1. الرئيسية
  2. جامع العلوم والحكم
  3. الحديث التاسع والعشرون يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار
صفحة جزء
[ ص: 134 ] الحديث التاسع والعشرون .

عن معاذ رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ، قال : لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت . ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وصلاة الرجل في جوف الليل ، ثم تلا : تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ : يعلمون [ السجدة : 16 - 17 ] ، ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد ، ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه ، قال : كف عليك هذا قلت : يا نبي الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم ، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .


[ ص: 135 ] هذا الحديث خرجه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من رواية معمر عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل ، عن معاذ بن جبل ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

وفيما قاله رحمه الله نظر من وجهين : أحدهما : أنه لم يثبت سماع أبي وائل من معاذ ، وإن كان قد أدركه بالسن وكان معاذ بالشام ، وأبو وائل بالكوفة ، وما زال الأئمة - كأحمد وغيره - يستدلون على انتفاء السماع بمثل هذا ، وقد قال أبو حاتم الرازي في سماع أبي وائل من أبي الدرداء : قد أدركه ، وكان بالكوفة وأبو الدرداء بالشام ، يعني : أنه لم يصح له سماع منه . وقد حكى أبو زرعة الدمشقي عن قوم أنهم توقفوا في سماع أبي وائل من عمر ، أو نفوه ، فسماعه من معاذ أبعد .

والثاني : أنه قد رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود ، عن شهر بن حوشب ، عن معاذ ، خرجه الإمام أحمد مختصرا ، قال الدارقطني : وهو أشبه بالصواب ؛ لأن الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عليه فيه .

قلت : رواية شهر عن معاذ مرسلة يقينا ، وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه ، وقد خرجه الإمام أحمد من رواية شهر عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ ، وخرجه الإمام أحمد أيضا من رواية عروة بن النزال أو النزال بن عروة ، وميمون بن أبي شبيب ، كلاهما عن معاذ ، ولم يسمع عروة ولا ميمون من معاذ ، وله طرق أخرى عن معاذ كلها ضعيفة .

وقوله : " أخبرني بعمل يدخلني الجنة ، ويباعدني عن النار " وقد تقدم في شرح الحديث الثاني والعشرين من وجوه ثابتة من حديث أبي هريرة وأبي أيوب [ ص: 136 ] وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل هذه المسألة ، وأجاب بنحو ما أجاب به في حديث معاذ .

وفي رواية الإمام أحمد في حديث معاذ أنه قال : يا رسول الله ، إني أريد أن أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني ، قال : سل عما شئت ، قال : أخبرني بعمل يدخلني الجنة لا أسألك غيره ، وهذا يدل على شدة اهتمام معاذ رضي الله عنه بالأعمال الصالحة ، وفيه دليل على أن الأعمال سبب لدخول الجنة ، كما قال تعالى : وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون [ الزخرف : 72 ] .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم : لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله فالمراد - والله أعلم - أن العمل بنفسه لا يستحق به أحد الجنة لولا أن الله جعله - بفضله ورحمته - سببا لذلك والعمل بنفسه من رحمة الله وفضله على عبده ، فالجنة وأسبابها كل من فضل الله ورحمته .

وقوله : لقد سألت عن عظيم قد سبق في شرح الحديث المشار إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله عن مثل هذا : لئن كنت أوجزت المسألة ، لقد أعظمت وأطولت ، وذلك لأن دخول الجنة والنجاة من النار أمر عظيم جدا ، ولأجله أنزل الله الكتب ، وأرسل الرسل ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل : كيف تقول إذا صليت ؟ قال : أسأل الله الجنة ، وأعوذ به من النار ، ولا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ ، يشير إلى كثرة دعائهما واجتهادهما في المسألة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : حولها ندندن وفي رواية : هل تصير دندنتي ودندنة معاذ إلا أن نسأل الله الجنة ، [ ص: 137 ] ونعوذ به من النار .

وقوله : وإنه ليسير على من يسره الله عليه : إشارة إلى أن التوفيق كله بيد الله عز وجل ، فمن يسر الله عليه الهدى اهتدى ، ومن لم ييسره عليه ، لم ييسر له ذلك ؛ قال الله تعالى : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى [ الليل : 5 - 10 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ، ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : واهدني ويسر الهدى لي ، وأخبر الله عن نبيه موسى عليه السلام أنه قال في دعائه : رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري [ طه : 25 - 26 ] ، وكان ابن عمر يدعو : اللهم يسرني لليسرى ، وجنبني العسرى .

وقد سبق في شرح الحديث المشار إليه توجيه ترتيب دخول الجنة على [ ص: 138 ] الإتيان بأركان الإسلام الخمسة ، وهي : التوحيد ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج .

وقوله : ألا أدلك على أبواب الخير : لما رتب دخول الجنة على واجبات الإسلام ، دله بعد ذلك على أبواب الخير من النوافل ، فإن أفضل أولياء الله هم المقربون ، الذين يتقربون إليه بالنوافل بعد أداء الفرائض .

وقوله : الصوم جنة هذا الكلام ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة ، وخرجاه في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخرجه الإمام أحمد بزيادة ، وهي الصيام جنة وحصن حصين من النار .

وخرج من حديث عثمان بن أبي العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : الصوم جنة من النار ، كجنة أحدكم من القتال .

ومن حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : قال ربنا عز وجل : الصيام جنة يستجن بها العبد من النار .

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي عبيدة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصيام جنة ما لم يخرقها ، وقوله : ما لم يخرقها يعني : بالكلام السيئ ونحوه ، ولهذا في حديث أبي هريرة المخرج في " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم : الصيام [ ص: 139 ] جنة ، فإذا كان يوم صوم أحدكم ، فلا يرفث ، ولا يفسق ، ولا يجهل ، فإن امرؤ سابه فليقل : إني امرؤ صائم .

وقال بعض السلف : الغيبة تخرق الصيام ، والاستغفار يرفعه ، فمن استطاع منكم أن لا يأتي بصوم مخرق فليفعل .

وقال ابن المنكدر : الصائم إذا اغتاب خرق ، وإذا استغفر رقع .

وخرج الطبراني بإسناد فيه نظر عن أبي هريرة مرفوعا : الصيام جنة ما لم يخرقها ، قيل : بم يخرقه ؟ قال : بكذب أو غيبة .

فالجنة : هي ما يستجن به العبد ، كالمجن الذي يقيه عند القتال من الضرب ، فكذلك الصيام يقي صاحبه من المعاصي في الدنيا ، كما قال عز وجل : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة : 183 ] ، فإذا كان له جنة من المعاصي ، كان له في الآخرة جنة من النار ، وإن لم يكن له جنة في الدنيا من المعاصي ، لم يكن له جنة في الآخرة من النار .

وخرج ابن مردويه من حديث علي مرفوعا ، قال : بعث الله يحيى بن زكريا إلى بني إسرائيل بخمس كلمات ، فذكر الحديث بطوله ، وفيه : وإن الله يأمركم أن تصوموا ، ومثل ذلك كمثل رجل مشى إلى عدوه ، وقد أخذ للقتال جنة ، فلا يخاف من حيث ما أتي . وخرجه من وجه آخر عن علي موقوفا ، وفيه قال : الصيام مثله كمثل رجل انتصره الناس ، فاستحد في السلاح ، حتى ظن أن لن يصل إليه سلاح العدو ، فكذلك الصيام جنة .

[ ص: 140 ] وقوله : والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار هذا الكلام روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر ، فخرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : الصوم جنة حصينة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار .

وخرجه الطبراني وغيره من حديث أنس مرفوعا بمعناه .

وخرجه الترمذي وابن حبان في " صحيحه " من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن صدقة السر لتطفئ غضب الرب ، وتدفع ميتة السوء .

وروي عن علي بن الحسين أنه كان يحمل الخبز على ظهره بالليل يتبع به المساكين في ظلمة الليل ، ويقول : إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب عز وجل . وقد قال الله عز وجل : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم [ البقرة : 271 ] ، فدل على أن الصدقة يكفر بها من السيئات : إما مطلقا ، أو صدقة السر .

[ ص: 141 ] وقوله : وصلاة الرجل في جوف الليل يعني أنها تطفئ الخطيئة أيضا كالصدقة ، ويدل على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من رواية عروة بن النزال عن معاذ قال : أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك ، فذكر الحديث ، وفيه : إن الصوم جنة ، والصدقة وقيام العبد في جوف الليل يكفر الخطيئة .

وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل .

وقد روي عن جماعة من الصحابة : أن الناس يحترقون بالنهار بالذنوب ، وكلما قاموا إلى صلاة من الصلوات المكتوبات أطفئوا ذنوبهم ، وروي ذلك مرفوعا من وجوه فيها نظر .

وكذلك قيام الليل يكفر الخطايا ، لأنه أفضل نوافل الصلاة ، وفي " الترمذي " من حديث بلال عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : عليكم بقيام الليل ، فإنه دأب الصالحين قبلكم ، وإن قيام الليل قربة إلى الله عز وجل ، ومنهاة عن الإثم ، وتكفير للسيئات ، ومطردة للداء عن الجسد . وخرجه أيضا من حديث أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وقال : هو أصح من حديث بلال . وخرجه الحاكم وابن خزيمة في " صحيحيهما " من حديث أبي أمامة أيضا .

[ ص: 142 ] وقال ابن مسعود : فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية . وخرجه أبو نعيم عنه مرفوعا والموقوف أصح .

وقد تقدم أن صدقة السر تطفئ الخطيئة ، وتطفئ غضب الرب ، فكذلك صلاة الليل .

وقوله : " ثم تلا تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [ السجدة : 16 - 17 ] يعني : أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هاتين الآيتين عند ذكره فضل صلاة الليل ، ليبين بذلك فضل صلاة الليل ، وقد روي عن أنس أن هذه الآية نزلت في انتظار صلاة العشاء ، خرجه الترمذي وصححه . وروي عنه أنه قال في هذه الآية : كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء ، خرجه أبو داود . وروي نحوه عن بلال ، وخرجه البزار بإسناد ضعيف .

وكل هذا يدخل في عموم لفظ الآية ، فإن الله مدح الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع لدعائه ، فيشمل ذلك كل من ترك النوم بالليل لذكر الله ودعائه ، [ ص: 143 ] فيدخل فيه من صلى بين العشاءين ، ومن انتظر صلاة العشاء فلم ينم حتى يصليها لا سيما مع حاجته إلى النوم ، ومجاهدة نفسه على تركه لأداء الفريضة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن انتظر صلاة العشاء : إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة .

ويدخل فيه من نام ثم قام من نومه بالليل للتهجد ، وهو أفضل أنواع التطوع بالصلاة مطلقا .

وربما دخل فيه من ترك النوم عند طلوع الفجر ، وقام إلى أداء صلاة الصبح ، لا سيما مع غلبة النوم عليه ، ولهذا يشرع للمؤذن في أذان الفجر أن يقول في أذانه : الصلاة خير من النوم .

وقوله صلى الله عليه وسلم : وصلاة الرجل في جوف الليل ذكر أفضل أوقات التهجد بالليل ، وهو جوف الليل ، وخرج الترمذي والنسائي من حديث أبي أمامة ، قال : قيل : يا رسول الله ، أي الدعاء أسمع ؟ قال : جوف الليل الآخر ، ودبر الصلوات المكتوبات .

وخرجه ابن أبي الدنيا ، ولفظه : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أي الصلاة [ ص: 144 ] أفضل ؟ قال : جوف الليل الأوسط قال : أي الدعاء أسمع ؟ قال : دبر المكتوبات .

وخرج النسائي من حديث أبي ذر قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الليل خير ؟ قال : خير الليل جوفه . وخرج الإمام أحمد من حديث أبي مسلم قال : قلت لأبي ذر : أي قيام الليل أفضل ؟ قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم كما سألتني ، فقال : جوف الليل الغابر أو نصف الليل ، وقليل فاعله .

وخرجه البزار ، والطبراني من حديث ابن عمر قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الليل أجوب دعوة ؟ قال : جوف الليل زاد البزار في روايته : " الآخر " .

وخرج الترمذي من حديث عمرو بن عبسة سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر ، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تلك الساعة فكن ، وصححه ، وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه قال : قلت : يا رسول الله ، أي الساعات أفضل ؟ قال : جوف الليل الآخر وفي رواية له أيضا : قال : جوف الليل الآخر أجوبه دعوة ، وفي رواية له : قلت : يا رسول الله ، هل من ساعة أقرب إلى الله من أخرى ؟ قال : جوف الليل الآخر . وخرجه ابن ماجه ، وعنده : جوف الليل الأوسط وفي رواية الإمام أحمد عن عمرو بن عبسة ، قال : قلت : يا رسول الله ، هل من ساعة أفضل من ساعة ؟ قال : إن الله ليتدلى في جوف الليل ، فيغفر إلا ما كان من الشرك .

[ ص: 145 ] وقد قيل : إن جوف الليل إذا أطلق ، فالمراد به وسطه ، وإن قيل : جوف الليل الآخر ، فالمراد وسط النصف الثاني ، وهو السدس الخامس من أسداس الليل ، وهو الوقت الذي ورد فيه النزول الإلهي .

وقوله صلى الله عليه وسلم : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد وفي رواية للإمام أحمد من رواية شهر بن حوشب ، عن ابن غنم ، عن معاذ قال : قال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم : إن شئت حدثتك برأس هذا الأمر وقوام هذا الأمر وذروة السنام ، قلت بلى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن رأس هذا الأمر أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإن قوام هذا الأمر إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وإن ذروة السنام منه الجهاد في سبيل الله ، وإنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، ويشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فإذا فعلوا ذلك ، فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله عز وجل . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفس محمد بيده ، ما شحب وجه ، ولا اغبرت قدم في عمل يبتغى فيه درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كالجهاد في سبيل الله ، ولا ثقل ميزان عبد كدابة تنفق له في سبيل الله ، أو يحمل عليها في سبيل الله عز وجل .

فأخبرني النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة أشياء : رأس الأمر ، وعموده ، وذروة سنامه
.

فأما رأس الأمر ، ويعني بالأمر الدين الذي بعث به وهو الإسلام ، وقد جاء تفسيره في الرواية الأخرى بالشهادتين ، فمن لم يقر بهما ظاهرا وباطنا ، فليس من الإسلام في شيء .

[ ص: 146 ] وأما قوام الدين الذي يقوم به الدين كما يقوم الفسطاط على عموده ، فهي الصلاة ، وفي الرواية الأخرى : وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وقد سبق القول في أركان الإسلام وارتباط بعضها ببعض .

وأما ذروة سنامه - وهو أعلى ما فيه وأرفعه - فهو الجهاد ، وهذا يدل على أنه أفضل الأعمال بعد الفرائض ، كما هو قول الإمام أحمد وغيره من العلماء .

وقوله في رواية الإمام أحمد : والذي نفس محمد بيده ما شحب وجه ولا اغبرت قدم في عمل يبتغى به درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله عز وجل يدل على ذلك صريحا .

وفي " الصحيحين " عن أبي ذر ، قال : قلت : يا رسول الله ، أي العمل أفضل ؟ قال : إيمان بالله وجهاد في سبيله .

وفيهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أفضل الأعمال إيمان بالله ، ثم جهاد في سبيل الله .

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا .

وقوله : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسان نفسه فقال : كف عليك هذا إلى آخر الحديث . هذا يدل على أن كف اللسان وضبطه وحبسه هو أصل الخير كله ، وأن من ملك لسانه ، فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه ، وقد سبق الكلام على هذا المعنى في شرح حديث من كان يؤمن بالله [ ص: 147 ] واليوم الآخر ، فليقل خيرا أو ليصمت . وفي شرح حديث : قل آمنت بالله ، ثم استقم . وخرج البزار في " مسنده " من حديث أبي اليسر أن رجلا قال : يا رسول الله ، دلني على عمل يدخلني الجنة ، قال : أمسك هذا وأشار إلى لسانه ، فأعادها عليه ، فقال : ثكلتك أمك ، هل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم وقال : إسناده حسن .

والمراد بحصائد الألسنة : جزاء الكلام المحرم وعقوباته ؛ فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع ، فمن زرع خيرا من قول أو عمل ، حصد الكرامة ، ومن زرع شرا من قول أو عمل ، حصد غدا الندامة .

وظاهر حديث معاذ يدل على أن أكثر ما يدخل به الناس النار النطق بألسنتهم ، فإن معصية النطق يدخل فيها الشرك وهي أعظم الذنوب عند الله عز وجل ، ويدخل فيها القول على الله بغير علم ، وهو قرين الشرك ، ويدخل فيها شهادة الزور التي عدلت الإشراك بالله عز وجل ، ويدخل فيها السحر والقذف وغير ذلك من الكبائر والصغائر ؛ كالكذب والغيبة والنميمة ، وسائر المعاصي الفعلية لا يخلو غالبا من قول يقترن بها يكون معينا عليها .

وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان : الفم والفرج خرجه الإمام أحمد والترمذي .

وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الرجل ليتكلم [ ص: 148 ] بالكلمة ما يتبين ما فيها ، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب وخرجه الترمذي ، ولفظه : إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار .

وروى مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه أن عمر دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وهو يجبذ لسانه ، فقال عمر : مه ، غفر الله لك ! فقال أبو بكر : هذا الذي أوردني الموارد .

وقال ابن بريدة : رأيت ابن عباس آخذ بلسانه وهو يقول : ويحك قل خيرا تغنم ، أو اسكت عن سوء تسلم ، وإلا فاعلم أنك ستندم ، قال : فقيل له : يا ابن عباس ، لم تقول هذا ؟ قال : إنه بلغني أن الإنسان - أراه قال - ليس على شيء من جسده أشد حنقا أو غيظا يوم القيامة منه على لسانه إلا ما قال به خيرا ، أو أملى به خيرا .

وكان ابن مسعود يحلف بالله الذي لا إله إلا هو : ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان .

وقال الحسن : اللسان أمير البدن ، فإذا جنى على الأعضاء شيئا ، جنت ، وإذا عف عفت .

[ ص: 149 ] وقال يونس بن عبيد : ما رأيت أحدا لسانه منه على بال إلا رأيت ذلك صلاحا في سائر عمله .

وقال يحيى بن أبي كثير : ما صلح منطق رجل إلا عرفت ذلك في سائر عمله ، ولا فسد منطق رجل قط ، إلا عرفت ذلك في سائر عمله .

وقال المبارك بن فضالة ، عن يونس بن عبيد : لا تجد شيئا من البر واحدا يتبعه البر كله غير اللسان ، فإنك تجد الرجل يصوم النهار ، ويفطر على حرام ، ويقوم الليل ويشهد بالزور بالنهار - وذكر أشياء نحو هذا - ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحق فيخالف ذلك عمله أبدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية