صفحة جزء
[ ص: 506 ] الحديث الحادي والعشرون .

عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك ، قال : قل آمنت بالله ، ثم استقم رواه مسلم .


هذا الحديث خرجه مسلم من رواية هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن سفيان وسفيان : هو ابن عبد الله الثقفي الطائفي له صحبة ، وكان عاملا لعمر بن الخطاب على الطائف .

وقد روي عن سفيان بن عبد الله من وجوه أخر بزيادات ، فخرجه الإمام أحمد ، والترمذي وابن ماجه من رواية الزهري عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز ، وعند الترمذي : من رواية عبد الرحمن بن ماعز عن سفيان بن عبد الله قال : قلت : يا رسول الله ، حدثني بأمر أعتصم به ، قال : قل : ربي الله ، ثم استقم قلت : يا رسول الله ، ما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ بلسان نفسه ، قال هذا ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

وخرجه الإمام أحمد ، والنسائي من رواية عبد الله بن سفيان الثقفي ، عن أبيه أن رجلا قال : يا رسول الله ، مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك [ ص: 507 ] قال : قل : آمنت بالله ، ثم استقم قلت : فما أتقي ؟ فأومأ إلى لسانه .

قول سفيان بن عبد الله للنبي صلى الله عليه وسلم : " قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك " طلب منه أن يعلمه كلاما جامعا لأمر الإسلام كافيا حتى لا يحتاج بعده إلى غيره ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قل آمنت بالله ، ثم استقم وفي الرواية الأخرى : " قل : ربي الله ، ثم استقم " هذا منتزع من قوله عز وجل : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [ فصلت : 30 ] ، وقوله عز وجل : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون [ الأحقاف : 13 - 14 ] .

وخرج النسائي في " تفسيره " من رواية سهيل بن أبي حزم : حدثنا ثابت ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فقال : " قد قالها الناس ، ثم كفروا ، فمن مات عليها فهو من أهل الاستقامة " . وخرجه الترمذي ، ولفظه : فقال : " قد قالها الناس ، ثم كفر أكثرهم ، فمن مات عليها ، فهو ممن استقام " ، وقال : حسن غريب ، وسهيل تكلم فيه من قبل حفظه . [ ص: 508 ] وقال أبو بكر الصديق في تفسير ثم استقاموا قال : لم يشركوا بالله شيئا . وعنه قال : لم يلتفتوا إلى إله غيره . وعنه قال : ثم استقاموا على أن الله ربهم .

وعن ابن عباس بإسناد ضعيف قال : هذه أرخص آية في كتاب الله قالوا ربنا الله ثم استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله . وروي نحوه عن أنس ومجاهد والأسود بن هلال ، وزيد بن أسلم ، والسدي وعكرمة وغيرهم . وروي عن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية على المنبر إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، فقال : لم يروغوا روغان الثعلب .

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : ثم استقاموا قال : استقاموا على أداء فرائضه .

وعن أبي العالية ، قال : ثم أخلصوا له الدين والعمل .

وعن قتادة قال : استقاموا على طاعة الله ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية [ ص: 509 ] قال : اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة .

ولعل من قال : إن المراد الاستقامة على التوحيد إنما أراد التوحيد الكامل الذي يحرم صاحبه على النار ، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله ، فإن الإله هو المعبود الذي يطاع ، فلا يعصى خشية وإجلالا ومهابة ومحبة ورجاء وتوكلا ودعاء ، والمعاصي كلها قادحة في هذا التوحيد ، لأنها إجابة لداعي الهوى وهو الشيطان ، قال الله عز وجل : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه [ الجاثية : 23 ] قال الحسن وغيره : هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه ، فهذا ينافي الاستقامة على التوحيد .

وأما على رواية من روى : " قل : آمنت بالله " فالمعنى أظهر ، لأن الإيمان يدخل فيه الأعمال الصالحة عند السلف ومن تابعهم من أهل الحديث ، وقال الله عز وجل : فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير [ هود : 112 ] ، فأمره أن يستقيم هو ومن تاب معه ، وأن لا يجاوزوا ما أمروا به ، وهو الطغيان ، وأخبر أنه بصير بأعمالكم ، مطلع عليها ، قال تعالى : فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم [ الشورى : 15 ] قال قتادة : أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يستقيم على أمر الله وقال الثوري على القرآن ، وعن الحسن ، قال : لما نزلت هذه الآية شمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رئي ضاحكا خرجه ابن أبي حاتم وذكر القشيري وغيره عن بعضهم : أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقال له : يا رسول الله ، قلت : " شيبتني هود وأخواتها " فما شيبك [ ص: 510 ] منها ؟ قال : " قوله : فاستقم كما أمرت .

وقال عز وجل : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه [ فصلت : 6 ] .

وقد أمر الله تعالى بإقامة الدين عموما كما قال : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ الشورى : 13 ] ، وأمر بإقام الصلاة في غير موضع من كتابه ، كما أمر بالاستقامة على التوحيد في تلك الآيتين .

والاستقامة : هي سلوك الصراط المستقيم ، وهو الدين القيم من غير تعريج عنه يمنة ولا يسرة ، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها ، الظاهرة والباطنة ، وترك المنهيات كلها كذلك ، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها .

وفي قوله عز وجل : فاستقيموا إليه واستغفروه إشارة إلى أنه لابد من تقصير في الاستقامة المأمور بها ، فيجبر ذلك بالاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة ، فهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ " اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها " . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لن يطيقوا [ ص: 511 ] الاستقامة حق الاستقامة ، كما خرجه الإمام أحمد ، وابن ماجه من حديث ثوبان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : استقيموا ولن تحصوا ، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ، وفي رواية للإمام أحمد : سددوا وقاربوا ، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن .

وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سددوا وقاربوا .

فالسداد : هو حقيقة الاستقامة ، وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد ، كالذي يرمي إلى غرض ، فيصيبه ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن يسأل الله عز وجل السداد والهدى ، وقال له : اذكر بالسداد تسديدك السهم ، وبالهدى هدايتك الطريق .

والمقاربة : أن يصيب ما قرب من الغرض إذا لم يصب الغرض نفسه ، ولكن بشرط أن يكون مصمما على قصد السداد وإصابة الغرض ، فتكون مقاربته عن غير عمد ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الحكم بن حزن الكلفي : أيها الناس ، إنكم لن تعملوا - أو لن تطيقوا - كل ما أمرتكم ، ولكن سددوا وأبشروا والمعنى : اقصدوا التسديد والإصابة والاستقامة ، فإنهم لو سددوا في العمل كله ، لكانوا قد فعلوا ما أمروا به كله .

فأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد ، كما فسر أبو بكر الصديق وغيره قوله : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا [ الأحقاف : 13 ] بأنهم لم [ ص: 512 ] يلتفتوا إلى غيره ، فمتى استقام القلب على معرفة الله ، وعلى خشيته ، وإجلاله ، ومهابته ، ومحبته ، وإرادته ، ورجائه ، ودعائه ، والتوكل عليه ، والإعراض عما سواه ، استقامت الجوارح كلها على طاعته ، فإن القلب هو ملك الأعضاء ، وهي جنوده ، فإذا استقام الملك ، استقامت جنوده ورعاياه ، وكذلك فسر قوله تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا [ الروم : 30 ] بإخلاص القصد لله وإرادته وحده لا شريك له .

وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان ، فإنه ترجمان القلب والمعبر عنه ، ولهذا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة ، وصاه بعد ذلك بحفظ لسانه ، وفي " مسند الإمام أحمد " عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه وفي " الترمذي " عن أبي سعيد مرفوعا وموقوفا : " إذا أصبح ابن آدم ، فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان ، فتقول : اتق الله فينا ، فإنما نحن بك ، فإن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا " .

التالي السابق


الخدمات العلمية