صفحة جزء
[ ص: 59 ] بسم الله الرحمن الرحيم الحديث الأول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه . رواه البخاري ومسلم .
هذا الحديث تفرد بروايته يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن علقمة بن أبي وقاص الليثي ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، [ ص: 60 ] وليس له طريق تصح غير هذا الطريق ، كذا قال علي بن المديني وغيره . وقال الخطابي : لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في ذلك ، مع أنه قد روي من حديث أبي سعيد وغيره ، وقد قيل إنه قد روي من طرق كثيرة ، لكن لا يصح من ذلك شيء عند الحفاظ . ثم رواه عن الأنصاري الخلق الكثير والجم الغفير ، فقيل : رواه عنه أكثر من مائتي راو ، وقيل : رواه عنه سبعمائة راو ، ومن أعيانهم : مالك ، والثوري ، [ ص: 61 ] والأوزاعي ، وابن المبارك ، والليث بن سعد وحماد بن زيد ، وشعبة ، وابن عيينة ، وغيرهم . واتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول ، وبه صدر البخاري كتابه " الصحيح " وأقامه مقام الخطبة له ، إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله ، فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة ، ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي : لو صنفت كتابا في الأبواب ، لجعلت حديث عمر بن الخطاب في الأعمال بالنيات في كل باب ، وعنه أنه قال : من أراد أن يصنف كتابا ، فليبدأ بحديث " الأعمال بالنيات " . وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها ، فروي عن الشافعي أنه قال : هذا الحديث ثلث العلم ، ويدخل في سبعين بابا من الفقه . وعن الإمام أحمد قال : أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث : حديث عمر : إنما الأعمال بالنيات وحديث عائشة : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وحديث النعمان بن بشير : الحلال بين والحرام بين . وقال الحاكم : حدثونا عن عبد الله بن أحمد ، عن أبيه أنه ذكر قوله عليه الصلاة والسلام : الأعمال بالنيات وقوله : إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ، وقوله : من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد فقال : ينبغي أن يبدأ بهذه الأحاديث في كل تصنيف ، فإنها أصول الأحاديث [ ص: 62 ] وعن إسحاق بن راهويه قال : أربعة أحاديث هي من أصول الدين : حديث عمر : إنما الأعمال بالنيات ، وحديث : الحلال بين والحرام بين ، وحديث إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه ، وحديث : من صنع في أمرنا شيئا ليس منه فهو رد . وروى عثمان بن سعيد ، عن أبي عبيد ، قال : جمع النبي صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة : من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ، وجمع أمر الدنيا كله في كلمة : إنما الأعمال بالنيات يدخلان في كل باب . وعن أبي داود ، قال نظرت في الحديث المسند ، فإذا هو أربعة آلاف حديث ، ثم نظرت ، فإذا مدار أربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث : حديث النعمان بن بشير : الحلال بين والحرام بين ، وحديث عمر : إنما الأعمال بالنيات ، وحديث أبي هريرة : إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين الحديث ، وحديث : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه . قال : فكل حديث من هذه ربع العلم . وعن أبي داود أيضا ، قال كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث ، انتخبت منها ما تضمنه هذا الكتاب - يعني كتاب " السنن " - جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث : أحدها : قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ، والثاني : قوله صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، والثالث : قوله صلى الله عليه وسلم لا يكون المؤمن مؤمنا حتى لا [ ص: 63 ] يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه ، والرابع : قوله صلى الله عليه وسلم : الحلال بين والحرام بين . وفي رواية أخرى عنه أنه قال : الفقه يدور على خمسة أحاديث : الحلال بين والحرام بين ، وقوله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار ، وقوله الأعمال بالنيات ، وقوله الدين النصيحة ، وقوله : ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم . وفي رواية عنه ، قال : أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث : حديث عمر الأعمال بالنيات ، وحديث : الحلال بين والحرام بين ، وحديث : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، وحديث : ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس . وللحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوز المعافري الأندلسي :

عمدة الدين عندنا كلمات أربع من كلام خير البريه     اتق الشبهات وازهد ودع ما
ليس يعنيك واعملن بنيه

