1. الرئيسية
  2. جامع العلوم والحكم
  3. الحديث العشرون إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت
صفحة جزء
[ ص: 496 ] الحديث العشرون

عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت رواه البخاري .


هذا الحديث خرجه البخاري من رواية منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش ، عن أبي مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأظن مسلما لم يخرجه ، لأنه قد رواه قوم ، فقالوا : عن ربعي ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فاختلف في إسناده ، لكن أكثر الحفاظ حكموا بأن القول قول من قال : عن أبي مسعود ، منهم البخاري ، وأبو زرعة الرازي ، والدارقطني وغيرهم ، ويدل على صحة ذلك [ ص: 497 ] أنه قد روي من وجه آخر عن أبي مسعود من رواية مسروق عنه .

وخرجه الطبراني من حديث أبي الطفيل عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا .

فقوله صلى الله عليه وسلم : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى يشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين ، وأن الناس تداولوه بينهم ، وتوارثوه عنهم قرنا بعد قرن ، وهذا يدل على أن النبوات المتقدمة جاءت بهذا الكلام ، وأنه اشتهر بين الناس حتى وصل إلى أول هذه الأمة . وفي بعض الروايات قال : " لم يدرك الناس من كلام النبوة الأولى إلا هذا " . خرجها حميد بن زنجويه وغيره .

وقوله " إذا لم تستحي فاصنع ما شئت " في معناه قولان : أحدهما : أنه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما شاء ، ولكنه على معنى الذم والنهي عنه ، وأهل هذه المقالة لهم طريقان :

أحدهما : أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد ، والمعنى : إذا لم يكن حياء ، فاعمل ما شئت ، فالله يجازيك عليه ، كقوله : اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير [ فصلت : 40 ] ، وقوله : فاعبدوا ما شئتم من دونه [ الزمر : 15 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من باع الخمر ، فليشقص الخنازير " يعني ليقطعها إما لبيعها [ ص: 498 ] أو لأكلها ، وأمثلته متعددة ، وهذا اختيار جماعة منهم أبو العباس بن ثعلب .

والطريق الثاني : أنه أمر ، ومعناه الخبر ، والمعنى : أن من لم يستحي ، صنع ما شاء ، فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء ، فمن لم يكن له حياء ، انهمك في كل فحشاء ومنكر ، وما يمتنع من مثله من له حياء على حد قوله صلى الله عليه وسلم : من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ، فإن لفظه لفظ الأمر ، ومعناه الخبر ، وأن من كذب عليه تبوأ مقعده من النار ، وهذا اختيار أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله ، وابن قتيبة ومحمد بن نصر المروزي ، وغيرهم ، وروى أبو داود عن الإمام أحمد ما يدل على مثل هذا القول .

وروى ابن أبي لهيعة عن أبي قبيل ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أبغض الله عبدا ، نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء ، لم تلقه إلا بغيضا متبغضا ، ونزع منه الأمانة ، فإذا نزع منه الأمانة ، نزع منه الرحمة ، وإذا نزع منه الرحمة ، نزع منه ربقة الإسلام ، فإذا نزع منه ربقة الإسلام ، لم تلقه إلا شيطانا مريدا " . خرجه حميد بن زنجويه ، وخرجه ابن ماجه بمعناه بإسناد ضعيف عن ابن عمر مرفوعا أيضا .

وعن سلمان الفارسي قال : إن الله إذا أراد بعبد هلاكا ، نزع منه الحياء ، فإذا [ ص: 499 ] نزع منه الحياء ، لم تلقه إلا مقيتا ممقتا ، فإذا كان مقيتا ممقتا ، نزع منه الأمانة ، فلم تلقه إلا خائنا مخونا ، فإذا كان خائنا مخونا ، نزع منه الرحمة ، فلم تلقه إلا فظا غليظا ، فإذا كان فظا غليظا ، نزع ربق الإيمان من عنقه ، فإذا نزع ربق الإيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطانا لعينا ملعنا .

وعن ابن عباس قال : الحياء والإيمان في قرن ، فإذا نزع الحياء ، تبعه الآخر . خرجه كله حميد بن زنجويه في كتاب " الأدب " .

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحياء من الإيمان كما في " الصحيحين " عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول : إنك لتستحيي ، كأنه يقول : قد أضر بك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعه فإن الحياء من الإيمان . [ ص: 500 ] وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة قال : " الحياء شعبة من الإيمان " .

وفي " الصحيحين " عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الحياء لا يأتي إلا بخير وفي رواية لمسلم قال : " الحياء خير كله " ، أو قال : " الحياء كله خير " .

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث الأشج العصري قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن فيك لخلقين يحبهما الله " ، قلت : ما هما ؟ قال : " الحلم والحياء " قلت : أقديما كان أو حديثا ؟ قال " بل قديما " قلت : الحمد لله الذي جعلني على خلقين يحبهما الله .

وقال : إسماعيل بن أبي خالد دخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل فاستسقى ، فأتى بماء فشرب ، فستره النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذا ؟ قال : [ ص: 501 ] " الحياء خلة أوتوها ومنعتموها " .

واعلم أن الحياء نوعان : أحدهما : ما كان خلقا وجبلة غير مكتسب ، وهو من أجل الأخلاق التي يمنحها الله العبد ويجبله عليها ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " الحياء لا يأتي إلا بخير " فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق ، ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها ، فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار ، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : من استحيا ، اختفى ، ومن اختفى ، اتقى ، ومن اتقى وقي .

وقال الجراح بن عبد الله الحكمي - وكان فارس أهل الشام - : تركت الذنوب حياء أربعين سنة ، ثم أدركني الورع . وعن بعضهم قال : رأيت المعاصي نذالة ، فتركتها مروءة فاستحالت ديانة .

النوع الثاني : ما كان مكتسبا من معرفة الله ، ومعرفة عظمته وقربه من عباده ، واطلاعه عليهم ، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فهذا من أعلى خصال الإيمان ، بل هو من أعلى درجات الإحسان ، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : " استحي من الله كما تستحيي رجلا من صالح عشيرتك " .

وفي حديث ابن مسعود : " الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وأن تذكر الموت والبلى ؛ ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا ، فمن فعل ذلك ، فقد استحيا من الله " خرجه الإمام أحمد والترمذي مرفوعا . [ ص: 502 ] وقد يتولد من الله الحياء من مطالعة نعمه ورؤية التقصير في شكرها ، فإذا سلب العبد الحياء المكتسب والغريزي ، لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح ، والأخلاق الدنيئة ، فصار كأنه لا إيمان له . وقد روي من مراسيل الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الحياء حياءان : طرف من الإيمان ، والآخر عجز " ولعله من كلام الحسن ، وكذلك قال بشير بن كعب العدوي لعمران بن حصين : إنا نجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقارا لله ، ومنه ضعف ، فغضب عمران وقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه ؟ والأمر كما قاله عمران رضي الله عنه ، فإن الحياء الممدوح في كلام النبي صلى الله عليه وسلم إنما يريد به الخلق الذي يحث على فعل الجميل ، وترك القبيح ، فأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده ، فليس هو من الحياء ، إنما هو ضعف وخور ، وعجز ومهانة ، والله أعلم . [ ص: 503 ] والقول الثاني : في معنى قوله : " إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت " أنه أمر بفعل ما يشاء على ظاهر لفظه ، وأن المعنى : إذا كان الذي تريد فعله مما لا يستحيا من فعله لا من الله ولا من الناس ، لكونه من أفعال الطاعات ، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة ، فاصنع منه حينئذ ما شئت ، وهذا قول جماعة من الأئمة ، منهم إسحاق المروزي الشافعي ، وحكي مثله عن الإمام أحمد ، ووقع كذلك في بعض نسخ " مسائل أبي داود " المختصرة عنه ، ولكن الذي في النسخ المعتمدة التامة كما حكيناه عنه من قبل ، وكذلك حكاه عنه الخلال في كتاب " الأدب " ، ومن هذا قول بعض السلف - وقد سئل عن المروءة - فقال : أن لا تعمل في السر شيئا تستحيي منه في العلانية ، وسيأتي قول النبي صلى الله عليه وسلم : الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .

وروى عبد الرازق في كتابه عن معمر عن أبي إسحاق عن رجل من مزينة قال : قيل : يا رسول الله ، ما أفضل ما أوتي الرجل المسلم ؟ قال : " الخلق الحسن " قال : فما شر ما أوتي المسلم ؟ قال : " إذا كرهت أن يرى عليك شيء في نادي القوم ، فلا تفعله إذا خلوت " .

وفي " صحيح ابن حبان " عن أسامة بن شريك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كره منك شيئا ، فلا تفعله إذا خلوت " .

وخرج الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري قال : قلت : يا رسول الله [ ص: 504 ] ما تمام البر ؟ قال : " أن تعمل في السر عمل العلانية " . وخرجه أيضا من حديث أبي عامر السكوني ، قال : قلت : يا رسول الله ، فذكره .

وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ في كتاب " أدب المحدث " بإسناده عن حرملة بن عبد الله ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأزداد من العلم ، فقمت بين يديه ، فقلت : يا رسول الله ، ما تأمرني أن أعمل به ؟ قال : " ائت المعروف ، واجتنب المنكر ، وانظر الذي سمعته أذنك من الخير يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم فأته ، وانظر الذي تكره أن يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم ، فاجتنبه " قال : فنظرت فإذا هما أمران لم يتركا شيئا : إتيان المعروف ، واجتناب المنكر .

وخرج ابن سعد في " طبقاته " بمعناه .

وحكى أبو عبيد في معنى الحديث قولا آخر حكاه عن جرير : قال معناه أن يريد الرجل أن يعمل الخير ، فيدعه حياء من الناس كأنه يخاف الرياء ، يقول : فلا يمنعنك الحياء من المضي لما أردت ، كما جاء في الحديث : " إذا جاءك الشيطان وأنت تصلي ، فقال : إنك ترائي ، فزدها طولا " ثم قال أبو عبيد : وهذا [ ص: 505 ] الحديث ليس يجيء سياقه ولا لفظه على هذا التفسير ، ولا على هذا يحمله الناس .

قلت : لو كان على ما قاله جرير ، لكان لفظ الحديث : إذا استحييت مما لا يستحيا منه ، فافعل ما شئت ، ولا يخفى بعد هذا من لفظ الحديث ومعناه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية