا الجواز وتردد ، أو على نقل خلاف - أعني اليمين على الظن - ; لأنه قال : والظاهر أن الظن كذلك وهو محتمل لما ذكرناه من الوجهين .

وقد يؤخذ من الحديث : أن الاستثناء إذا اتصل باليمين في اللفظ : أنه يثبت حكمه ، وإن لم ينو من أول اللفظ وذلك أن الملك قال " قل إن شاء الله تعالى " عند فراغه من اليمين فلو لم يثبت حكمه لما أفاد قوله . ويمكن أن يجعل ذلك تأدبا ، لا لرفع حكم اليمين فلا يكون فيه حجة . وأقوى من ذلك في الدلالة : قوله عليه السلام { لو قال : إن شاء الله ، لم يحنث } مع احتماله للتأويل .

التالي السابق


الخدمات العلمية