1. الرئيسية
  2. جامع العلوم والحكم
  3. الحديث الثاني والعشرون أرأيت إذا صليت المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام
صفحة جزء
[ ص: 513 ] الحديث الثاني والعشرون .

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت إذا صليت المكتوبات ، وصمت رمضان ، وأحللت الحلال ، وحرمت الحرام ، ولم أزد على ذلك شيئا ، أأدخل الجنة ؟ قال : نعم رواه مسلم .


هذا الحديث خرجه مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر ، وزاد في آخره قال : والله لا أزيد على ذلك شيئا . وخرجه أيضا من رواية الأعمش عن أبي صالح وأبي سفيان عن جابر قال : قال النعمان بن قوقل : يا رسول الله ، أرأيت إذا صليت المكتوبة ، وحرمت الحرام ، وأحللت الحلال ، ولم أزد على ذلك شيئا أأدخل الجنة ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم " .

وقد فسر بعضهم تحليل الحلال باعتقاد حله ، وتحريم الحرام باعتقاد حرمته مع اجتنابه ، ويحتمل أن يراد بتحليل الحلال إتيانه ، ويكون الحلال هاهنا عبارة عما ليس بحرام فيدخل فيه الواجب والمستحب والمباح ، ويكون المعنى أنه يفعل ما ليس بمحرم عليه ، ولا يتعدى ما أبيح له إلى غيره ، ويجتنب المحرمات . وقد روي عن طائفة من السلف ، منهم ابن مسعود وابن عباس في قوله عز وجل : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به [ البقرة : 121 ] ، قالوا : يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ولا يحرفونه عن مواضعه . [ ص: 514 ] والمراد بالتحليل والتحريم : فعل الحلال واجتناب الحرام كما ذكر في هذا الحديث . وقد قال الله في حق الكفار الذين كانوا يغيرون تحريم الشهور الحرم : إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله [ التوبة : 37 ] والمراد : أنهم كانوا يقاتلون في الشهر الحرام عاما ، فيحلونه بذلك ، ويمتنعون من القتال فيه عاما ، فيحرمونه بذلك .

وقال الله عز وجل : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا [ المائدة : 87 - 88 ] وهذه الآية نزلت بسبب قوم امتنعوا من تناول بعض الطيبات زهدا في الدنيا وتقشفا ، وبعضهم حرم ذلك على نفسه ، إما بيمين حلف بها ، أو بتحريمه على نفسه ، وذلك كله لا يوجب تحريمه في نفس الأمر ، وبعضهم امتنع منه من غير يمين ولا تحريم ، فسمى الجميع تحريما ، حيث قصد الامتناع منه إضرارا بالنفس ، وكفا لها عن شهواتها . ويقال في الأمثال : فلان لا يحلل ولا يحرم ، إذا كان لا يمتنع من فعل حرام ، ولا يقف عند ما أبيح له ، وإن كان يعتقد تحريم الحرام ، فيجعلون من فعل الحرام ولا يتحاشى منه محللا له وإن كان لا يعتقد حله .

وبكل حال ، فهذا الحديث يدل على أن من قام بالواجبات ، وانتهى عن المحرمات دخل الجنة وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى ، أو ما هو قريب منه ، كما خرجه النسائي ، وابن حبان ، والحاكم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ، [ ص: 515 ] ويصوم رمضان ، ويخرج الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبع ، إلا فتحت له أبواب الجنة ، يدخل من أيها شاء ثم تلا : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما [ النساء : 31 ] .

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من عبد الله ، لا يشرك به ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، واجتنب الكبائر ، فله الجنة - أو دخل الجنة - .

وفي " المسند " عن ابن عباس أن ضمام بن ثعلبة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر له الصلوات الخمس ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، وشرائع الإسلام كلها ، فلما فرغ قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وسأؤدي هذه الفرائض ، وأجتنب ما نهيتني عنه ، لا أزيد ولا أنقص ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن صدق دخل الجنة وخرجه الطبراني من وجه آخر ، وفي حديثه قال : والخامسة لا أرب لي فيها يعني الفواحش ثم قال : لأعملن بها ، ومن أطاعني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لئن صدق ليدخلن الجنة " .

[ ص: 516 ] وفي " صحيح البخاري " عن أبي أيوب أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرني بعمل يدخلني الجنة ، قال : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصل الرحم وخرجه مسلم إلا أن عنده أنه قال : أخبرني بعمل يدنيني من الجنة ويباعدني من النار . وعنده في رواية : فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن تمسك بما أمر به ، دخل الجنة " .

وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة أن أعرابيا قال : يا رسول الله ، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان ، قال : والذي بعثك بالحق ، لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقص منه ، فلما ولى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا .

وفي " الصحيحين " عن طلحة بن عبيد الله أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس ، فقال : يا رسول الله ، أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة ؟ فقال : الصلوات الخمس ، إلا أن تطوع شيئا فقال : أخبرني بما فرض الله علي من الصيام ؟ فقال : شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا فقال : أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام ، فقال : والذي أكرمك بالحق ، لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلح إن صدق - أو دخل الجنة إن صدق - ولفظه للبخاري .

[ ص: 517 ] وفي " صحيح مسلم " عن أنس أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه ، وزاد فيه " حج البيت من استطاع إليه سبيلا " فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لئن صدق ليدخلن الجنة " .

ومراد الأعرابي أنه لا يزيد على الصلاة المكتوبة ، والزكاة المفروضة ، وصيام رمضان ، وحج البيت شيئا من التطوع ، ليس مراده أنه لا يعمل بشيء من شرائع الإسلام وواجباته غير ذلك ، وهذه الأحاديث لم يذكر فيها اجتناب المحرمات ، لأن السائل إنما سأله عن الأعمال التي يدخل بها عاملها الجنة .

وخرج الترمذي من حديث أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول : أيها الناس ، اتقوا الله ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنة ربكم وقال : حسن صحيح ، وخرجه الإمام أحمد ، وعنده " اعبدوا ربكم " بدل قوله " اتقوا الله " . وخرجه بقي بن مخلد في " مسنده " من وجه آخر ، ولفظ حديثه : " صلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وحجوا بيتكم ، وأدوا زكاة أموالكم ، طيبة بها أنفسكم ، تدخلوا جنة ربكم " .

وخرج الإمام أحمد بإسناده عن ابن المنتفق ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفات ، فقلت : ثنتان أسألك عنهما : ما ينجيني من النار ، وما يدخلني الجنة ؟ فقال : لئن كنت أوجزت في المسألة ، لقد أعظمت وأطولت ، فاعقل عني إذن : اعبد الله لا تشرك به شيئا ، وأقم الصلاة المكتوبة ، وأد الزكاة المفروضة ، وصم [ ص: 518 ] رمضان ، وما تحب أن يفعله بك الناس ، فافعله بهم ، وما تكره أن يأتي إليك الناس ، فذر الناس منه .

وفي رواية له أيضا قال : " اتق الله ، ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت ، وتصوم رمضان ، ولم تزد على ذلك " وقيل : إن هذا الصحابي هو وافد بن المنتفق ، واسمه لقيط .

فهذه الأعمال أسباب مقتضية لدخول الجنة ، وقد يكون ارتكاب المحرمات موانع ، ويدل على هذا ما خرجه الإمام أحمد من حديث عمرو بن مرة الجهني ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، شهدت أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وصليت الخمس ، وأديت زكاة مالي ، وصمت شهر رمضان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعق والديه " .

[ ص: 519 ] وقد ورد ترتب دخول الجنة على فعل بعض هذه الأعمال كالصلاة ، ففي الحديث المشهور : من صلى الصلوات لوقتها ، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة وفي الحديث الصحيح : من صلى البردين دخل الجنة ، وهذا كله من ذكر السبب المقتضي الذي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه ، وانتفاء موانعه ؛ ويدل هذا على ما خرجه الإمام أحمد عن بشير بن الخصاصية ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه ، فشرط علي شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن أقيم الصلاة ، وأن أوتي الزكاة ، وأن أحج حجة الإسلام ، وأن أصوم رمضان ، وأن أجاهد في سبيل الله ، فقلت : يا رسول الله ، فأما اثنتان فوالله ما أطيقهما : الجهاد والصدقة ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، ثم حركها ، وقال : " فلا جهاد ولا صدقة ؟ فبم تدخل الجنة إذا ؟ " قلت : يا رسول الله أبايعك ، فبايعته عليهن كلهن ففي هذا الحديث أنه لا يكفي في دخول الجنة هذه [ ص: 520 ] الخصال بدون الزكاة والجهاد .

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن ارتكاب بعض الكبائر يمنع دخول الجنة ، كقوله : لا يدخل الجنة قاطع ، وقوله : لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ، وقوله : لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا والأحاديث التي جاءت في منع دخول الجنة بالدين حتى يقضى ، وفي الصحيح : أن المؤمنين إذا جازوا الصراط ، حبسوا على قنطرة يقتص منهم مظالم كانت بينهم في الدنيا .

[ ص: 521 ] وقال بعض السلف : إن الرجل ليحبس على باب الجنة مائة عام بالذنب كان يعمله في الدنيا . فهذه كلها موانع .

ومن هنا يظهر معنى الأحاديث التي جاءت في ترتب دخول الجنة على مجرد التوحيد ، ففي " الصحيحين " عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من عبد قال : لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ، قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ ! قال : وإن زنى وإن سرق ، قالها ثلاثا ، ثم قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر فخرج أبو ذر وهو يقول : وإن رغم أنف أبي ذر .

وفيهما عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل .

وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أو أبي سعيد - بالشك - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك ، فيحجب عن الجنة .

وفيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يوما : من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه ، فبشره بالجنة وفي المعنى أحاديث كثيرة جدا . [ ص: 522 ] وفي " الصحيحين " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما لمعاذ : ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، إلا حرمه الله على النار .

وفيهما عن عتبان بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله قد حرم على النار من قال : لا إله إلا الله ، يبتغي بها وجه الله : .

وقال طائفة من العلماء : إن كلمة التوحيد سبب مقتض لدخول الجنة وللنجاة من النار ، لكن له شروط ، وهي الإتيان بالفرائض ، وموانع وهي إتيان الكبائر . قال الحسن للفرزدق : إن للا إله إلا الله شروطا ، فإياك وقذف المحصنة . وروي عنه أنه قال : هذا العمود ، فأين الطنب ، يعني أن كلمة التوحيد عمود الفسطاط ، ولكن لا يثبت الفسطاط بدون أطنابه ، وهي فعل الواجبات ، وترك المحرمات .

وقيل للحسن : إن ناسا يقولون : من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة ، فقال : من قال : لا إله إلا الله ، فأدى حقها وفرضها ، دخل الجنة .

وقيل لوهب بن منبه : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قال : بلى ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان ، فإن جئت بمفتاح له أسنان ، فتح لك ، وإلا لم يفتح لك .

ويشبه هذا ما روي عن ابن عمر أنه سئل عن لا إله إلا الله : هل يضر معها [ ص: 523 ] عمل ، كما لا ينفع مع تركها عمل ؟ فقال ابن عمر : عش ولا تغتر .

وقالت طائفة - منهم الضحاك والزهري - : كان هذا قبل الفرائض والحدود ، فمن هؤلاء من أشار إلى أنها نسخت ، ومنهم من قال : بل ضم إليها شروط زيدت عليها ، وزيادة الشروط هل هي نسخ أم لا ؟ فيه خلاف مشهور بين الأصوليين ، وفي هذا كله نظر ، فإن كثيرا من هذه الأحاديث متأخر بعد الفرائض والحدود .

وقال الثوري : نسختها الفرائض والحدود ، فيحتمل أن يكون مراده ما أراده هؤلاء ، ويحتمل أن يكون مراده أن وجوب الفرائض والحدود تبين بها أن عقوبات الدنيا لا تسقط بمجرد الشهادتين ، فكذلك عقوبات الآخرة ، ومثل هذا البيان وإزالة الإيهام كان السلف يسمونه نسخا ، وليس هو بنسخ في الاصطلاح المشهور .

وقالت طائفة : هذه النصوص المطلقة جاءت مقيدة بأن يقولها بصدق وإخلاص ، وإخلاصها وصدقها يمنع الإصرار على معصية .

وجاء من مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من قال : لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة " قيل : وما إخلاصها ؟ قال : " أن تحجزك عما حرم الله " . وروي ذلك مسندا من وجوه أخر ضعيفة .

[ ص: 524 ] ولعل الحسن أشار بكلامه الذي حكيناه عنه من قبل إلى هذا فإن تحقق القلب بمعنى " لا إله إلا الله " وصدقه فيها ، وإخلاصه بها يقتضي أن يرسخ فيه تأله الله وحده ، إجلالا ، وهيبة ، ومخافة ، ومحبة ، ورجاء ، وتعظيما ، وتوكلا ، ويمتلئ بذلك ، وينتفي عنه تأله ما سواه من المخلوقين ، ومتى كان كذلك ، لم يبق فيه محبة ، ولا إرادة ، ولا طلب لغير ما يريد الله ويحبه ويطلبه ، وينتفي بذلك من القلب جميع أهواء النفوس وإراداتها ، ووساوس الشيطان ، فمن أحب شيئا وأطاعه ، وأحب عليه وأبغض عليه ، فهو إلهه ، فمن كان لا يحب ولا يبغض إلا لله ، ولا يوالي ولا يعادي إلا له ، فالله إلهه حقا ، ومن أحب لهواه ، وأبغض له ، ووالى عليه ، وعادى عليه ، فإلهه هواه ، كما قال تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه [ الجاثية : 23 ] قال الحسن : هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه ، وقال قتادة : هو الذي كلما هوى شيئا ركبه ، وكلما اشتهى شيئا ، أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى . ويروى من حديث أبي أمامة مرفوعا " ما تحت ظل السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع " .

وكذلك من أطاع الشيطان في معصية الله ، فقد عبده ، كما قال عز وجل : ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين [ يس : 60 ] .

فتبين بهذا أنه لا يصح تحقيق معنى قول : لا إله إلا الله إلا لمن لم يكن في قلبه إصرار على محبة ما يكرهه الله ، ولا على إرادة ما لا يريده الله ، ومتى [ ص: 525 ] كان في القلب شيء من ذلك ، كان ذلك نقصا في التوحيد ، وهو نوع من الشرك الخفي . ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى : ألا تشركوا به شيئا [ الأنعام : 151 ] قال : لا تحبوا غيري .

وفي " صحيح الحاكم " عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء ، وأدناه أن تحب على شيء من الجور ، وتبغض على شيء من العدل ، وهل الدين إلا الحب والبغض ؟ قال الله عز وجل : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ آل عمران : 31 ] وهذا نص في أن محبة ما يكرهه الله ، وبغض ما يحبه متابعة للهوى ، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي .

وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أنس مرفوعا : " لا تزال لا إله إلا الله تمنع العباد من سخط الله ، ما لم يؤثروا دنياهم على صفقة دينهم ، فإذا آثروا صفقة دنياهم على دينهم ، ثم قالوا : لا إله إلا الله ردت عليهم ، وقال الله : كذبتم " . [ ص: 526 ] فتبين بهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " من شهد أن لا إله إلا الله صادقا من قلبه حرمه الله على النار " ، وأن من دخل النار من أهل هذه الكلمة ، فلقلة صدقه في قولها ، فإن هذه الكلمة إذا صدقت طهرت من القلب كل ما سوى الله ، فمن صدق في قوله : لا إله إلا الله لم يحب سواه ، ولم يرج إلا إياه ، ولم يخش أحدا إلا الله ، ولم يتوكل إلا على الله ، ولم تبق له بقية من إيثار نفسه وهواه ، ومتى بقي في القلب أثر لسوى الله ، فمن قلة الصدق في قولها .

نار جهنم تنطفئ بنور إيمان الموحدين ، كما في الحديث المشهور " تقول النار للمؤمن : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي " .

وفي " مسند الإمام أحمد " عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى إن للنار ضجيجا من بردهم . [ ص: 527 ] فهذا ميراث ورثه المؤمنون من حال إبراهيم عليه السلام ، فنار المحبة في قلوب المؤمنين تخاف منها نار جهنم . قال الجنيد : قالت النار : يا رب ، لو لم أطعك ، هل كنت تعذبني بشيء هو أشد مني ؟ قال : نعم كنت أسلط عليك ناري الكبرى ، قالت : وهل نار أعظم مني وأشد ؟ قال : نعم نار محبتي أسكنتها قلوب أوليائي المؤمنين وفي هذا يقول بعضهم :


ففي فؤاد المحب نار هوى أحر نار الجحيم أبردها

ويشهد لهذا المعنى حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ، فإن المحتضر لا يكاد يقولها إلا بإخلاص ، وتوبة ، وندم على ما مضى ، وعزم على أن لا يعود إلى مثله ، ورجح هذا القول الخطابي في مصنف له مفرد في التوحيد ، وهو حسن .

التالي السابق


الخدمات العلمية