فقوله صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات ، وفي رواية : الأعمال بالنيات . وكلاهما يقتضي الحصر على الصحيح ، وليس غرضنا هاهنا توجيه ذلك ، ولا بسط القول فيه . وقد اختلف في تقدير قوله : الأعمال بالنيات ، فكثير من المتأخرين يزعم [ ص: 64 ] أن تقديره : الأعمال صحيحة أو معتبرة ومقبولة بالنيات ، وعلى هذا فالأعمال إنما أريد بها الأعمال الشرعية المفتقرة إلى النية ، فأما ما لا يفتقر إلى النية كالعادات من الأكل والشرب ، واللبس وغيرها ، أو مثل رد الأمانات والمضمونات ، كالودائع والغصوب ، فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نية ، فيخص هذا كله من عموم الأعمال المذكورة هاهنا . وقال آخرون : بل الأعمال هاهنا على عمومها ، لا يخص منها شيء . وحكاه بعضهم عن الجمهور ، وكأنه يريد به جمهور المتقدمين ، وقد وقع ذلك في كلام ابن جرير الطبري ، وأبي طالب المكي وغيرهما من المتقدمين ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد . قال في رواية حنبل : أحب لكل من عمل عملا من صلاة ، أو صيام ، أو صدقة ، أو نوع من أنواع البر أن تكون النية متقدمة في ذلك قبل الفعل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات ، فهذا يأتي على كل أمر من الأمور . وقال الفضل بن زياد : سألت أبا عبد الله - يعني أحمد - عن النية في العمل ، قلت كيف النية ؟ قال : يعالج نفسه ، إذا أراد عملا لا يريد به الناس . وقال أحمد بن داود الحربي : قال حدث يزيد بن هارون بحديث عمر : الأعمال بالنيات ، وأحمد جالس ، فقال أحمد ليزيد : يا أبا خالد ، هذا الخناق . وعلى هذا القول فقيل : تقدير الكلام : الأعمال واقعة أو حاصلة بالنيات ، فيكون إخبارا عن الأعمال الاختيارية أنها لا تقع إلا عن قصد من العامل هو سبب عملها ووجودها ، ويكون قوله بعد ذلك : وإنما لكل امرئ ما نوى إخبارا عن حكم الشرع ، وهو أن حظ العامل من عمله نيته ، فإن كانت صالحة ، فعمله صالح ، فله أجره ، وإن كانت فاسدة ، فعمله فاسد ، فعليه وزره . ويحتمل أن يكون التقدير في قوله : الأعمال بالنيات : الأعمال صالحة ، [ ص: 65 ] أو فاسدة ، أو مقبولة ، أو مردودة ، أو مثاب عليها ، أو غير مثاب عليها بالنيات ، فيكون خبرا عن حكم شرعي ، وهو أن صلاح الأعمال وفسادها بحسب صلاح النيات وفسادها ، كقوله : صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالخواتيم أي : إن صلاحها وفسادها وقبولها وعدمه بحسب الخاتمة . وقوله بعد ذلك : وإنما لكل امرئ ما نوى إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه به ، فإن نوى خيرا حصل له خير ، وإن نوى به شرا حصل له شر ، وليس هذا تكريرا محضا للجملة الأولى ، فإن الجملة الأولى دلت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده ، والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة ، وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة ، وقد تكون نيته مباحة ، فيكون العمل مباحا ، فلا يحصل له ثواب ولا عقاب ، فالعمل في نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه ، المقتضية لوجوده ، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب النية التي بها صار العمل صالحا ، أو فاسدا ، أو مباحا . واعلم أن النية في اللغة نوع من القصد والإرادة ، وإن كان قد فرق بين هذه الألفاظ بما ليس هذا موضع ذكره . والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين : أحدهما : بمعنى تمييز العبادات بعضها عن بعض ، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلا ، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره ، أو تمييز العبادات من العادات ، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظف ، ونحو ذلك ، وهذه النية هي التي توجد كثيرا في كلام الفقهاء في كتبهم . والمعنى الثاني : بمعنى تمييز المقصود بالعمل ، وهل هو الله وحده لا [ ص: 66 ] شريك له ، أم غيره ، أم الله وغيره ، وهذه النية هي التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه ، وهي التي توجد كثيرا في كلام السلف المتقدمين . وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفا سماه : كتاب " الإخلاص والنية " وإنما أراد هذه النية ، وهي النية التي يتكرر ذكرها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم تارة بلفظ النية ، وتارة بلفظ الإرادة ، وتارة بلفظ مقارب لذلك ، وقد جاء ذكرها كثيرا في كتاب الله عز وجل بغير لفظ النية أيضا من الألفاظ المقاربة لها . وإنما فرق من فرق بين النية وبين الإرادة والقصد ونحوهما ؛ لظنهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء ، فمنهم من قال : النية تختص بفعل الناوي ، والإرادة لا تختص بذلك ، كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له ، ولا ينوي ذلك . وقد ذكرنا أن النية في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة إنما يراد بها هذا المعنى الثاني غالبا ، فهي حينئذ بمعنى الإرادة ، ولذلك يعبر عنها بلفظ الإرادة في القرآن كثيرا ، كما في قوله تعالى : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة [ آل عمران : 152 ] ، وقوله : تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ( الأنفال : 67 ) ، وقوله : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ( الشورى : 20 ) ، وقوله : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ( الإسراء : 18 - 19 ) ، وقوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ( هود : 15 - 16 ) وقوله : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ( الأنعام : 52 ) ، وقوله : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة [ ص: 67 ] والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ( الكهف : 28 ) ، وقوله : ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون وقوله : وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ( الروم : 38 - 39 ) . وقد يعبر عنها في القرآن بلفظ " الابتغاء " كما في قوله تعالى : إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ( الليل : 20 ) ، وقوله : ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله ( البقرة : 265 ) ، وقوله : وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ( البقرة : 272 ) ، وقوله : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ( النساء : 114 ) . فنفى الخير عن كثير مما يتناجى به الناس إلا في الأمر بالمعروف ، وخص من أفراده الصدقة والإصلاح بين الناس لعموم نفعها ، فدل ذلك على أن التناجي بذلك خير ، وأما الثواب عليه من الله ، فخصه بمن فعله ابتغاء مرضات الله . وإنما جعل الأمر بالمعروف من الصدقة والإصلاح بين الناس وغيرهما خيرا ، وإن لم يبتغ به وجه الله ؛ لما يترتب على ذلك من النفع المتعدي ، فيحصل به للناس إحسان وخير ، وأما بالنسبة إلى الأمر ، فإن قصد به وجه الله وابتغاء مرضاته ، كان خيرا له ، وأثيب عليه ، وإن لم يقصد ذلك لم يكن خيرا له ، ولا ثواب له عليه ، وهذا بخلاف من صام وصلى وذكر الله ، يقصد بذلك عرض الدنيا ، فإنه لا خير له فيه بالكلية ؛ لأنه لا نفع في ذلك لصاحبه لما يترتب عليه من الإثم فيه ، ولا لغيره لأنه لا يتعدى نفعه إلى أحد ، اللهم إلا أن يحصل لأحد به اقتداء في ذلك . وأما ما ورد في السنة ، وكلام السلف من تسمية هذا المعنى بالنية ، فكثير [ ص: 68 ] جدا ، ونحن نذكر بعضه ، كما خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث عبادة بن الصامت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالا ، فله ما نوى . وخرج الإمام أحمد من حديث ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش ، ورب قتيل بين صفين الله أعلم بنيته . وخرج ابن ماجه من حديث جابر ، ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يحشر الناس على نياتهم . ومن حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إنما يبعث الناس على نياتهم . وخرج ابن أبي الدنيا من حديث عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إنما يبعث المقتتلون على النيات . وفي " صحيح مسلم " عن أم سلمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يعوذ عائذ بالبيت ، فيبعث إليه بعث ، فإذا كانوا ببيداء من الأرض ، خسف بهم ، فقلت : [ ص: 69 ] يا رسول الله ، فكيف بمن كان كارها ؟ قال : يخسف به معهم ، ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته . وفيه أيضا عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذا الحديث ، وقال فيه يهلكون مهلكا واحدا ، ويصدرون مصادر شتى ، يبعثهم الله على نياتهم . وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من كانت الدنيا همه ، فرق الله أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن كانت الآخرة نيته ، جمع الله له أمره ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة . هذا لفظ ابن ماجه ، ولفظ أحمد : من كان همه الآخرة ، ومن كانت نيته الدنيا ، وخرجه ابن أبي الدنيا ، وعنده : من كانت نيته الدنيا ، ومن كانت نيته الآخرة . وفي " الصحيحين " ، عن سعد بن أبي وقاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أثبت عليها ، حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك . وروى ابن أبي الدنيا بإسناد منقطع ، عن عمر ، قال : لا عمل لمن لا نية [ ص: 70 ] له ، ولا أجر لمن لا حسبة له يعني : لا أجر لمن لم يحتسب ثواب عمله عند الله عز وجل . وبإسناد ضعيف ، عن ابن مسعود ، قال : لا ينفع قول إلا بعمل ، ولا ينفع قول ولا عمل إلا بنية ، ولا ينفع قول ولا عمل ولا نية إلا بما وافق السنة . وعن يحيى بن أبي كثير ، قال : تعلموا النية ، فإنها أبلغ من العمل . وعن زبيد اليامي ، قال : إنى لأحب أن تكون لي نية في كل شيء ، حتى في الطعام والشراب ، وعنه أنه قال : انو في كل شيء تريده الخير ، حتى خروجك إلى الكناسة . وعن داود الطائي ، قال : رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية ، وكفاك بها خيرا وإن لم تنصب . قال داود : والبر همة التقي ، ولو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا ، لردته يوما نيته إلى أصله . وعن سفيان الثوري ، قال : ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي ؛ لأنها تنقلب علي . وعن يوسف بن أسباط ، قال : تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد . وقيل لنافع بن جبير : ألا تشهد الجنازة ؟ قال : كما أنت حتى أنوي ، قال ففكر هنية ، ثم قال : امض . [ ص: 71 ] وعن مطرف بن عبد الله قال : صلاح القلب بصلاح العمل ، وصلاح العمل بصلاح النية . وعن بعض السلف قال : من سره أن يكمل له عمله ، فليحسن نيته ، فإن الله عز وجل يأجر العبد إذا حسنت نيته حتى باللقمة . وعن ابن المبارك ، قال : رب عمل صغير تعظمه النية ، ورب عمل كبير تصغره النية . وقال ابن عجلان : لا يصلح العمل إلا بثلاث : التقوى لله ، والنية الحسنة ، والإصابة . وقال الفضيل بن عياض : إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك . وعن يوسف بن أسباط ، قال : إيثار الله عز وجل أفضل من القتل في سبيله . خرج ذلك كله ابن أبي الدنيا في كتاب " الإخلاص والنية " . وروى فيه بإسناد منقطع عن عمر رضي الله عنه ، قال : أفضل الأعمال أداء ما افترض الله عز وجل ، والورع عما حرم الله عز وجل ، وصدق النية فيما عند الله عز وجل . وبهذا يعلم معنى ما روى الإمام أحمد أن أصول الإسلام ثلاثة أحاديث : حديث : الأعمال بالنيات ، وحديث : من أحدث في أمرنا ما ليس منه ، فهو رد ، وحديث : الحلال بين والحرام بين . فإن الدين كله يرجع إلى فعل المأمورات ، وترك المحظورات ، والتوقف عن الشبهات ، وهذا كله تضمنه حديث النعمان بن بشير . [ ص: 72 ] وإنما يتم ذلك بأمرين : أحدهما : أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنة ، وهذا هو الذي تضمنه حديث عائشة : من أحدث في أمرنا ما ليس منه ، فهو رد . والثاني : أن يكون العمل في باطنه يقصد به وجه الله عز وجل ، كما تضمنه حديث عمر : الأعمال بالنيات . وقال الفضيل في قوله تعالى : ليبلوكم أيكم أحسن عملا ( الملك : 2 ) ، قال : أخلصه وأصوبه . وقال : إن العمل إذا كان خالصا ، ولم يكن صوابا لم يقبل ، وإذا كان صوابا ، ولم يكن خالصا ، لم يقبل حتى يكون خالصا وصوابا ، قال : والخالص إذا كان لله عز وجل ، والصواب إذا كان على السنة . وقد دل على هذا الذي قاله الفضيل قول الله عز وجل : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ( الكهف : 110 ) . وقال بعض العارفين : إنما تفاضلوا بالإرادات ، ولم يتفاضلوا بالصوم والصلاة . وقوله صلى الله عليه وسلم : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه . لما ذكر صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بحسب النيات ، وأن حظ العامل من عمله نيته من خير أو شر ، وهاتان كلمتان جامعتان ، وقاعدتان كليتان ، لا يخرج عنهما شيء ، ذكر بعد ذلك مثالا من أمثال الأعمال التي صورتها واحدة ، ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات ، وكأنه يقول سائر الأعمال على حذو هذا المثال . وأصل الهجرة : هجران بلد الشرك ، والانتقال منه إلى دار الإسلام ، كما [ ص: 73 ] كان المهاجرون قبل فتح مكة يهاجرون منها إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد هاجر من هاجر منهم قبل ذلك إلى أرض الحبشة إلى النجاشي . فأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الهجرة تختلف باختلاف النيات والمقاصد بها ، فمن هاجر إلى دار الإسلام حبا لله ورسوله ، ورغبة في تعلم دين الإسلام ، وإظهار دينه حيث كان يعجز عنه في دار الشرك ، فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقا ، وكفاه شرفا وفخرا أنه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله . ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه ؛ لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة . ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها في دار الإسلام ، فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك ، فالأول تاجر ، والثاني خاطب ، وليس واحد منهما بمهاجر . وفي قوله : إلى ما هاجر إليه تحقير لما طلبه من أمر الدنيا ، واستهانة به ، حيث لم يذكر بلفظه . وأيضا فالهجرة إلى الله ورسوله واحدة فلا تعدد فيها ، فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط . والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر ، فقد يهاجر الإنسان لطلب دنيا مباحة تارة ، ومحرمة تارة ، وأفراد ما يقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر ، فلذلك قال : فهجرته إلى ما هاجر إليه ، يعني كائنا ما كان . وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الآية ( الممتحنة : 10 ) . قال : كانت المرأة إذا أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، حلفها بالله : ما خرجت من بغض زوج ، وبالله : ما خرجت رغبة بأرض عن أرض ، وبالله : ما خرجت التماس دنيا ، وبالله : ما خرجت إلا [ ص: 74 ] حبا لله ورسوله . أخرجه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، والبزار في " مسنده " ، وخرجه الترمذي في بعض نسخ كتابه مختصرا . وقد روى وكيع في كتابه ، عن الأعمش ، عن شقيق - هو أبو وائل - قال : خطب أعرابي من الحي امرأة يقال لها : أم قيس ، فأبت أن تزوجه حتى يهاجر ، فهاجر ، فتزوجته ، فكنا نسميه مهاجر أم قيس . قال : فقال عبد الله : يعني ابن مسعود : من هاجر يبتغي شيئا ، فهو له . وهذا السياق يقتضي أن هذا لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما كان في عهد ابن مسعود ، ولكن روي من طريق سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، قال : كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها : أم قيس فأبت أن تزوجه حتى يهاجر ، فهاجر ، فتزوجها ، فكنا نسميه مهاجر أم قيس . قال ابن مسعود : من هاجر لشيء فهو له . وقد اشتهر أن قصة مهاجر أم قيس هي كانت سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم : من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، وذكر ذلك كثير من المتأخرين [ ص: 75 ] في كتبهم ، ولم نر لذلك أصلا بإسناد يصح ، والله أعلم . وسائر الأعمال كالهجرة في هذا المعنى ، فصلاحها وفسادها بحسب النية الباعثة عليها ، كالجهاد والحج وغيرهما ، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن اختلاف نيات الناس في الجهاد وما يقصد به من الرياء ، وإظهار الشجاعة والعصبية ، وغير ذلك : أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، فهو في سبيل الله فخرج بهذا كل ما سألوا عنه من المقاصد الدنيوية . ففي " الصحيحين " عن أبي موسى الأشعري أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، الرجل يقاتل للمغنم ، والرجل يقاتل للذكر ، والرجل يقاتل ليرى مكانه ، فمن في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، فهو في سبيل الله . وفي رواية لمسلم : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، فأي ذلك في سبيل الله ؟ فذكر الحديث . وفي رواية له أيضا : الرجل يقاتل غضبا ، ويقاتل حمية . وخرج النسائي من حديث أبي أمامة ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ، ما له ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء له ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا ، وابتغي به وجهه . [ ص: 76 ] وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله ، رجل يريد الجهاد وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أجر له ، فأعاد عليه ثلاثا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا أجر له . وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث معاذ بن جبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الغزو غزوان ، فأما من ابتغى وجه الله ، وأطاع الإمام ، وأنفق الكريمة ، وياسر الشريك ، واجتنب الفساد ، فإن نومه ونبهه أجر كله ، وأما من غزا فخرا ورياء وسمعة ، وعصى الإمام ، وأفسد في الأرض ، فإنه لم يرجع بالكفاف . وخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو قال : قلت : يا رسول الله ، أخبرني عن الجهاد والغزو ، فقال : إن قاتلت صابرا محتسبا ، بعثك الله صابرا محتسبا ، وإن قاتلت مرائيا مكاثرا ، بعثك الله مرائيا مكاثرا ، على أي حال قاتلت أو قتلت بعثك الله على تيك الحال . [ ص: 77 ] وخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد ، فأتي به ، فعرفه نعمه ، فعرفها ، قال : ما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال كذبت ، ولكنك قاتلت ، لأن يقال : جريء ، فقد قيل ، ثم أمر به ، فسحب على وجهه ، حتى ألقي في النار ، ورجل تعلم العلم وعلمه ، وقرأ القرآن ، فأتي به ، فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن . قال كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ، ليقال : عالم ، وقرأت القرآن ليقال ، قارئ ، فقد قيل ، ثم أمر به ، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل وسع الله عليه ، وأعطاه من أصناف المال كله ، فأتي به ، فعرفه نعمه ، فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك . قال : كذبت ، ولكنك فعلت ، ليقال : هو جواد ، فقد قيل ، ثم أمر به ، فسحب على وجهه ، حتى ألقي في النار . وفي الحديث : إن معاوية لما بلغه هذا الحديث ، بكى حتى غشي عليه ، فلما أفاق ، قال : صدق الله ورسوله ، قال الله عز وجل : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ( هود : 15 - 16 ) . وقد ورد الوعيد على تعلم العلم لغير وجه الله ، كما خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله ، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا ، لم [ ص: 78 ] يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني : ريحها . وخرج الترمذي من حديث كعب بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من طلب العلم ليماري به السفهاء ، أو يجاري به العلماء ، أو يصرف به وجوه الناس إليه ، أدخله الله النار . وخرجه ابن ماجه بمعناه من حديث ابن عمر وحذيفة ، وجابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولفظ حديث جابر : لا تعلموا العلم ، لتباهوا به العلماء ، ولا لتماروا به السفهاء ، ولا تخيروا به المجالس ، فمن فعل ذلك ، فالنار النار . وقال ابن مسعود : لا تعلموا العلم لثلاث : لتماروا به السفهاء ، أو لتجادلوا به الفقهاء ، أو لتصرفوا به وجوه الناس إليكم ، وابتغوا بقولكم وفعلكم ما عند الله ، فإنه يبقى ويذهب ما سواه . وقد ورد الوعيد على العمل لغير الله عموما ، كما خرج الإمام أحمد من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : بشر هذه الأمة [ ص: 79 ] بالسناء والرفعة والدين والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له في الآخرة نصيب . واعلم أن العمل لغير الله أقسام : فتارة يكون رياء محضا ، بحيث لا يراد به سوى مراءات المخلوقين لغرض دنيوي ، كحال المنافقين في صلاتهم ، كما قال الله عز وجل : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ( النساء : 142 ) . وقال تعالى : فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ( الماعون : 4 - 6 ) . وكذلك وصف الله تعالى الكفار بالرياء في قوله : ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ( الأنفال : 47 ) . وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام ، وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج ، وغيرهما من الأعمال الظاهرة ، أو التي يتعدى نفعها ، فإن الإخلاص فيها عزيز ، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة . وتارة يكون العمل لله ، ويشاركه الرياء ، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه وحبوطه أيضا . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري ، تركته وشريكه وخرجه ابن ماجه ، ولفظه : فأنا منه بريء ، وهو للذي أشرك . [ ص: 80 ] وخرج الإمام أحمد عن شداد بن أوس ، ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من صلى يرائي ، فقد أشرك ومن صام يرائي ، فقد أشرك ، ومن تصدق يرائي ، فقد أشرك ، وإن الله عز وجل يقول : أنا خير قسيم لمن أشرك بي شيئا ، فإن جدة عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به أنا عنه غني . وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة - وكان من الصحابة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ، نادى مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله عز وجل ، فليطلب ثوابه من عند غير الله عز وجل ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك . وخرج البزار في " مسنده " من حديث الضحاك بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله عز وجل يقول : أنا خير شريك ، فمن أشرك معي شريكا ، فهو لشريكه . يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله عز وجل ، فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أخلص له ، ولا تقولوا : هذا لله وللرحم ، فإنها للرحم ، وليس لله منها شيء ، ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم ، فإنها لوجوهكم ، وليس لله فيها شيء [ ص: 81 ] وخرج النسائي بإسناد جيد ، عن أبي أمامة الباهلي أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا شيء له فأعادها ثلاث مرات ، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا شيء له ثم قال إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا ، وابتغي به وجهه . وخرج الحاكم من حديث ابن عباس : قال رجل : يا رسول الله ، إنى أقف الموقف أريد وجه الله ، وأريد أن يرى موطني ، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزلت فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ( الكهف : 110 ) . وممن روي عنه هذا المعنى ، وأن العمل إذا خالطه شيء من الرياء كان باطلا : طائفة من السلف ، منهم عبادة بن الصامت ، وأبو الدرداء ، والحسن ، وسعيد بن المسيب ، وغيرهم . وفي مراسيل القاسم بن مخيمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال لا يقبل الله عملا فيه مثقال حبة خردل من رياء . ولا نعرف عن السلف في هذا خلافا ، وإن كان فيه خلاف عن بعض المتأخرين . فإن خالط نية الجهاد مثلا نية غير الرياء ، مثل أخذه أجرة للخدمة ، أو أخذ [ ص: 82 ] شيء من الغنيمة ، أو التجارة ، نقص بذلك أجر جهادهم ، ولم يبطل بالكلية ، وفي " صحيح مسلم " عن عبد الله بن عمرو ، ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الغزاة إذا غنموا غنيمة ، تعجلوا ثلثي أجرهم ، فإن لم يغنموا شيئا ، تم لهم أجرهم . وقد ذكرنا فيما مضى أحاديث تدل على أن من أراد بجهاده عرضا من الدنيا أنه لا أجر له ، وهي محمولة على أنه لم يكن له غرض في الجهاد إلا الدنيا . وقال الإمام أحمد : التاجر والمستأجر والمكاري أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزاتهم ، ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره . وقال أيضا فيمن يأخذ جعلا على الجهاد : إذا لم يخرج لأجل الدراهم ، فلا بأس أن يأخذ ، كأنه خرج لدينه ، فإن أعطي شيئا ، أخذه . وكذا روي ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : إذا أجمع أحدكم على الغزو ، فعوضه الله رزقا ، فلا بأس بذلك ، وأما إن أحدكم إن أعطي درهما غزا ، وإن منع درهما مكث ، فلا خير في ذلك . وكذا قال الأوزاعي : إذا كانت نية الغازي على الغزو ، فلا أرى بأسا . وهكذا يقال فيمن أخذ شيئا في الحج ليحج به : إما عن نفسه ، أو عن غيره ، وقد روي عن مجاهد أنه قال في حج الجمال وحج الأجير وحج التاجر : هو تمام لا ينقص من أجورهم شيء ، وهو محمول على أن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب . وأما إن كان أصل العمل لله ، ثم طرأت عليه نية الرياء ، فإن كان خاطرا [ ص: 83 ] ودفعه ، فلا يضره بغير خلاف ، وإن استرسل معه ، فهل يحبط به عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته ؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري ، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك ، وأنه يجازى بنيته الأولى وهو مروي عن الحسن البصري وغيره . ويستدل لهذا القول بما خرجه أبو داود في " مراسيله " عن عطاء الخراساني أن رجلا قال : يا رسول الله ، إن بني سلمة كلهم يقاتل ، فمنهم من يقاتل للدنيا ، ومنهم من يقاتل نجدة ، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله ، فأيهم الشهيد ؟ قال : كلهم إذا كان أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا . وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله ، كالصلاة والصيام والحج ، فأما ما لا ارتباط فيه كالقراءة والذكر وإنفاق المال ونشر العلم ، فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه ، ويحتاج إلى تجديد نية . وكذلك روي عن سليمان بن داود الهاشمي أنه قال : ربما أحدث بحديث ولي نية ، فإذا أتيت على بعضه ، تغيرت نيتي ، فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات . ولا يرد على هذا الجهاد ، كما في مرسل عطاء الخراساني ، فإن الجهاد يلزم بحضور الصف ، ولا يجوز تركه حينئذ ، فيصير كالحج . فأما إذا عمل العمل لله خالصا ، ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك ، ففرح بفضل الله ورحمته ، واستبشر بذلك ، لم يضره ذلك . [ ص: 84 ] وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير ويحمده الناس عليه ، فقال : تلك عاجل بشرى المؤمن خرجه مسلم ، وخرجه ابن ماجه ، وعنده : الرجل يعمل العمل لله فيحبه الناس عليه . وبهذا المعنى فسره الإمام أحمد ، وإسحاق بن راهويه ، وابن جرير الطبري وغيرهم . وكذلك الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله ، الرجل يعمل العمل ، فيسره ، فإذا اطلع عليه ، أعجبه ، فقال : له أجران : أجر السر ، وأجر العلانية . ولنقتصر على هذا المقدار من الكلام على الإخلاص والرياء ، فإن فيه كفاية . وبالجملة ، فما أحسن قول سهل بن عبد الله التستري : ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص ، لأنه ليس لها فيه نصيب . وقال يوسف بن الحسين الرازي : أعز شيء في الدنيا الإخلاص ، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي ، وكأنه ينبت فيه على لون آخر . وقال ابن عيينة : كان من دعاء مطرف بن عبد الله : اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه ، ثم عدت فيه ، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي ، ثم لم أف لك به ، وأستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك ، فخالط قلبي منه ما قد علمت .

[ ص: 85 ] فصل وأما النية بالمعنى الذي يذكره الفقهاء ، وهو أن تمييز العبادات من العادات ، وتمييز العادات بعضها من بعض ، فإن الإمساك عن الأكل والشرب يقع تارة حمية ، وتارة لعدم القدرة على الأكل ، وتارة تركا للشهوات لله عز وجل ، فيحتاج في الصيام إلى نية ليتميز بذلك عن ترك الطعام على غير هذا الوجه . وكذلك العبادات ، كالصلاة والصيام منها فرض ، ومنها نفل . والفرض يتنوع أنواعا ، فإن الصلوات المفروضات خمس صلوات كل يوم وليلة ، والصوم الواجب تارة يكون صيام رمضان ، وتارة صيام كفارة ، أو عن نذر ، ولا يتميز هذا كله إلا بالنية ، وكذلك الصدقة ، تكون نفلا وتكون فرضا ، والفرض منه زكاة ، ومنه كفارة ، ولا يتميز ذلك إلا بالنية ، فيدخل ذلك في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : وإنما لامرئ ما نوى . وفي بعض ذلك اختلاف مشهور بين العلماء ، فإن منهم من لا يوجب تعيين النية للصلاة المفروضة ، بل يكفي عنده أن ينوي فرض الوقت ، وإن لم يستحضر تسميته في الحال ، وهو رواية ، عن الإمام أحمد . ويبنى على هذا القول : أن من فاتته صلاة من يوم وليلة ، ونسي عينها ، أن عليه أن يقضي ثلاث صلوات : الفجر والمغرب ورباعية واحدة . وكذلك ذهب طائفة من العلماء إلى أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية تعيينية ، أيضا بل تجزئ بنية الصيام مطلقا ؛ لأن وقته غير قابل لصيام آخر [ ص: 86 ] وهو أيضا رواية عن الإمام أحمد . وربما حكي عن بعضهم أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية بالكلية ، لتعيينه بنفسه ، فهو كرد الودائع ، وحكي عن الأوزاعي أن الزكاة كذلك وتأول بعضهم قوله على أنه أراد أنها تجزئ بنية الصدقة المطلقة كالحج . وكذلك قال أبو حنيفة : لو تصدق بالنصاب كله من غير نية أجزأه عن زكاته . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا ، يلبي بالحج عن رجل ، فقال له أحججت عن نفسك ؟ قال : لا ، قال : هذه عن نفسك ، ثم حج عن الرجل . وقد تكلم في صحة هذا الحديث ، ولكنه صحيح عن ابن عباس وغيره . وأخذ بذلك الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما ، في أن حجة الإسلام تسقط بنية الحج مطلقا ، سواء نوى التطوع أو غيره ، ولا يشترط للحج تعيين النية ، فمن حج عن غيره ، ولم يحج عن نفسه وقع عن نفسه ، وكذلك لو حج عن نذره ، أو نفلا ولم يكن حج حجة الإسلام ، فإنه ينقلب عنها ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه في حجة الوداع بعدما دخلوا معه ، وطافوا وسعوا أن يفسخوا حجهم ويجعلوه عمرة ، وكان منهم القارن والمفرد ، وإنما كان طوافهم عند قدومهم طواف القدوم وليس بفرض ، وقد أمرهم أن يجعلوه [ ص: 87 ] طواف عمرة وهو فرض ، وقد أخذ بذلك الإمام أحمد في فسخ الحج ، وعمل به ، وهو مشكل على أصله ، فإنه يوجب تعيين الطواف الواجب للحج والعمرة بالنية ، وخالفه في ذلك أكثر الفقهاء ، كمالك والشافعي وأبي حنيفة . وقد يفرق الإمام أحمد بين أن يكون طوافه في إحرام انقلب ، كالإحرام الذي يفسخه ، ويجعله عمرة ، فينقلب الطواف فيه تبعا لانقلاب الإحرام ، كما ينقلب الطواف في الإحرام الذي نوى به التطوع إذا كان عليه حجة الإسلام ، تبعا لانقلاب إحرامه من أصله ، ووقوعه ، عن فرضه ، بخلاف ما إذا طاف للزيارة بنية الوداع ، أو التطوع ، فإن هذا لا يجزئه لأنه لم ينو به الفرض ، ولم ينقلب فرضا تبعا لانقلاب إحرامه ، والله أعلم . ومما يدخل في هذا الباب : أن رجلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان قد وضع صدقته عند رجل ، فجاء ابن صاحب الصدقة ، فأخذها ممن هي عنده ، فعلم بذلك أبوه ، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما إياك أردت فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمتصدق : لك ما نويت ، وقال للآخذ : لك ما أخذت خرجه البخاري . وقد أخذ الإمام أحمد بهذا الحديث ، وعمل به في المنصوص عنه ، وإن كان أكثر أصحابه على خلافه ، فإن الرجل إنما يمنع من دفع الصدقة إلى ولده ؛ خشية أن يكون محاباة ، فإذا وصلت إلى ولده من حيث لا يشعر ، كانت المحاباة منتفية ، وهو من أهل استحقاق الصدقة في نفس الأمر ، ولهذا لو دفع صدقته إلى من يظنه فقيرا ، وكان غنيا في نفس الأمر ، أجزأته على الصحيح ، لأنه إنما دفع إلى من يعتقد استحقاقه ، والفقر أمر خفي ، لا يكاد يطلع على حقيقته . وأما الطهارة ، فالخلاف في اشتراط النية لها مشهور ، وهو يرجع إلى أن الطهارة للصلاة هل هي عبادة مستقلة ، أم هي شرط من شروط الصلاة كإزالة [ ص: 88 ] النجاسة ، وستر العورة ؟ فمن لم يشترط لها النية ، جعلها كسائر شروط الصلاة ، ومن اشترط لها النية ، جعلها عبادة مستقلة ، فإذا كانت عبادة في نفسها ، لم تصح بدون النية ، وهذا قول جمهور العلماء ، ويدل على صحة ذلك تكاثر النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الوضوء يكفر الذنوب والخطايا ، وأن من توضأ كما أمر ، كان كفارة لذنوبه . وهذا يدل على أن الوضوء المأمور به في القرآن عبادة مستقلة بنفسها ، حيث رتب عليه تكفير الذنوب ، والوضوء الخالي من النية لا يكفر شيئا من الذنوب بالاتفاق ، فلا يكون مأمورا به ، ولا تصح به الصلاة ، ولهذا لم يرد في شيء من بقية شرائط الصلاة ، كإزالة النجاسة ، وستر العورة ما ورد في الوضوء من الثواب ، ولو شرك بين نية الوضوء ، وبين قصد التبرد ، أو إزالة النجاسة أو الوسخ ، أجزأه في المنصوص عن الشافعي ، وهذا قول أكثر أصحاب أحمد ، لأن هذا القصد ليس بمحرم ولا مكروه ، ولهذا لو قصد مع رفع الحدث تعليم الوضوء ، لم يضره ذلك . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد أحيانا بالصلاة تعليمها للناس ، وكذلك الحج ، كما قال : خذوا عني مناسككم . ومما تدخل النية فيه من أبواب العلم : مسائل الأيمان . فلغو اليمين لا كفارة فيه ، وهو ما جرى على اللسان من غير قصد بالقلب إليه ، كقوله : لا والله ، وبلى والله في أثناء الكلام ، قال تعالى : لا يؤاخذكم [ ص: 89 ] الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ( البقرة : 225 ) . وكذلك يرجع في الأيمان إلى نية الحالف وما قصد بيمينه ، فإن حلف بالطلاق أو عتاق ، ثم ادعى أنه نوى ما يخالف ظاهر لفظه ، فإنه يدين فيما بينه وبين الله عز وجل . وهل يقبل منه في ظاهر الحكم ؟ فيه قولان للعلماء مشهوران وهما روايتان عن أحمد ، وقد روي عن عمر أنه رفع إليه رجل قالت له امرأته : شبهني ، قال : كأنك ظبية ، كأنك حمامة ، فقالت : لا أرضى حتى تقول : أنت خلية طالق ، فقال ذلك ، فقال عمر : خذ بيدها فهي امرأتك . خرجه أبو عبيد وقال : أراد الناقة تكون معقولة ، ثم تطلق من عقالها ويخلى عنها ، فهي خلية من العقال ، وهي طالق ، لأنها قد طلقت منه ، فأراد الرجل ذلك ، فأسقط عنه عمر الطلاق لنيته . قال : وهذا أصل لكل من تكلم بشيء يشبه لفظ الطلاق والعتاق وهو ينوي غيره أن القول فيه قوله فيما بينه وبين الله ، وفي الحكم على تأويل عمر رضي الله عنه . ويروى عن سميط السدوسي ، قال : خطبت امرأة ، فقالوا : لا نزوجك حتى تطلق امرأتك ، فقلت : إني قد طلقتها ثلاثا ، فزوجوني ثم نظروا ، فإذا امرأتي عندي ، فقالوا أليس قد طلقتها ثلاثا ؟ فقلت : كان عندي فلانة ، فطلقتها ، وفلانة فطلقتها ، فأما هذه ، فلم أطلقها ، فأتيت شقيق بن ثور وهو يريد الخروج إلى [ ص: 90 ] عثمان وافدا ، فقلت له : سل أمير المؤمنين عن هذه ، فخرج فسأله ، فقال : نيته . خرجه أبو عبيد في " كتاب الطلاق " وحكى إجماع العلماء على مثل ذلك . وقال إسحاق بن منصور : قلت لأحمد : حديث السميط تعرفه ؟ قال : نعم ، السدوسي وإنما جعل نيته بذلك ، فذكر ذلك شقيق لعثمان ، فجعلها نيته . فإن كان الحالف ظالما ، ونوى خلاف ما حلفه عليه غريمه ، لم تنفعه نيته ، وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك وفي رواية له : اليمين على نية المستحلف ، وهذا محمول على الظالم ، فأما المظلوم ، فينفعه ذلك . وقد خرج الإمام أحمد ، وابن ماجه من حديث سويد بن حنظلة ، قال : خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعنا وائل بن حجر ، فأخذه عدو له ، فتحرج الناس أن يحلفوا ، فحلفت أنا أنه أخي ، فخلى سبيله ، وأتينا النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا ، وحلفت أنا أنه أخي ، فقال : صدقت ، المسلم أخو المسلم . وكذلك تدخل النية في الطلاق والعتاق ، فإذا أتى بلفظ من ألفاظ الكنايات المحتملة للطلاق أو العتاق ، فلابد له من النية . وهل يقوم مقام النية دلالة الحال من غضب أو سؤال الطلاق ونحوه أم لا ؟ [ ص: 91 ] فيه خلاف مشهور بين العلماء ، وهل يقع بذلك الطلاق في الباطن كما لو نواه ، أم يلزم به في ظاهر الحكم فقط ؟ فيه خلاف مشهور أيضا ، ولو أوقع الطلاق بكناية ظاهرة ، كالبتة ونحوها ، فهل يقع به الثلاث أو واحدة ؟ فيه قولان مشهوران ، وظاهر مذهب أحمد أنه يقع به الثلاث مع إطلاق النية ، فإن نوى به ما دون الثلاث ، وقع به ما نواه ، وحكي عنه رواية أنه يلزمه الثلاث أيضا . ولو رأى امرأة ، يظنها امرأته ، فطلقها ، ثم بانت أجنبية ، طلقت امرأته ، لأنه إنما قصد طلاق امرأته . نص على ذلك أحمد ، وحكي عنه رواية أخرى : أنها لا تطلق ، وهو قول الشافعي ، ولو كان العكس ، بأن رأى امرأة ظنها أجنبية ، فطلقها ، فبانت امرأته ، فهل تطلق ؟ فيه قولان هما روايتان ، عن أحمد ، والمشهور من مذهب الشافعي وغيره أنها لا تطلق . ولو كان له امرأتان ، فنهى إحداهما عن الخروج ، ثم رأى امرأة قد خرجت ، فظنها المنهية ، فقال لها : فلانة خرجت ؟ أنت طالق ، فقد اختلف العلماء فيها ، فقال : الحسن تطلق المنهية ، لأنها هي التي نواها ، وقال إبراهيم : تطلقان ، وقال عطاء : لا تطلق واحدة منها ، ومذهب أحمد : أنه تطلق المنهية رواية واحدة ، لأنه نوى طلاقها . وهل تطلق المواجهة على روايتين عنه ، واختلف الأصحاب على القول بأنها تطلق : هل تطلق في الحكم فقط ، أم في الباطن أيضا ؟ على طريقتين لهم . وقد استدل بقوله صلى الله عليه وسلم : الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى على أن العقود التي يقصد بها في الباطن التوصل إلى ما هو محرم غير صحيحة ، كعقود البيوع التي يقصد بها معنى الربا ونحوها ، كما هو مذهب مالك وأحمد وغيرهما ، فإن هذا العقد إنما نوى به الربا لا البيع " وإنما لكل امرئ ما نوى " . ومسائل النية المتعلقة بالفقه كثيرة جدا ، وفيما ذكرناه كفاية . [ ص: 92 ] وقد تقدم ، عن الشافعي أنه قال في هذا الحديث : إنه يدخل في سبعين بابا من الفقه ، والله أعلم . والنية : هي قصد القلب ، ولا يجب التلفظ بما في القلب في شيء من العبادات ، وخرج بعض أصحاب الشافعي له قولا باشتراط التلفظ بالنية للصلاة ، وغلطه المحققون منهم ، واختلف المتأخرون من الفقهاء في التلفظ بالنية في الصلاة وغيرها ، فمنهم من استحبه ، ومنهم من كرهه . ولا يعلم في هذه المسائل نقل خاص عن السلف ، ولا عن الأئمة إلا في الحج وحده ، فإن مجاهدا قال : إذا أراد الحج ، يسمي ما يهل به ، وروي عنه أنه قال : يسميه في التلبية ، وهذا ليس مما نحن فيه فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر نسكه في تلبيته ، فيقول : لبيك عمرة وحجا ، وإنما كلامنا في أنه يقول عند إرادة عقد الإحرام : اللهم إني أريد الحج أو العمرة ، كما استحب ذلك كثير من الفقهاء ، وكلام مجاهد ليس صريحا في ذلك . وقال أكثر السلف ، منهم عطاء وطاوس والقاسم بن محمد والنخعي : تجزئه النية عند الإهلال ، وصح عن ابن عمر أنه سمع رجلا عند إحرامه يقول : اللهم إني أريد الحج أو العمرة ، فقال له : أتعلم الناس ؟ أو ليس الله يعلم ما في نفسك ؟ . ونص مالك على مثل هذا ، وأنه لا يستحب له أن يسمي ما أحرم به . حكاه صاحب كتاب " تهذيب المدونة " من أصحابه . وقال أبو داود : قلت لأحمد : أتقول قبل التكبير - يعني في الصلاة - شيئا ؟ قال : لا . وهذا قد يدخل فيه أنه لا يتلفظ بالنية . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية