1. الرئيسية
  2. جامع العلوم والحكم
  3. الحديث الرابع والثلاثون من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه
صفحة جزء
[ ص: 243 ] الحديث الرابع والثلاثون .

عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان . رواه مسلم .


هذا الحديث خرجه مسلم من رواية قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن أبي سعيد ومن رواية إسماعيل بن رجاء ، عن أبيه ، عن أبي سعيد وعنده في حديث طارق قال : أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان ، فقام إليه رجل ، فقال : الصلاة قبل الخطبة ، فقال : قد ترك ما هنالك ، فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه ثم روى هذا الحديث .

وقد روى معناه من وجه آخر ، فخرجه مسلم من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي ، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده ، فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه ، فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه ، فهو مؤمن ، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل . [ ص: 244 ] وروى سالم المرادي عن عمرو بن هرم ، عن جابر بن زيد ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : سيصيب أمتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم ، لا ينجو منه إلا رجل عرف دين الله بلسانه ويده وقلبه ، فذلك الذي سبقت له السوابق ، ورجل عرف دين الله فصدق به ، وللأول عليه سابقة ، ورجل عرف دين الله ، فسكت ، فإن رأى من يعمل بخير أحبه عليه ، وإن رأى من يعمل بباطل أبغضه عليه ، فذلك الذي ينجو على إبطائه وهذا غريب ، وإسناده منقطع .

وخرج الإسماعيلي من حديث أبي هارون العبدي - وهو ضعيف جدا - عن مولى لعمر ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : توشك هذه الأمة أن تهلك إلا ثلاثة نفر : رجل أنكر بيده وبلسانه وبقلبه ، فإن جبن بيده ، فبلسانه وقلبه ، فإن جبن بلسانه وبيده فبقلبه .

وخرج أيضا من رواية الأوزاعي عن عمير بن هانئ ، عن علي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : سيكون بعدي فتن لا يستطيع المؤمن فيها أن يغير بيد ولا بلسان ، قلت : يا رسول الله ، وكيف ذاك ؟ قال : ينكرونه بقلوبهم ، قلت : يا رسول الله ، وهل ينقص ذلك إيمانهم شيئا ؟ قال : لا ، إلا كما ينقص القطر من الصفا ، وهذا الإسناد منقطع . وخرج الطبراني معناه من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد ضعيف .

[ ص: 245 ] فدلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه ، وأما إنكاره بالقلب لا بد منه ، فمن لم ينكر قلبه المنكر ، دل على ذهاب الإيمان من قلبه .

وقد روى عن أبي جحيفة ، قال : قال علي : إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ، ثم الجهاد بألسنتكم ، ثم الجهاد بقلوبكم ، فمن لم يعرف قلبه المعروف ، وينكر قلبه المنكر ، نكس فجعل أعلاه أسفله .

وسمع ابن مسعود رجلا يقول : هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر ، فقال ابن مسعود هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر ، يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد فمن لم يعرفه هلك .

وأما الإنكار باللسان واليد ، فإنما يجب بحسب الطاقة ، وقال ابن مسعود : يوشك من عاش منكم أن يرى منكرا لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره . وفي " سنن أبي داود " عن العرس بن عميرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا عملت الخطيئة في الأرض ، كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ، فمن شهد الخطيئة ، فكرهها قلبه كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده ، ومن غاب عنها فرضيها ، كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات ، ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب ، وهو فرض على كل مسلم ، لا يسقط ، عن أحد في حال من الأحوال .

[ ص: 246 ] وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من حضر معصية فكرهها ، فكأنه غاب عنها ، ومن غاب عنها ، فأحبها ، فكأنه حضرها وهذا مثل الذي قبله .

فتبين بهذا أن الإنكار بالقلب فرض على كل مسلم . في كل حال ، وأما الإنكار باليد واللسان فبحسب القدرة ، كما في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، ثم يقدرون على أن يغيروا فلا يغيروا ، إلا يوشك الله أن يعمهم بعقاب خرجه أبو داود بهذا اللفظ ، وقال : قال شعبة فيه : ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أكثر ممن يعمله .

وخرج أيضا من حديث جرير سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، يقدرون أن يغيروا عليه فلا يغيرون ، إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا .

وخرجه الإمام أحمد ولفظه : ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعمله ، فلم يغيروه ، إلا عمهم الله بعقاب .

وخرج أيضا من حديث عدي بن عميرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم [ ص: 247 ] قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة .

وخرج أيضا هو وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله ليسأل العبد يوم القيامة ، حتى يقول : ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره ، فإذا لقن الله عبدا حجته ، قال : يا رب رجوتك وفرقت الناس .

فأما ما أخرجه الترمذي ، وابن ماجه من حديث أبي سعيد أيضا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته : ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه ، وبكى أبو سعيد ، وقال : قد والله رأينا أشياء فهبنا . وخرجه الإمام أحمد وزاد فيه : فإنه لا يقرب من أجل ، ولا يباعد من رزق أن يقال بحق أو يذكر بعظيم .

وكذلك خرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يحقر أحدكم نفسه قالوا : يا رسول الله ، كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال : يرى أمر الله عليه فيه مقال ، ثم لا يقول فيه ، فيقول الله له يوم القيامة : ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟ فيقول : خشيت الناس ، فيقول الله : إياي كنت أحق أن تخشى .

[ ص: 248 ] فهذان الحديثان محمولان على أن يكون المانع له من الإنكار مجرد الهيبة ، دون الخوف المسقط للإنكار .

قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : آمر السلطان بالمعروف وأنهاه عن المنكر ؟ قال : إن خفت أن يقتلك ، فلا ، ثم عدت ، فقال لي مثل ذلك ، ثم عدت ، فقال لي مثل ذلك ، وقال : إن كنت لا بد فاعلا ، ففيما بينك وبينه .

وقال طاوس : أتى رجل ابن عباس ، فقال : ألا أقوم إلى هذا السلطان فآمره وأنهاه ؟ قال : لا تكن له فتنة ، قال : أفرأيت إن أمرني بمعصية الله ؟ قال : ذلك الذي تريد ، فكن حينئذ رجلا . وقد ذكرنا حديث ابن مسعود الذي فيه : يخلف من بعدهم خلوف ، فمن جاهدهم بيده ، فهو مؤمن الحديث ، وهذا يدل على جهاد الأمراء باليد . وقد استنكر الإمام أحمد هذا الحديث في رواية أبي داود ، وقال : هو خلاف الأحاديث التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بالصبر على جور الأئمة . وقد يجاب عن ذلك بأن التغيير باليد لا يستلزم القتال . وقد نص على ذلك أحمد أيضا في رواية صالح ، فقال : التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح ، وحينئذ فجهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات ، مثل [ ص: 249 ] أن يريق خمورهم أو يكسر آلات الملاهي التي لهم ، ونحو ذلك ، أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على ذلك ، وكل هذا جائز ، وليس هو من باب قتالهم ، ولا من الخروج عليهم الذي ورد النهي عنه ، فإن هذا أكثر ما يخشى منه أن يقتل الآمر وحده .

وأما الخروج عليهم بالسيف ، فيخشى منه الفتن التي تؤدي إلى سفك دماء المسلمين . نعم ، إن خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يؤذي أهله أو جيرانه ، لم ينبغ له التعرض لهم حينئذ ، لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره ، كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره ، ومع هذا ، فمتى خاف منهم على نفسه السيف ، أو السوط ، أو الحبس ، أو القيد ، أو النفي ، أو أخذ المال ، أو نحو ذلك من الأذى ، سقط أمرهم ونهيهم ، وقد نص الأئمة على ذلك ، منهم مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم .

قال أحمد : لا يتعرض للسلطان ، فإن سيفه مسلول .

وقال ابن شبرمة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالجهاد ، يجب على الواحد أن يصابر فيه الاثنين ، ويحرم عليه الفرار منهما ، ولا يجب عليه مصابرة أكثر من ذلك .

فإن خاف السب ، أو سماع الكلام السيئ ، لم يسقط عنه الإنكار بذلك نص عليه الإمام أحمد ، وإن احتمل الأذى ، وقوي عليه ، فهو أفضل ، نص عليه أحمد أيضا ، وقيل له : أليس قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ليس للمؤمن أن يذل نفسه أن يعرضها من البلاء ما لا طاقة له به ، قال : ليس هذا من ذلك .

[ ص: 250 ] ويدل على ما قاله ما خرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر .

وخرج ابن ماجه معناه من حديث أبي أمامة .

[ ص: 251 ] وفي " مسند البزار " بإسناد فيه جهالة عن أبي عبيدة بن الجراح ، قال : قلت : يا رسول الله ، أي الشهداء أكرم على الله ؟ قال : رجل قام إلى إمام جائر ، فأمره بمعروف ، ونهاه عن منكر فقتله . وقد روي معناه من وجوه أخر كلها فيها ضعف .

وأما حديث : لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ، فإنما يدل على أنه إذا علم أنه لا يطيق الأذى ولا يصبر عليه ، فإنه لا يتعرض حينئذ للآمر ، وهذا حق ، وإنما الكلام فيمن علم من نفسه الصبر ، كذلك قاله الأئمة ، كسفيان وأحمد والفضيل بن عياض وغيرهم .

وقد روي عن أحمد ما يدل على الاكتفاء بالإنكار بالقلب ، قال في رواية أبي داود : نحن نرجو إن أنكر بقلبه ، فقد سلم ، وإن أنكر بيده فهو أفضل ، وهذا محمول على أنه يخاف كما صرح بذلك في رواية غير واحد . وقد حكى القاضي أبو يعلى روايتين عن أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يعلم أنه لا يقبل منه ، وصح القول بوجوبه ، وهذا قول أكثر العلماء . وقد قيل لبعض السلف في هذا ، فقال : يكون لك معذرة ، وهذا كما أخبر الله عن الذين أنكروا على المعتدين في السبت أنهم قالوا لمن قال لهم : أتعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون [ الأعراف : 164 ] ، [ ص: 252 ] وقد ورد ما يستدل به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول والانتفاع به ، ففي " سنن أبي داود وابن ماجه والترمذي عن أبي ثعلبة الخشني أنه قيل له : كيف تقول في هذه الآية : عليكم أنفسكم [ المائدة : 105 ] ، فقال : أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : بل ائتمروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بنفسك ، ودع عنك أمر العوام .

وفي " سنن أبي داود " عن عبد الله بن عمرو ، قال : بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ ذكر الفتنة ، فقال : إذا رأيتم الناس مرجت عهودهم ، وخفت أماناتهم ، وكانوا هكذا وشبك أصابعه ، فقمت إليه ، فقلت له : كيف أفعل عند ذلك ، جعلني الله فداك ؟ فقال : الزم بيتك ، واملك عليك لسانك ، وخذ بما تعرف ، ودع ما تنكر ، وعليك بأمر خاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة .

وكذلك روي عن طائفة من الصحابة في قوله تعالى : عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ المائدة : 105 ] ، قالوا : لم يأت تأويلها بعد ، إنما تأويلها في آخر الزمان .

وعن ابن مسعود قال : إذا اختلفت القلوب والأهواء ، وألبستم شيعا ، وذاق بعضكم بأس بعض ، فيأمر الإنسان حينئذ نفسه ، حينئذ تأويل هذه الآية .

[ ص: 253 ] وعن ابن عمر : قال : هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا ، إن قالوا لم يقبل منهم . وقال جبير بن نفير عن جماعة من الصحابة ، قالوا : إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك حينئذ بنفسك ، لا يضرك من ضل إذا اهتديت .

وعن مكحول ، قال : لم يأت تأويلها بعد ، إذا هاب الواعظ ، وأنكر الموعوظ ، فعليك حينئذ بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت .

وعن الحسن : أنه كان إذا تلا هذه الآية ، قال : يا لها من ثقة ما أوثقها ! ومن سعة ما أوسعها ! .

وهذا كله قد يحمل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف ، أو خاف الضرر ، سقط عنه ، وكلام ابن عمر يدل على أن من علم أنه لا يقبل منه ، لم يجب عليه ، كما حكي رواية عن أحمد ، وكذا قال الأوزاعي : مر من ترى أن يقبل منك .

وقوله صلى الله عليه وسلم في الذي ينكر بقلبه : وذلك أضعف الإيمان يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصال الإيمان ، ويدل على أن من قدر على خصلة من خصال الإيمان وفعلها ، كان أفضل ممن تركها عجزا عنها ، ويدل على ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في حق النساء : أما نقصان دينها ، فإنها تمكث الأيام والليالي لا تصلي يشير إلى أيام الحيض ، مع أنها ممنوعة من الصلاة [ ص: 254 ] حينئذ ، وقد جعل ذلك نقصا في دينها ، فدل على أن من قدر على واجب وفعله ، فهو أفضل ممن عجز عنه وتركه ، وإن كان معذورا في تركه ، والله أعلم .

وقوله صلى الله عليه وسلم : من رأى منكم منكرا يدل على أن الإنكار متعلق بالرؤية ، فلو كان مستورا فلم يره ، ولكن علم به ، فالمنصوص عن أحمد في أكثر الروايات أنه لا يعرض له ، وأنه لا يفتش عما استراب به ، وعنه رواية أخرى أنه يكشف المغطى إذا تحققه ، ولو سمع صوت غناء محرم أو آلات الملاهي ، وعلم المكان التي هي فيه ، فإنه ينكرها ، لأنه قد تحقق المنكر ، وعلم موضعه ، فهو كما رآه ، ونص عليه أحمد ، وقال : إذا لم يعلم مكانه ، فلا شيء عليه .

وأما تسور الجدران على من علم اجتماعهم على منكر ، فقد أنكره الأئمة مثل سفيان الثوري وغيره ، وهو داخل في التجسس المنهي عنه ، وقد قيل لابن مسعود : إن فلانا تقطر لحيته خمرا ، فقال : نهانا الله عن التجسس .

وقال القاضي أبو يعلى في كتاب " الأحكام السلطانية " : إن كان في المنكر الذي غلب على ظنه الاستسرار به بإخبار ثقة عنه انتهاك حرمة يفوت استدراكها كالزنا والقتل ، فله التجسس والإقدام على الكشف والبحث حذرا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم ، وإن كان دون ذلك في الرتبة ، لم يجز التجسس عليه ، ولا الكشف عنه .

والمنكر الذي يجب إنكاره : ما كان مجمعا عليه ، فأما المختلف فيه ، فمن أصحابنا من قال : لا يجب إنكاره على من فعله مجتهدا فيه ، أو مقلدا لمجتهد تقليدا سائغا .

واستثنى القاضي في " الأحكام السلطانية " ما ضعف فيه الخلاف وكان [ ص: 255 ] ذريعة إلى محظور متفق عليه ، كربا النقد الخلاف فيه ضعيف ، وهو ذريعة إلى ربا النساء المتفق على تحريمه ، وكنكاح المتعة ، فإنه ذريعة إلى الزنا . وذكر عن إسحاق بن شاقلا أنه ذكر أن المتعة هي الزنا صراحا .

عن ابن بطة قال : لا يفسخ نكاح حكم به قاض إن كان قد تأول فيه تأويلا ، إلا أن يكون قضى لرجل بعقد متعة ، أو طلق ثلاثا في لفظ واحد ، وحكم بالمراجعة من غير زوج ، فحكمه مردود ، وعلى فاعله العقوبة والنكال .

والمنصوص عن أحمد الإنكار على اللاعب بالشطرنج ، وتأوله القاضي على من لعب بها بغير اجتهاد ، أو تقليد سائغ ، وفيه نظر ، فإن المنصوص عنه أنه يحد شارب النبيذ المختلف فيه ، وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار ، مع أنه لا يفسق بذلك عنده ، فدل على أنه ينكر كل مختلف فيه ضعف الخلاف فيه ، لدلالة السنة على تحريمه ، ولا يخرج فاعله المتأول من العدالة بذلك ، والله أعلم . وكذلك نص أحمد على الإنكار على من لا يتم صلاته ولا يقيم صلبه من الركوع والسجود ، مع وجود الاختلاف في وجوب ذلك .

واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة يحمل عليه رجاء ثوابه ، وتارة خوف العقاب في تركه ، وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه ، وتارة النصيحة للمؤمنين ، والرحمة لهم ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه من التعرض لغضب الله وعقوبته في الدنيا والآخرة ، وتارة يحمل عليه إجلال الله وإعظامه ومحبته ، وأنه أهل أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وأنه يفتدى من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال ، كما قال بعض السلف : وددت أن الخلق كلهم أطاعوا الله ، وأن لحمي قرض بالمقاريض . وكان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز - رحمهما الله - يقول لأبيه : وددت أني غلت بي وبك القدور في الله عز وجل .

[ ص: 256 ] ومن لحظ هذا المقام والذي قبله ، هان عليه كل ما يلقى من الأذى في الله تعالى ، وربما دعا لمن آذاه ، كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما ضربه قومه فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون .

وبكل حال يتعين الرفق في الإنكار ، قال سفيان الثوري : لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث : رفيق بما يأمر ، رفيق بما ينهى ، عدل بما يأمر ، عدل بما ينهى ، عالم بما يأمر ، عالم بما ينهى .

وقال أحمد : الناس محتاجون إلى مداراة ورفق الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجلا معلنا بالفسق ، فلا حرمة له ، قال : وكان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون ، يقولون مهلا رحمكم الله ، مهلا رحمكم الله .

وقال أحمد : يأمر بالرفق والخضوع ، فإن أسمعوه ما يكره ، لا يغضب ، فيكون يريد ينتصر لنفسه .

التالي السابق


الخدمات العلمية