صفحة جزء
[ ص: 53 ] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أكمل لنا الدين ، وأتم علينا النعمة ، وجعل أمتنا - ولله الحمد - خير أمة ، وبعث فينا رسولا منا يتلو علينا آياته ، ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة . أحمده على نعمه الجمة ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، شهادة تكون لمن اعتصم بها خير عصمة ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله للعالمين رحمة ، وفرض عليه بيان ما أنزل إلينا ، فأوضح لنا كل الأمور المهمة ، وخصه بجوامع الكلم ، فربما جمع أشتات الحكم والعلوم في كلمة ، أو شطر كلمة ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، صلاة تكون لنا نورا من كل ظلمة ، وسلم تسليما كثيرا . أما بعد : فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم ، وخصه ببدائع الحكم . كما في " الصحيحين " ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بعثت بجوامع الكلم قال الزهري : جوامع الكلم - فيما بلغنا - أن الله يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين ، ونحو ذلك . [ ص: 54 ] خرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث عمرو بن العاص ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودع ، فقال : " أنا محمد النبي الأمي " . قال ذلك ثلاث مرات . " ولا نبي بعدي ، أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه " ، وذكر الحديث . وخرج أبو يعلى الموصلي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إنى أوتيت جوامع الكلم وخواتمه ، واختصر لي اختصارا " . وخرج الدارقطني من حديث ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أعطيت جوامع الكلم ، واختصر لي الحديث اختصارا . وروينا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق القرشي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه " فقلنا : يا رسول الله ، علمنا مما علمك الله عز وجل ، قال : فعلمنا التشهد . [ ص: 55 ] ‌ وفي " صحيح مسلم " ، عن سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ، عن البتع والمزر ، قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه ، فقال : أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة . وروى هشام بن عمار في كتاب " المبعث " بإسناده ، عن أبي سلام الحبشي ، قال : حدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " فضلت على من قبلي بست ولا فخر " فذكر منها : قال : " وأعطيت جوامع الكلم ، وكان أهل الكتاب يجعلونها جزءا بالليل إلى الصباح ، فجمعها لي ربي في آية واحدة سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ( الحديد : 1 ) . فجوامع الكلم التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم نوعان : أحدهما : ما هو في القرآن ، كقوله عز وجل : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ( النحل : 90 ) قال الحسن : لم تترك هذه الآية خيرا إلا أمرت به ، ولا شرا إلا نهت عنه . والثاني : ما هو في كلامه صلى الله عليه وسلم ، وهو منتشر موجود في السنن المأثورة عنه [ ص: 56 ] صلى الله عليه وسلم . وقد جمع العلماء جموعا من كلماته صلى الله عليه وسلم الجامعة ، فصنف الحافظ أبو بكر بن السني كتابا سماه : " الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة " وجمع القاضي أبو عبد الله القضاعي من جوامع الكلم الوجيزة كتابا سماه : " الشهاب في الحكم والآداب " ، وصنف على منواله قوم آخرون ، فزادوا على ما ذكره زيادة كثيرة . وأشار الخطابي في أول كتابه " غريب الحديث " إلى يسير من الأحاديث الجامعة . وأملى الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح مجلسا سماه " الأحاديث الكلية " جمع فيه الأحاديث الجوامع التي يقال : إن مدار الدين عليها ، وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة ، فاشتمل مجلسه هذا على ستة وعشرين حديثا . ثم إن الفقيه الإمام الزاهد القدوة أبا زكريا يحيى النووي رحمة الله عليه أخذ هذه الأحاديث التي أملاها ابن الصلاح ، وزاد عليها تمام اثنين وأربعين حديثا ، وسمى كتابه " بالأربعين " ، واشتهرت هذه الأربعون التي جمعها ، وكثر حفظها ، ونفع الله بها ببركة نية جامعها ، وحسن قصده رحمه الله . وقد تكرر سؤال جماعة من طلبة العلم والدين لتعليق شرح لهذه الأحاديث المشار إليها ، فاستخرت الله سبحانه وتعالى في جمع كتاب يتضمن شرح ما ييسره الله تعالى من معانيها ، وتقييد ما يفتح به سبحانه من تبيين قواعدها ومبانيها ، وإياه أسأل العون على ما قصدت ، والتوفيق لصلاح النية والقصد فيما أردت ، وأعول في أمري كله عليه ، وأبرأ من الحول والقوة إلا إليه . وقد كان بعض من شرح هذه الأربعين قد تعقب على جامعها رحمه الله تركه [ ص: 57 ] لحديث : ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض ، فلأولى رجل ذكر قال : لأنه الجامع لقواعد الفرائض التي هي نصف العلم ، فكان ينبغي ذكره في هذه الأحاديث الجامعة ، كما ذكر حديث البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر لجمعه لأحكام القضاء . فرأيت أنا أن أضم هذا الحديث إلى أحاديث الأربعين التي جمعها الشيخ رحمه الله ، وأن أضم إلى ذلك كله أحاديث أخر من جوامع الكلم الجامعة لأنواع العلوم والحكم ، حتى تكمل عدة الأحاديث كلها خمسين حديثا ، وهذه تسمية الأحاديث المزيدة على ما ذكره الشيخ رحمه الله في كتابه : حديث : ألحقوا الفرائض بأهلها حديث : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب حديث : إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه حديث : كل مسكر حرام حديث : ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن حديث : أربع من كن فيه كان منافقا حديث : لو أنكم توكلون على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير حديث : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل . وسميته : [ ص: 58 ] جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم . واعلم أنه ليس غرضي إلا شرح الألفاظ النبوية التي تضمنتها هذه الأحاديث الكلية ، فلذلك لا أتقيد بكلام الشيخ رحمه الله في تراجم رواة هذه الأحاديث من الصحابة رضي الله عنهم ، ولا بألفاظه في العزو إلى الكتب التي يعزو إليها ، وإنما آتي بالمعنى الذي يدل على ذلك ؛ لأني قد أعلمتك أنه ليس لي غرض إلا في شرح معاني كلمات النبي صلى الله عليه وسلم الجوامع ، وما يتضمنه من الآداب والحكم والمعارف والأحكام والشرائع . وأشير إشارة لطيفة قبل الكلام في شرح الحديث إلى إسناده ؛ ليعلم بذلك صحته وقوته وضعفه ، وأذكر بعض ما روي في معناه من الأحاديث إن كان في ذلك الباب شيء غير الحديث الذي ذكره الشيخ ، وإن لم يكن في الباب غيره ، أو لم يكن يصح فيه غيره ، نبهت على ذلك كله ، وبالله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

التالي


الخدمات العلمية