صفحة جزء
[ ص: 144 ] الحديث الثالث عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان ، رواه البخاري ومسلم .
هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية عكرمة بن خالد ، عن ابن عمر ، وخرجه مسلم من طريقين آخرين ، عن ابن عمر ، وله طرق أخرى عنه . وقد روي هذا الحديث من رواية جرير بن عبد الله البجلي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وخرج حديثه الإمام أحمد . وقد سبق في الحديث الذي قبله ذكر الإسلام . [ ص: 145 ] والمراد من هذا الحديث أن الإسلام مبني على هذه الخمس ، فهي كالأركان والدعائم لبنيانه ، وقد خرجه محمد بن نصر المروزي في " كتاب الصلاة " ولفظه : بني الإسلام على خمس دعائم فذكره . والمقصود تمثيل الإسلام ببنيانه ودعائم البنيان هذه الخمس ، فلا يثبت البنيان بدونها ، وبقية خصال الإسلام كتتمة البنيان ، فإذا فقد منها شيء ، نقص البنيان وهو قائم لا ينتقض بنقص ذلك ، بخلاف نقض هذه الدعائم الخمس ؛ فإن الإسلام يزول بفقدها جميعا بغير إشكال ، وكذلك يزول بفقد الشهادتين ، والمراد بالشهادتين الإيمان بالله ورسوله . وقد جاء في رواية ذكرها البخاري تعليقا : " بني الإسلام على خمس : الإيمان بالله ورسوله " وذكر بقية الحديث . وفي رواية لمسلم : " على خمس : على أن يوحد الله " وفي رواية له : " على أن يعبد الله ويكفر بما دونه " . وبهذا يعلم أن الإيمان بالله ورسوله داخل في ضمن الإسلام كما سبق تقريره في الحديث الماضي . وأما إقام الصلاة ، فقد وردت أحاديث متعددة تدل على أن من تركها ، فقد خرج من الإسلام ، ففي " صحيح مسلم " عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ، وروي مثله من حديث بريدة [ ص: 146 ] وثوبان وأنس وغيرهم . وخرج محمد بن نصر المروزي من حديث عبادة بن الصامت ، ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تترك الصلاة متعمدا ، فمن تركها متعمدا ، فقد خرج من الملة . وفي حديث معاذ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاط إلا به ولا يثبت إلا به ولو سقط العمود لسقط الفسطاط ولم يثبت بدونه وقال عمر : لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ، وقال سعد [ ص: 147 ] وعلي بن أبي طالب : من تركها ، فقد كفر . وقال عبد الله بن شقيق : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون من الأعمال شيئا تركه كفر غير الصلاة . وقال أيوب السختياني : ترك الصلاة كفر ، لا يختلف فيه . وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف ، وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق ، وحكى إسحاق عليه إجماع أهل العلم ! وقال محمد بن نصر المروزي : هو قول جمهور أهل الحديث . وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئا من أركان الإسلام الخمسة عمدا أنه كافر بذلك وروي ذلك ، عن سعيد بن جبير ونافع والحكم ، وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه ، وهو قول ابن حبيب من المالكية . وخرج الدارقطني وغيره من حديث أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، الحج في كل عام ؟ قال : لو قلت : نعم ، لوجب عليكم ولو وجب عليكم ، ما أطقتموه ، ولو تركتموه لكفرتم . [ ص: 148 ] وخرج الالكائي من طريق مؤمل ، قال : حدثنا حماد بن زيد بن عمرو بن مالك النكري ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، ولا أحسبه إلا رفعه قال : عرى الإسلام ، وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام : شهادة أن لا إله إلا الله ، والصلاة ، وصوم رمضان . من ترك منهن واحدة ، فهو بها كافر ، حلال الدم ، وتجده كثير المال لم يحج فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل بذلك دمه ، وتجده كثير المال فلا يزكي ، فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه ورواه قتيبة بن سعيد عن حماد بن زيد موقوفا مختصرا ، ورواه سعيد بن زيد أخو حماد ، عن عمرو بن مالك بهذا الإسناد مرفوعا ، وقال : ومن ترك منهن واحدة ، فهو بالله كافر ، ولا يقبل منه صرف ولا عدل ، وقد حل دمه وماله ولم يذكر ما بعده . وقد روي عن عمر ضرب الجزية على من لم يحج ، وقال : ليسوا بمسلمين . وعن ابن مسعود أن تارك الزكاة ليس بمسلم ، وعن أحمد رواية : أن ترك الصلاة والزكاة خاصة كفر دون الصيام والحج . وقال ابن عيينة : المرجئة سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم ، وليس سواء ، لأن ركوب المحارم متعمدا من غير استحلال معصية ، وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر هو كفر . وبيان ذلك في أمر إبليس وعلماء اليهود الذين أقروا بنعت النبي صلى الله عليه وسلم بلسانهم ، ولم يعملوا بشرائعه . [ ص: 149 ] وقد استدل أحمد وإسحاق على كفر تارك الصلاة بكفر إبليس بترك السجود لآدم ، وترك السجود لله أعظم . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد ، اعتزل إبليس يبكي ويقول : يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود ، فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار . واعلم أن هذه الدعائم الخمس بعضها مرتبط ببعض ، وقد روي أنه لا يقبل بعضها بدون بعض كما في " مسند الإمام أحمد " عن زياد بن نعيم الحضرمي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع فرضهن الله في الإسلام فمن أتى بثلاث لم يغنين عنه شيئا حتى يأتي بهن جميعا : الصلاة ، والزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت وهذا مرسل ، وقد روي عن زياد ، عن عمارة بن حزم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروي عن عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدين خمس لا يقبل الله منهن شيئا دون شيء : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وبالجنة والنار ، والحياة بعد الموت هذه واحدة ، والصلوات الخمس عمود الدين لا يقبل الله الإيمان إلا بالصلاة ، والزكاة طهور من الذنوب ، ولا يقبل الله الإيمان ولا الصلاة إلا بالزكاة ، فمن فعل هؤلاء ، ثم جاء رمضان فترك صيامه متعمدا [ ص: 150 ] لم يقبل الله منه الإيمان ، ولا الصلاة ، ولا الزكاة ، فمن فعل هؤلاء الأربع ثم تيسر له الحج ، فلم يحج ، ولم يوص بحجة ، ولم يحج عنه بعض أهله ، لم يقبل الله منه الأربع التي قبلها ذكره ابن أبي حاتم وقال سألت أبي عنه فقال : هذا حديث منكر يحتمل أن هذا من كلام عطاء الخرساني . قلت : الظاهر أنه من تفسيره لحديث ابن عمر ، وعطاء من أجلاء علماء الشام . وقال ابن مسعود : من لم يزك ، فلا صلاة له ، ونفي القبول هنا لا يراد به نفي الصحة ، ولا وجوب الإعادة بتركه ، وإنما يراد بذلك انتفاء الرضا به ، ومدح عامله ، والثناء بذلك عليه في الملأ الأعلى ، والمباهاة به للملائكة . فمن قام بهذه الأركان على وجهها ، حصل له القبول بهذا المعنى ، ومن قام ببعضها دون بعض ، لم يحصل له ذلك ، وإن كان لا يعاقب على ما أتى به منها عقوبة تاركه ، بل تبرأ به ذمته ، وقد يثاب عليه أيضا . ومن هاهنا يعلم أن ارتكاب بعض المحرمات التي ينقص بها الإيمان تكون مانعة من قبول بعض الطاعات ، ولو كان من بعض أركان الإسلام بهذا المعنى الذي ذكرناه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين يوما وقال : من أتى عرافا فصدقه بما يقول ، لم تقبل له صلاة أربعين يوما وقال : أيما عبد أبق من مواليه ، لم تقبل له صلاة . [ ص: 151 ] وحديث ابن عمر يستدل به على أن الاسم إذا شمل أشياء متعددة ، لم يزل زوال الاسم بزوال بعضها ، فيبطل بذلك قول من قال : إن الإيمان لو دخلت فيه الأعمال للزم أن يزول بزوال عمل مما دخل في مسماه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذه الخمس دعائم الإسلام ومبانيه ، وفسر بها الإسلام في حديث جبريل ، وفي حديث طلحة بن عبيد الله الذي فيه أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ، ففسره له بهذه الخمس . ومع هذا فالمخالفون في الإيمان يقولون : لو زال من الإسلام خصلة واحدة ، أو أربع خصال سوى الشهادتين ، لم يخرج بذلك من الإسلام . وقد روى بعضهم أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام ، لا عن الإسلام ، وهذه اللفظة لم تصح عند أئمة الحديث ونقاده ، منهم أبو زرعة الرازي ، ومسلم بن الحجاج ، وأبو جعفر العقيلي وغيرهم . وقد ضرب العلماء مثل الإيمان بمثل شجرة لها أصل وفروع وشعب ، فاسم الشجرة يشتمل على ذلك كله ، ولو زال شيء من شعبها وفروعها لم يزل عنه اسم الشجرة ، وإنما يقال هي شجرة ناقصة أو غيرها أتم منها . وقد ضرب الله مثل الإيمان بذلك في قوله تعالى : ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ( إبراهيم : 24 ) . والمراد بالكلمة كلمة التوحيد ، وبأصلها التوحيد الثابت في القلوب ، وأكلها : هو الأعمال الصالحة الناشئة منه . وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن والمسلم بالنخلة ولو زال شيء من فروع [ ص: 152 ] النخلة ، أو من ثمرها ، لم يزل بذلك عنها اسم النخلة بالكلية ، وإن كانت ناقصة الفروع أو الثمر . ولم يذكر الجهاد في حديث ابن عمر هذا ، مع أن الجهاد أفضل الأعمال ، وفي رواية أن ابن عمر قيل له : فالجهاد ؟ قال الجهاد حسن ، ولكن هكذا حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . خرجه الإمام أحمد . وفي حديث معاذ بن جبل إن رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد ، وذروة سنامه : أعلى شيء فيه ، ولكنه ليس من دعائمه وأركانه التي بني عليها ، وذلك لوجهين : أحدهما : أن الجهاد فرض كفاية عند جمهور العلماء ، ليس بفرض عين بخلاف هذه الأركان . والثاني : أن الجهاد لا يستمر فعله إلى آخر الدهر ، بل إذا نزل عيسى عليه السلام ، ولم يبق حينئذ ملة غير ملة الإسلام ، فحينئذ تضع الحرب أوزارها ، ويستغني عن الجهاد بخلاف هذه الأركان ، فإنها واجبة على المؤمنين إلى أن يأتي أمر الله وهم على ذلك ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية