إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
367 - الحديث السابع : عن { ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من حلف على يمين بملة غير الإسلام ، كاذبا متعمدا ، فهو كما قال ، ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة ، وليس على رجل نذر فيما لا يملك . } وفي رواية { ولعن المؤمن كقتله . } وفي رواية { من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها ، لم يزده الله عز وجل إلا قلة . }


[ ص: 645 ] فيه مسائل :

المسألة الأولى : الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله " والله ، والرحمن " ، وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كما يقول الفقهاء : إذا حلف بالطلاق على كذا ، ومرادهم : تعليق الطلاق به وهذا مجاز وكأن سببه مشابهة هذا التعليق باليمين في اقتضاء الحنث أو المنع . إذا ثبت هذا ، فنقول : قوله عليه السلام { من حلف على يمين بملة غير الإسلام } يحتمل أن يراد به المعنى الأول ، ويحتمل أن يراد به المعنى الثاني ، والأقرب أن المراد الثاني ، لأجل قوله " كاذبا متعمدا " والكذب يدخل القضية الإخبارية التي يقع مقتضاها تارة ، وتارة لا يقع . وأما قولنا " والله " وما أشبهه فليس الإخبار بها عن أمر خارجي وهي للإنشاء - أعني إنشاء القسم - فتكون صورة هذا اليمين على وجهين :

أحدهما : أن يتعلق بالمستقبل كقوله " إن فعلت كذا فهو يهودي ، أو نصراني " .

والثاني : أن يتعلق بالماضي ، مثل أن يقول " إن كنت فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني " . فأما الأول - وهو ما يتعلق بالمستقبل - فلا تتعلق به الكفارة عند المالكية والشافعية ، وأما عند الحنفية : ففيها الكفارة ، وقد يتعلق الأولون بهذا الحديث فإنه لم يذكر كفارة ، وجعل المرتب على ذلك قوله " هو كما قال " . وأما إن تعلق بالماضي : فقد اختلف الحنفية فيه . فقيل : إنه لا يكفر ، اعتبارا بالمستقبل وقيل : يكفر ; لأنه تنجيز معنى ، فصار كما إذا قال " هو يهودي " ، قال بعضهم : والصحيح أنه لا يكفر فيهما إن كان يعلم أنه يمين ، وإن كان عنده أنه يكفر بالحلف يكفر فيهما ; لأنه رضي بالكفر ، حيث أقدم على الفعل .

المسألة الثانية : قوله عليه السلام { ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة } هذا من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية . ويؤخذ منه : أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم ; لأن نفسه ليست ملكا له ، وإنما هي ملك لله تعالى فلا يتصرف فيها إلا أذن له فيه . قال [ ص: 646 ] القاضي عياض : وفيه دليل لمالك ومن قال بقوله ، على أن القصاص من القاتل بما قتل به ، محددا كان أو غير محدد - خلافا لأبي حنيفة - اقتداء بعقاب الله عز وجل لقاتل نفسه في الآخرة ، ثم ذكر حديث اليهودي ، وحديث العرنيين .

وهذا الذي أخذه من هذا الحديث في هذه المسألة : ضعيف جدا ; لأن أحكام الله تعالى لا تقاس بأفعاله وليس كل ما فعله في الآخرة بمشروع لنا في الدنيا ، كالتحريق بالنار ، وإلساع الحيات والعقارب ، وسقي الحميم المقطع للأمعاء . وبالجملة : فما لنا طريق إلى إثبات الأحكام إلا نصوص تدل عليها ، أو قياس على المنصوص عند القياسيين ومن شرط ذلك : أن يكون الأصل المقيس عليه حكما ، أما ما كان فعلا لله تعالى فلا ، وهذا ظاهر جدا وليس ما نعتقده فعلا لله تعالى في الدنيا أيضا بالمباح لنا فإن لله أن يفعل ما يشاء بعباده ، ولا حكم عليه ، وليس لنا أن نفعل بهم إلا ما أذن لنا فيه ، بواسطة أو بغير واسطة .

المسألة الثالثة : التصرفات الواقعة قبل الملك للشيء على وجهين :

أحدهما : تصرفات التنجيز كما لو أعتق عبد غيره ، أو باعه ، أو نذر نذرا متعلقا به فهذه تصرفات لاغية اتفاقا ، إلا ما حكي عن بعضهم في العتق خاصة ، أنه إذا كان موسرا : يعتق عليه ، وقيل : إنه رجع عنه .

الثاني : التصرفات المتعلقة بالملك ، كتعلق الطلاق بالنكاح مثلا ، فهذا مختلف فيه فالشافعي يلغيه كالأول ومالك وأبو حنيفة يعتبرانه . وقد يستدل للشافعي بهذا الحديث وما يقاربه ، ومخالفوه يحملونه على التنجيز ، أو يقولون بموجب الحديث ، فإن التنفيذ إنما يقع بعد الملك ، فالطلاق - مثلا - لم يقع قبل الملك ، فمن هنا يجيء القول بالموجب .

وههنا نظر دقيق في الفرق بين الطلاق - أعني تعليقه بالملك - وبين النذر في ذلك فتأمله . واستبعد قوم تأويل الحديث وما يقاربه بالتنجيز ، من حيث إنه أمر ظاهر جلي لا تقوم به فائدة يحسن حمل اللفظ عليها ، وليست جهة هذا الاستبعاد بقوية فإن الأحكام كلها : في الابتداء كانت منتفية ، وفي أثنائها فائدة متجددة ، وإنما حصل الشيوع والشهرة لبعضها فيما بعد ذلك وذلك لا ينفي [ ص: 647 ] حصول الفائدة عند تأسيس الأحكام .

المسألة الرابعة : قوله عليه السلام { ولعن المؤمن كقتله } فيه سؤال ، وهو أن يقال : إما أن يكون كقتله في أحكام الدنيا ، أو في أحكام الآخرة ؟ لا يمكن أن يكون المراد أحكام الدنيا ; لأن قتله يوجب القصاص ، ولعنه لا يوجب ذلك ، وأما أحكام الآخرة : فإما أن يراد بها التساوي في الإثم ، أو في العقاب ؟ وكلاهما مشكل ; لأن الإثم يتفاوت بتفاوت مفسدة الفعل ، وليس إذهاب الروح في المفسدة كمفسدة الأذى باللعنة ، وكذلك العقاب يتفاوت بحسب تفاوت الجرائم قال الله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } وذلك دليل على التفاوت في العقاب والثواب ، بحسب التفاوت في المصالح والمفاسد فإن الخيرات مصالح والمفاسد شرور .

قال القاضي عياض : قال الإمام - يعني المازري - : الظاهر من الحديث تشبيهه في الإثم ، وهو تشبيه واقع ; لأن اللعنة قطع عن الرحمة ، والموت قطع عن التصرف قال القاضي ، وقيل : لعنته تقتضي قصده بإخراجه من جماعة المسلمين ، ومنعهم منافعه ، وتكثير عددهم به كما لو قتله ، وقيل : لعنته تقتضي قطع منافعه الأخروية عنه ، وبعده منها بإجابة لعنته فهو كمن قتل في الدنيا ، وقطعت عنه منافعه فيها ، وقيل : الظاهر من الحديث : تشبيه في الإثم ، وكذلك ما حكاه من أن معناه : استواؤهما في التحريم ، وأقول : هذا يحتاج إلى تلخيص ونظر . أما ما حكاه عن الإمام - من أن معناه استواؤهما في التحريم - فهذا يحتمل أمرين :

أحدهما : أن يقع التشبيه والاستواء في أصل التحريم والإثم .

والثاني : أن يقع في مقدار الإثم .

فأما الأول : فلا ينبغي أن يحمل عليه ; لأن كل معصية - قلت أو عظمت - فهي مشابهة أو مستوية مع القتل في أصل التحريم ، فلا يبقى في الحديث كبير فائدة ، مع أن المفهوم منه : تعظيم أمر اللعنة بتشبيهها بالقتل .

وأما الثاني : فقد بينا ما فيه من الإشكال وهو التفاوت في المفسدة بين إزهاق الروح وإتلافها ، وبين الأذى باللعنة ، وأما ما حكاه عن الإمام - من قوله : إن اللعنة قطع عن الرحمة ، والموت قطع [ ص: 648 ] عن التصرف - فالكلام عليه أن نقول : اللعنة قد تطلق على نفس الإبعاد الذي هو فعل الله تعالى وهذا الذي يقع فيه التشبيه .

والثاني : أن تطلق اللعنة على فعل اللاعن ، وهو طلبه لذلك الإبعاد بقوله " لعنه الله " مثلا ، أو بوصفه للشخص بذلك الإبعاد بقوله " فلان ملعون " وهذا ليس بقطع عن الرحمة بنفسه ، ما لم تتصل به الإجابة ، فيكون حينئذ تسببا إلى قطع التصرف ، ويكون نظيره : التسبب إلى القتل ، غير أنهما يفترقان في أن التسبب إلى القتل بمباشرة الحز وغيره من مقدمات القتل : مفض إلى القتل بمطرد العادة فلو كان مباشرة اللعن مفضيا إلى الإبعاد الذي هو اللعن دائما : لاستوى اللعن مع مباشرة مقدمات القتل ، أو زاد عليه وبهذا يتبين لك الإيراد على ما حكاه القاضي ، من أن لعنته له : تقتضي قصده إخراجه عن جماعة المسلمين ، كما لو قتله فإن قصده إخراجه لا يستلزم إخراجه كما يستلزم مقدمات القتل ، وكذلك أيضا ما حكاه من أن لعنته تقتضي قطع منافعه الأخروية عنه بإجابة دعوته : إنما يحصل ذلك بإجابة الدعوة ، وقد لا تجاب في كثير من الأوقات فلا يحصل انقطاعه عن منافعه ، كما يحصل بقتله ولا يستوي القصد إلى القطع بطلب الإجابة ، مع مباشرة مقدمات القتل المفضية إليه في مطرد العادة ، ويحتمل ما حكاه القاضي عن الإمام وغيره ، أو بعضه : أن لا يكون تشبيها في حكم دنيوي ، ولا أخروي ، بل يكون تشبيها لأمر وجودي بأمر وجودي كالقطع . والقطع - مثلا في بعض ما حكاه - أي قطعه عن الرحمة ، أو عن المسلمين بقطع حياته وفيه بعد ذلك نظر ، والذي يمكن أن يقرر به ظاهر الحديث في استوائهما في الإثم : أنا نقول : لا نسلم أن مفسدة اللعن مجرد أذاه ، بل فيها - مع ذلك - تعريضه لإجابة الدعاء فيه ; بموافقة ساعة لا يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه كما دل عليه الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم { لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أموالكم ولا تدعوا على أولادكم لا توافقوا ساعة } - الحديث " وإذا عرضه باللعنة لذلك : وقعت الإجابة ، وإبعاده من رحمة الله تعالى : كان ذلك أعظم من قتله ; لأن القتل تفويت الحياة [ ص: 649 ] الفانية قطعا ، والإبعاد من رحمة الله تعالى : أعظم ضررا بما لا يحصى ، وقد يكون أعظم الضررين على سبيل الاحتمال مساويا أو مقاربا لأخفهما على سبيل التحقيق . ومقادير المفاسد والمصالح وأعدادهما : أمر لا سبيل للبشر إلى الاطلاع على حقائقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية