1. الرئيسية
  2. جامع العلوم والحكم
  3. الحديث الثامن والعشرون أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد
صفحة جزء
[ ص: 109 ] الحديث الثامن والعشرون .

عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ، وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله ، كأنها موعظة مودع ، فأوصنا ، قال : أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن تأمر عليكم عبد ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة رواه أبو داود والترمذي ، وقال حديث حسن صحيح .


هذا الحديث خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من رواية ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي ، زاد أحمد في رواية له ، وأبو داود : وحجر بن حجر الكلاعي ، كلاهما عن العرباض بن سارية ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحافظ أبو نعيم : هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين ، قال : ولم يتركه البخاري ومسلم من جهة إنكار منهما له ، وزعم الحاكم أن سبب تركهما له أنهما توهما أنه ليس له [ ص: 110 ] راو عن خالد بن معدان غير ثور بن يزيد ، وقد رواه عنه أيضا بحير بن سعد ومحمد بن إبراهيم التيمي وغيرهما .

قلت : ليس الأمر كما ظنه ، وليس الحديث على شرطهما ، فإنهما لم يخرجا لعبد الرحمن بن عمرو السلمي ، ولا لحجر الكلاعي شيئا ، وليسا ممن اشتهر بالعلم والرواية .

وأيضا فقد اختلف فيه على خالد بن معدان ، فروي عنه كما تقدم ، وروي عنه عن أبي بلال عن العرباض ، وخرجه الإمام أحمد من هذا الوجه أيضا وروي أيضا عن ضمرة بن حبيب ، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي ، عن العرباض ، خرجه من طريقه الإمام أحمد وابن ماجه ، وزاد في حديثه : فقد تركتكم على البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك وزاد في آخر الحديث : فإنما المؤمن كالجمل الأنف ، حيثما قيد انقاد .

وقد أنكر طائفة من الحفاظ هذه الزيادة في آخر الحديث ، وقالوا : هي مدرجة فيه ، وليست منه ، قاله أحمد بن صالح المصري وغيره ، وقد خرجه الحاكم ، وقال في حديثه : وكان أسد بن وداعة يزيد في هذا الحديث : فإن المؤمن كالجمل الأنف ، حيثما قيد انقاد .

وخرجه ابن ماجه أيضا من رواية عبد الله بن العلاء بن زبر ، حدثني يحيى بن أبي المطاع ، سمعت العرباض فذكره ، وهذا في الظاهر إسناد جيد متصل ، ورواته ثقات مشهورون ، وقد صرح فيه بالسماع ، وقد ذكر البخاري في " تاريخه " أن يحيى بن أبي المطاع سمع من العرباض اعتمادا على هذه الرواية ، إلا أن حفاظ أهل الشام أنكروا ذلك ، وقالوا : يحيى بن أبي المطاع لم يسمع من العرباض ، ولم يلقه ، وهذه الرواية غلط ، وممن ذكر ذلك أبو زرعة [ ص: 111 ] الدمشقي ، وحكاه عن دحيم ، وهؤلاء أعرف بشيوخهم من غيرهم ، والبخاري رحمه الله يقع له في تاريخه أوهام في أخبار أهل الشام ، وقد روي عن العرباض من وجوه أخر ، وروي من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن إسناد حديث بريدة لا يثبت ، والله أعلم .

فقول العرباض : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ، وفي رواية أحمد وأبي داود والترمذي : " بليغة " ، وفي روايتهم أن ذلك بعد صلاة الصبح ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يعظ أصحابه في غير الخطب الراتبة ، كخطب الجمع والأعياد ، وقد أمره الله تعالى بذلك ، فقال : وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا [ النساء : 63 ] ، وقال : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ النحل : 125 ] ، ولكنه كان لا يديم وعظهم ، بل يتخولهم به أحيانا ، كما في " الصحيحين " عن أبي وائل ، قال : كان عبد الله بن مسعود يذكرنا كل يوم خميس ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، إنا نحب حديثك ونشتهيه ، ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم ، فقال : ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهة أن أملكم ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا .

والبلاغة في الموعظة مستحسنة ، لأنها أقرب إلى قبول القلوب واستجلابها ، والبلاغة : هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة ، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها ، وأفصحها وأحلاها للأسماع ، وأوقعها في القلوب . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقصر خطبتها ، ولا يطيلها ، بل كان يبلغ ويوجز .

وفي " صحيح مسلم " عن جابر بن سمرة قال : كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 112 ] فكانت صلاته قصدا ، وخطبته قصدا .

وخرجه أبو داود ولفظه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة ، إنما هو كلمات يسيرات .

وخرجه مسلم من حديث أبي وائل قال : خطبنا عمار فأوجز وأبلغ ، فلما نزل ، قلنا : يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت ، فلو كنت تنفست ، قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن طول صلاة الرجل ، وقصر خطبته ، مئنة من فقهه ، فأطيلوا الصلاة ، وأقصروا الخطبة ، فإن من البيان سحرا .

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث الحاكم بن حزن ، قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة فقام متوكئا على عصا أو قوس ، فحمد الله ، وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات .

وخرج أبو داود عن عمرو بن العاص أن رجلا قام يوما ، فأكثر القول ، فقال عمرو : لو قصد في قوله ، لكان خيرا له ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لقد رأيت - أو أمرت - أن أتجوز في القول ، فإن الجواز هو خير .

وقوله : " ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب " هذان الوصفان بهما مدح الله المؤمنين عند سماع الذكر كما قال تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ الأنفال : 2 ] وقال : وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ الحج : 34 - 35 ] وقال : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق [ الحديد : 16 ] ، وقال : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ الزمر : 23 ] ، وقال تعالى : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق [ المائدة : 83 ] .

وكان صلى الله عليه وسلم يتغير حاله عند الموعظة ، كما قال جابر : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب ، وذكر الساعة ، اشتد غضبه ، وعلا صوته ، واحمرت عيناه ، كأنه منذر جيش يقول : صبحكم ومساكم . خرجه مسلم بمعناه .

وفي " الصحيحين " عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس ، فصلى الظهر ، فلما سلم ، قام على المنبر ، فذكر الساعة ، وذكر أن بين يديها أمورا عظاما ، ثم قال : من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه ، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به في مقامي هذا ، قال أنس : فأكثر الناس البكاء وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : سلوني ، فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي يا رسول الله ، قال : النار وذكر الحديث .

وفي " مسند " الإمام أحمد عن النعمان بن بشير أنه خطب ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول : أنذرتكم النار ، حتى لو أن رجلا كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا ، قال : حتى وقعت خميصة على عاتقه عند رجليه .

وفي " الصحيحين " عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتقوا [ ص: 114 ] النار ، قال : ثم وأشاح ، ثم قال : اتقوا النار ، ثم أعرض وأشاح ثلاثا حتى ظننا أنه ينظر إليها ، ثم قال : اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فإن لم يجد فبكلمة طيبة .

وخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن سلمة عن علي ، أو عن الزبير بن العوام ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا ، فيذكرنا بأيام الله ، حتى يعرف ذلك في وجهه ، وكأنه نذير قوم يصبحهم الأمر غدوة ، وكان إذا كان حديث عهد بجبريل لم يتبسم ضاحكا حتى يرتفع عنه .

وخرج الطبراني والبزار من حديث جابر ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الوحي ، أو وعظ ، قلت : نذير قوم أتاهم العذاب ، فإذا ذهب عنه ذلك ، رأيته أطلق الناس وجها ، وأكثرهم ضحكا ، وأحسنهم بشرا ، صلى الله عليه وسلم .

وقولهم : " يا رسول الله ، كأنها موعظة مودع ، فأوصنا " يدل على أنه كان صلى الله عليه وسلم قد أبلغ في تلك الموعظة ما لم يبلغ في غيرها ، فلذلك فهموا أنها موعظة مودع ، فإن المودع يستقصي ما لم يستقص غيره في القول والفعل ، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي صلاة مودع ، لأنه من استشعر أنه مودع بصلاته ، أتقنها على أكمل وجوهها . ولربما كان قد وقع منه صلى الله عليه وسلم تعريض في تلك الخطبة بالتوديع ، كما عرض بذلك في خطبته في حجة الوداع ، وقال : لا أدري ، لعلي لا ألقاكم [ ص: 115 ] بعد عامي هذا وطفق يودع الناس ، فقالوا : هذه حجة الوداع ، ولما رجع من حجه إلى المدينة ، جمع الناس بماء بين مكة والمدينة يسمى خما ، وخطبهم ، وقال : يا أيها الناس ، إنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ثم حض على التمسك بكتاب الله ، ووصى بأهل بيته ، خرجه مسلم .

وفي " الصحيحين " ولفظه لمسلم عن عقبة بن عامر قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد ، ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات ، فقال : إني فرطكم على الحوض ، فإن عرضه ، كما بين أيلة إلى الجحفة ، وإني لست [ ص: 116 ] أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها ، وتقتتلوا ، فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم ، قال عقبة : فكانت آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر .

وخرج
الإمام أحمد ولفظه : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات ، ثم طلع المنبر ، فقال : إني فرطكم ، وأنا عليكم شهيد ، وإن موعدكم الحوض ، وإني لأنظر إليه ، ولست أخشى عليكم الكفر ، ولكن الدنيا أن تنافسوها .

وخرج الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودع ، فقال : أنا محمد النبي الأمي - قال ذلك ثلاث مرات - ولا نبي بعدي ، أوتيت فواتح الكلم وخواتمه . وجوامعه ، وعلمت كم خزنة النار ، وحملة العرش ، وتجوز لي ربي وعوفيت وعوفيت أمتي ، فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم ، فإذا ذهب بي ، فعليكم بكتاب الله ، أحلوا حلاله ، وحرموا حرامه .

فلعل الخطبة التي أشار إليها العرباض بن سارية في حديثه كانت بعض هذه الخطب ، أو شبيها بها مما يشعر بالتوديع .

وقولهم : " فأوصنا " يعنون وصية جامعة كافية ، فإنهم لما فهموا أنه مودع ، استوصوه وصية ينفعهم بها التمسك بعده ، ويكون فيها كفاية لمن تمسك بها ، وسعادة له في الدنيا والآخرة .

وقوله صلى الله عليه وسلم : أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، فهاتان الكلمتان [ ص: 117 ] تجمعان سعادة الدنيا والآخرة .

أما التقوى فهي كافلة بسعادة الدنيا والآخرة لمن تمسك بها ، وهي وصية الله للأولين والآخرين ، كما قال تعالى : ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله [ النساء : 131 ] ، وقد سبق شرح التقوى بما فيه كفاية في شرح حديث وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ .

وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ، ففيها سعادة الدنيا ، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم ، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم ، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر ، إن كان فاجرا عبد المؤمن فيه ربه ، وحمل الفاجر فيها إلى أجله .

وقال الحسن في الأمراء : هم يلون من أمورنا خمسا : الجمعة والجماعة والعيد والثغور والحدود ، والله ما يستقيم الدين إلا بهم ، وإن جاروا وظلموا ، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون ، مع أن - والله - إن طاعتهم لغيظ ، وإن فرقتهم لكفر .

وخرج الخلال في " كتاب الإمارة " من حديث أبي أمامة قال : أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين صلوا العشاء أن احشدوا ، فإن لي إليكم حاجة فلما فرغ من صلاة الصبح ، قال : هل حشدتم كما أمرتكم ؟ قالوا : نعم ، قال : اعبدوا الله ، ولا تشركوا به شيئا ، هل عقلتم هذه ؟ ثلاثا ، قلنا : نعم ، قال : أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، هل عقلتم هذه ؟ ثلاثا ، قلنا : نعم ، قال : اسمعوا وأطيعوا ثلاثا ، هل عقلتم هذه ؟ ثلاثا ، قلنا : نعم ، قال : فكنا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتكلم كلاما طويلا ، ثم نظرنا في كلامه ، فإذا هو قد جمع لنا الأمر كله .

[ ص: 118 ] وبهذين الأصلين وصى النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع أيضا ، كما خرجه الإمام أحمد والترمذي من رواية أم الحصين الأحمسية ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع ، فسمعته يقول : يا أيها الناس ، اتقوا الله ، وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع ، فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله وخرج مسلم منه ذكر السمع والطاعة .

وخرج الإمام أحمد والترمذي أيضا من حديث أبي أمامة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع ، يقول : اتقوا الله ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنة ربكم ، وفي رواية أخرى أنه قال : يا أيها الناس ، إنه لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم وذكر الحديث بمعناه .

وفي " المسند " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من لقي الله لا يشرك به شيئا ، وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه محتسبا ، وسمع وأطاع ، فله الجنة ، أو دخل الجنة .

وقوله صلى الله عليه وسلم : وإن تأمر عليكم عبد وفي رواية حبشي هذا مما تكاثرت به الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو مما اطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم من أمر أمته بعده ، [ ص: 119 ] وولاية العبيد عليهم ، وفي " صحيح البخاري " عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اسمعوا وأطيعوا ، وإن استعمل عليكم عبد حبشي ، كأن رأسه زبيبة .

وفي " صحيح مسلم " عن أبي ذر رضي الله عنه قال : إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أسمع وأطيع ، ولو كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا .

ولا ينافي هذا قوله صلى الله عليه وسلم : لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان ، وقوله : الناس تبع لقريش ، وقوله : الأئمة من قريش ، لأن ولاية العبيد قد تكون من جهة إمام قرشي ، ويشهد لذلك ما خرجه الحاكم من حديث علي رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : الأئمة من قريش أبرارها أمراء أبرارها ، وفجارها أمراء فجارها ، ولكل حق ، فآتوا كل ذي حق حقه ، وإن أمرت عليكم قريش عبدا حبشيا مجدعا ، فاسمعوا له وأطيعوا ، وإسناده جيد ولكنه [ ص: 120 ] روي عن علي موقوفا ، وقال الدارقطني : هو أشبه .

وقد قيل : إن العبد الحبشي إنما ذكر على وجه ضرب المثل وإن لم يصح وقوعه ، كما قال : من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة .

وقوله صلى الله عليه وسلم : فمن يعش منكم بعدي ، فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ . هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بما وقع في أمته بعده من كثرة الاختلاف في أصول الدين وفروعه ، وفي الأقوال والأعمال والاعتقادات ، وهذا موافق لما روي عنه من افتراق أمته على بضع وسبعين فرقة ، وأنها كلها في النار إلا فرقة واحدة ، وهي من كان على ما هو عليه وأصحابه ، وكذلك في هذا الحديث أمر عند الافتراق والاختلاف بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده ، والسنة : هي الطريقة المسلوكة ، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال ، وهذه هي السنة الكاملة ، ولهذا كان السلف قديما لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله ، وروي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفضيل بن عياض .

وكثير من العلماء المتأخرين يخص اسم السنة بما يتعلق بالاعتقادات ، لأنها أصل الدين ، والمخالف فيها على خطر عظيم ، وفي ذكر هذا الكلام بعد الأمر بالسمع والطاعة لأولي الأمر إشارة إلى أنه لا طاعة لأولي الأمر في طاعة [ ص: 121 ] الله ، كما صح عنه أنه قال : إنما الطاعة في المعروف .

وفي " المسند " عن أنس أن معاذ بن جبل قال : يا رسول الله ، أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك ، ولا يأخذون بأمرك ، فما تأمر في أمرهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل .

وخرج ابن ماجه من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون من السنة ويعملون بالبدعة ، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها فقلت : يا رسول الله إن أدركتهم ، كيف أفعل ؟ قال : لا طاعة لمن عصى الله .

وفي أمره صلى الله عليه وسلم باتباع سنته ، وسنة خلفائه الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمور عموما دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين متبعة ، كاتباع سنته ، بخلاف غيرهم من ولاة الأمور .

وفي " مسند الإمام أحمد " و " جامع الترمذي " عن حذيفة قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوسا ، فقال : إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم ، فاقتدوا بالذين من بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر - وتمسكوا بعهد عمار ، وما حدثكم ابن [ ص: 122 ] مسعود فصدقوه وفي رواية : تمسكوا بعهد ابن أم عبد ، واهتدوا بهدي عمار فنص صلى الله عليه وسلم في آخر عمره على من يقتدى به من بعده ، والخلفاء الراشدون الذين أمر بالاقتداء بهم هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، فإن في حديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكا ، وقد صححه الإمام أحمد واحتج به على خلافة الأئمة الأربعة .

ونص كثير من الأئمة على أن عمر بن عبد العزيز خليفة راشد أيضا ، ويدل عليه ما خرجه الإمام أحمد من حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : تكون فيكم النبوة ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ، فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكا عاضا ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكا جبرية ، فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت . فلما ولي عمر بن عبد العزيز ، دخل عليه رجل ، فحدثه بهذا الحديث ، فسر به ، وأعجبه .

وكان محمد بن سيرين أحيانا يسأل عن شيء من الأشربة ، فيقول : نهى [ ص: 123 ] عنه إمام هدى : عمر بن عبد العزيز .

وقد اختلف العلماء في إجماع الخلفاء الأربعة : هل هو إجماع ، أو حجة ، مع مخالفة غيرهم من الصحابة أم لا ؟ وفيه روايتان عن الإمام أحمد ، وحكم أبو خازم الحنفي في زمن المعتضد بتوريث ذوي الأرحام ، ولم يعتد بمن خالف الخلفاء ، ونفذ حكمه في ذلك في الآفاق .

ولو قال بعض الخلفاء الأربعة قولا ، ولم يخالفه منهم أحد ، بل خالفه غيره من الصحابة ، فهل يقدم قوله على قول غيره ؟ فيه قولان أيضا للعلماء ، والمنصوص عن أحمد أنه يقدم قوله على قول غيره من الصحابة ، وكذا ذكره الخطابي وغيره ، وكلام أكثر السلف يدل على ذلك ، خصوصا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال : إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه وكان عمر بن عبد العزيز يتبع أحكامه ، ويستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه .

وقال مالك : قال عمر بن عبد العزيز : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا ، الأخذ بها اعتصام بكتاب الله ، وقوة على دين الله ، وليس لأحد تبديلها ، ولا تغييرها ، ولا النظر في أمر خالفها ، من اهتدى بها فهو مهتد ، ومن استنصر بها فهو منصور ، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ، ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم ، وساءت مصيرا . وحكى عبد الله بن عبد الحكم عن [ ص: 124 ] مالك أنه قال : أعجبني عزم عمر على ذلك ، يعني هذا الكلام . وروى عبد الرحمن بن مهدي هذا الكلام عن مالك ، ولم يحكه عن عمر .

وقال خلف بن خليفة : شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب الناس وهو خليفة ، فقال في خطبته : ألا إن ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه ، فهو وظيفة دين ، نأخذ به وننتهي إليه .

وروى أبو نعيم من حديث عرزب الكندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنه سيحدث بعدي أشياء ، فأحبها إلي أن تلزموا ما أحدث عمر .

وكان علي يتبع أحكامه وقضاياه ، ويقول : إن عمر كان رشيد الأمر .

وروى أشعث عن الشعبي ، قال : إذا اختلف الناس في شيء ، فانظر كيف قضى فيه عمر ، فإنه لم يكن يقضي عمر في أمر لم يقض فيه قبله حتى يشاور .

وقال مجاهد : إذا اختلف الناس في شيء ، فانظروا ما صنع عمر ، فخذوا به . وقال أيوب عن الشعبي : انظروا ما اجتمعت عليه أمة محمد ، فإن الله لم يكن ليجمعها على ضلالة ، فإذا اختلفت فانظروا ما صنع عمر بن الخطاب فخذوا به .

وسئل عكرمة عن أم الولد ، فقال تعتق بموت سيدها ، فقيل له : بأي شيء تقول ؟ قال : بالقرآن ، قال : بأي القرآن ؟ قال : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ النساء : 59 ] ، وعمر من أولي الأمر [ ص: 125 ] وقال وكيع : إذا اجتمع عمر وعلي على شيء فهو الأمر .

وروي عن ابن مسعود أنه كان يحلف بالله : إن الصراط المستقيم هو الذي ثبت عليه عمر حتى دخل الجنة .

وبكل حال ، فما جمع عمر عليه الصحابة ، فاجتمعوا عليه في عصره ، فلا شك أنه الحق ، ولو خالف فيه بعد ذلك من خالف ، كقضائه في مسائل من الفرائض كالعول ، وفي زوج وأبوين وزوجة وأبوين أن للأم ثلث الباقي ، وكقضائه فيمن جامع في إحرامه أنه يمضي في نسكه وعليه القضاء والهدي ، ومثل ما قضى به في امرأة المفقود ، ووافقه غيره من الخلفاء أيضا ، ومثل ما جمع عليه الناس في الطلاق الثلاث ، وفي تحريم متعة النساء ، ومثل ما فعله من وضع الديوان ، ووضع الخراج على أرض العنوة ، وعقد الذمة لأهل الذمة بالشروط التي شرطها عليهم ونحو ذلك .

ويشهد لصحة ما جمع عليه عمر الصحابة ، فاجتمعوا عليه ، ولم يخالف في وقته قول النبي صلى الله عليه وسلم : رأيتني في المنام أنزع على قليب ، فجاء أبو بكر ، فنزع ذنوبا أو ذنوبين ، وفي نزعه ضعف ، والله يغفر له ، ثم جاء عمر بن الخطاب ، فاستحالت غربا ، فلم أر أحدا يفري فريه حتى روي الناس ، وضربوا بعطن وفي رواية : فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع ابن الخطاب وفي رواية : حتى تولى والحوض يتفجر .

[ ص: 126 ] وهذا إشارة إلى أن عمر لم يمت حتى وضع الأمور مواضعها ، واستقامت الأمور ، وذلك لطول مدته ، وتفرغه للحوادث ، واهتمامه بها ، بخلاف مدة أبي بكر فإنها كانت قصيرة ، وكان مشغولا فيها بالفتوح ، وبعث البعوث للقتال ، فلم يتفرغ لكثير من الحوادث ، وربما كان يقع في زمنه ما لا يبلغه ، ولا يرفع إليه ، حتى رفعت تلك الحوادث إلى عمر ، فرد الناس فيها إلى الحق وحملهم على الصواب .

وأما ما لم يجمع عمر الناس عليه ، بل كان له فيه رأي ، وهو يسوغ لغيره أن يرى رأيا يخالف رأيه ، كمسائل الجد مع الإخوة ، ومسألة طلاق البتة ، فلا يكون قول عمر فيه حجة على غيره من الصحابة والله أعلم .

وإنما وصف الخلفاء بالراشدين ، لأنهم عرفوا الحق ، وقضوا به ، فالراشد ضد الغاوي ، والغاوي من عرف الحق وعمل بخلافه .

وفي رواية : " المهديين " يعني : أن الله يهديهم للحق ، ولا يضلهم عنه ، فالأقسام ثلاثة : راشد وغاو وضال ، فالراشد عرف الحق واتبعه ، والغاوي : عرفه ولم يتبعه ، والضال : لم يعرفه بالكلية ، فكل راشد فهو مهتد ، وكل مهتد هداية تامة فهو راشد ، لأن الهداية إنما تتم بمعرفة الحق والعمل به أيضا .

وقوله : عضوا عليها بالنواجذ كناية عن شدة التمسك بها ، والنواجذ : الأضراس .

[ ص: 127 ] قوله : وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة ، وأكد ذلك بقوله : كل بدعة ضلالة والمراد بالبدعة : ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه ، فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه ، فليس ببدعة شرعا ، وإن كان بدعة لغة ، وفي " صحيح مسلم " عن جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : إن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة .

وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث كثير بن عبد الله المزني - وفيه ضعف - عن أبيه عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله ، كان عليه مثل آثام من عمل بها ، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا .

وخرج الإمام أحمد من رواية غضيف بن الحارث الثمالي قال : بعث إلي عبد الملك بن مروان ، فقال : إنا قد جمعنا الناس على أمرين : رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة ، والقصص بعد الصبح والعصر ، فقال : أما إنهما أمثل بدعتكم عندي ، ولست بمجيبكم إلى شيء منها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة .

[ ص: 128 ] وقد روي عن ابن عمر من قوله نحو هذا .

فقوله صلى الله عليه وسلم : كل بدعة ضلالة من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء ، وهو أصل عظيم من أصول الدين ، وهو شبيه بقوله : من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ، فكل من أحدث شيئا ، ونسبه إلى الدين ، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه ، فهو ضلالة ، والدين بريء منه ، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات ، أو الأعمال ، أو الأقوال الظاهرة والباطنة .

وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع ، فإنما ذلك في البدع اللغوية ، لا الشرعية ، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد ، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال : نعمت البدعة هذه . وروي عنه أنه قال : إن كانت هذه بدعة ، فنعمت البدعة . وروي عن أبي بن كعب ، قال له : إن هذا لم يكن ، فقال عمر : قد علمت ، ولكنه حسن ، ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت ، ولكن له أصول من الشريعة يرجع إليها ، فمنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على قيام رمضان ، ويرغب فيه ، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانا ، وهو صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة ، ثم امتنع من ذلك معللا بأنه خشي أن يكتب عليهم ، فيعجزوا عن القيام به ، وهذا قد أمن بعده صلى الله عليه وسلم ، وروي عنه أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر .

[ ص: 129 ] ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنة خلفائه الراشدين ، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين ، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمان وعلي .

ومن ذلك : أذان الجمعة الأول ، زاده عثمان لحاجة الناس إليه ، وأقره علي ، واستمر عمل المسلمين عليه ، وروي عن ابن عمر أنه قال : هو بدعة ، ولعله أراد ما أراد أبوه في قيام رمضان .

ومن ذلك جمع المصحف في كتاب واحد ، توقف فيه زيد بن ثابت وقال لأبي بكر وعمر : كيف تفعلان ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ثم علم أنه مصلحة ، فوافق على جمعه ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة الوحي ، ولا فرق بين أن يكتب مفرقا أو مجموعا ، بل جمعه صار أصلح .

وكذلك جمع عثمان الأمة على مصحف واحد وإعدامه لما خالفه خشية تفرق الأمة ، وقد استحسنه علي وأكثر الصحابة ، وكان ذلك عين المصلحة .

وكذلك قتال من منع الزكاة توقف فيه عمر وغيره حتى بين له أبو بكر أصله الذي يرجع إليه من الشريعة ، فوافقه الناس على ذلك .

ومن ذلك القصص ، وقد سبق قول غضيف بن الحارث : إنه بدعة ، وقال الحسن : القصص بدعة ، ونعمت البدعة ، كم من دعوة مستجابة ، وحاجة مقضية ، وأخ مستفاد . وإنما عنى هؤلاء بأنه بدعة الهيئة الاجتماعية عليه في وقت [ ص: 130 ] معين ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له وقت معين يقص على أصحابه فيه غير خطبته الراتبة في الجمع والأعياد ، وإنما كان يذكرهم أحيانا ، أو عند حدوث أمر يحتاج إلى التذكير عنده ، ثم إن الصحابة اجتمعوا على تعيين وقت له كما سبق عن ابن مسعود أنه كان يذكر أصحابه كل يوم خميس .

وفي " صحيح البخاري " عن ابن عباس قال : حدث الناس في كل جمعة مرة ، فإن أبيت ، فمرتين ، فإن أكثرت فثلاثا ، ولا تمل الناس .

وفي " المسند " عن عائشة أنها وصت قاص أهل المدينة بمثل ذلك . وروي عنها أنها قالت لعبيد بن عمير : حدث الناس يوما ، ودع الناس يوما ، لا تملهم . وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أمر القاص أن يقص كل ثلاثة أيام مرة . وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أمر القاص أن يقص كل ثلاثة أيام مرة . وروي عنه أنه قال : روح الناس ولا تثقل عليهم ، ودع القصص يوم السبت ويوم الثلاثاء . [ ص: 131 ] وقد روى الحافظ أبو نعيم بإسناد عن إبراهيم بن الجنيد ، [ حدثنا حرملة بن يحيى ] قال : سمعت الشافعي رحمة الله عليه يقول : البدعة بدعتان : بدعة محمودة ، وبدعة مذمومة ، فما وافق السنة فهو محمود ، وما خالف السنة فهو مذموم . واحتج بقول عمر : نعمت البدعة هي .

ومراد الشافعي رحمه الله ما ذكرناه من قبل : أن البدعة المذمومة ما ليس لها أصل من الشريعة يرجع إليه ، وهي البدعة في إطلاق الشرع ، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة ، يعني : ما كان لها أصل من السنة يرجع إليه ، وإنما هي بدعة لغة لا شرعا ، لموافقتها السنة .

وقد روي عن الشافعي كلام آخر يفسر هذا ، وأنه قال : والمحدثات ضربان : ما أحدث مما يخالف كتابا ، أو سنة ، أو أثرا ، أو إجماعا ، فهذه البدعة الضلال ، وما أحدث فيه من الخير ، لا خلاف فيه لواحد من هذا ، وهذه محدثة غير مذمومة .

وكثير من الأمور التي حدثت ولم يكن قد اختلف العلماء في أنها بدعة حسنة حتى ترجع إلى السنة أم لا ؟ فمنها كتابة الحديث ، نهى عنه عمر وطائفة من الصحابة ، ورخص فيها الأكثرون ، واستدلوا له بأحاديث من السنة .

ومنها كتابة تفسير الحديث والقرآن ، كرهه قوم من العلماء ، ورخص فيه كثير منهم .

وكذلك اختلافهم في كتابة الرأي في الحلال والحرام ونحوه ، وفي توسعة الكلام في المعاملات وأعمال القلوب التي لم تنقل عن الصحابة والتابعين . وكان الإمام أحمد يكره أكثر ذلك .

[ ص: 132 ] وفي هذه الأزمان التي بعد العهد فيها بعلوم السلف يتعين ضبط ما نقل عنهم من ذلك كله ، ليتميز به ما كان من العلم موجودا في زمانهم ، وما حدث من ذلك بعدهم ، فيعلم بذلك السنة من البدعة .

وقد صح عن ابن مسعود أنه قال : إنكم قد أصبحتم اليوم على الفطرة ، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم ، فإذا رأيتم محدثة ، فعليكم بالهدي الأول . وابن مسعود قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين .

وروى ابن حميد عن مالك قال : لم يكن شيء من هذه الأهواء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان . وكأن مالكا يشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرق في أصول الديانات من أمر الخوارج والروافض والمرجئة ونحوهم ممن تكلم في تكفير المسلمين ، واستباحة دمائهم وأموالهم ، أو في تخليدهم في النار ، أو في تفسيق خواص هذه الأمة ، أو عكس ذلك ، فزعم أن المعاصي لا تضر أهلها ، أو أنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد .

وأصعب من ذلك ما أحدث من الكلام في أفعال الله تعالى من قضائه وقدره ، فكذب بذلك من كذب ، وزعم أنه نزه الله بذلك عن الظلم .

وأصعب من ذلك ما أحدث من الكلام في ذات الله وصفاته ، مما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان ، فقوم نفوا كثيرا مما أورد في الكتاب والسنة من ذلك ، وزعموا أنهم فعلوه تنزيها لله عما تقتضي العقول تنزيهه عنه ، وزعموا أن لازم ذلك مستحيل على الله عز وجل ، وقوم لم يكتفوا بإثباته ، حتى أثبتوا بإثباته ما يظن أنه لازم له بالنسبة إلى المخلوقين ، وهذه اللوازم نفيا [ ص: 133 ] وإثباتا درج صدر الأمة على السكوت عنها .

ومما أحدث في الأمة بعد عصر الصحابة والتابعين الكلام في الحلال والحرام بمجرد الرأي ، ورد كثير مما وردت به السنة في ذلك لمخالفته للرأي والأقيسة العقلية .

ومما حدث بعد ذلك الكلام في الحقيقة بالذوق والكشف ، وزعم أن الحقيقة تنافي الشريعة ، وأن المعرفة وحدها تكفي مع المحبة ، وأنه لا حاجة إلى الأعمال ، وأنها حجاب ، أو أن الشريعة إنما يحتاج إليها العوام ، وربما انضم إلى ذلك الكلام في الذات والصفات بما يعلم قطعا مخالفته للكتاب والسنة ، وإجماع سلف الأمة ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية