1. الرئيسية
  2. جامع العلوم والحكم
  3. الحديث التاسع والثلاثون إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه
صفحة جزء
[ ص: 361 ] الحديث التاسع والثلاثون عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه . حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما .
هذا الحديث خرجه ابن ماجه من طريق الأوزاعي ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخرجه ابن حبان في " صحيحه " والدارقطني ، وعندهما : عن الأوزاعي ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا إسناد صحيح في ظاهر الأمر ، ورواته كلهم محتج بهم في " الصحيحين " وقد خرجه الحاكم ، وقال : صحيح على شرطهما . كذا قال ، ولكن له علة ، وقد أنكره الإمام أحمد جدا ، وقال : ليس يروى فيه إلا عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا . وقيل لأحمد : إن الوليد بن مسلم روى عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مثله ، فأنكره أيضا . [ ص: 362 ] وذكر لأبي حاتم الرازي حديث الأوزاعي ، وحديث مالك ، وقيل له : إن الوليد روى أيضا عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، فقال أبو حاتم : هذه أحاديث منكرة كأنها موضوعة ، وقال : لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث من عطاء ، وإنما سمعه من رجل لم يسمه ، أتوهم أنه عبد الله بن عامر ، أو إسماعيل بن مسلم ، قال : ولا يصح هذا الحديث ، ولا يثبت إسناده . قلت : وقد روي عن الأوزاعي ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير مرسلا من غير ذكر ابن عباس ، وروى يحيى بن سليم ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء : بلغني أن رسول الله صلى عليه وسلم قال : إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه خرجه الجوزجاني ، وهذا المرسل أشبه . وقد ورد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا رواه مسلم بن خالد الزنجي عن سعيد العلاف ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تجوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه خرجه الجوزجاني . وسعيد العلاف : هو سعيد بن أبي صالح ، قال أحمد : هو مكي ، قيل له : كيف حاله ؟ قال : لا أدري وما علمت أحدا روى عنه غير مسلم بن خالد ، قال أحمد : وليس هذا مرفوعا ، إنما هو عن ابن عباس قوله . نقل ذلك عنه مهنا ، ومسلم بن خالد ضعفوه . [ ص: 363 ] وروي من وجه ثالث من رواية بقية بن الوليد ، عن علي الهمداني ، عن أبي جمرة عن ابن عباس مرفوعا ، خرجه حرب ، ورواية بقية عن مشايخه المجاهيل لا تساوي شيئا . وروي من وجه رابع خرجه ابن عدي من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعبد الرحيم هذا ضعيف . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر ، وقد تقدم أن الوليد بن مسلم رواه عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا ، وصححه الحاكم وغربه ، وهو عند حذاق الحفاظ باطل على مالك ، كما أنكره الإمام أحمد وأبو حاتم ، وكانا يقولان عن الوليد : إنه كثير الخطأ . ونقل أبو عبيد الآجري عن أبي داود ، قال روى الوليد بن مسلم عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل ، منها عن نافع أربعة . قلت : والظاهر أن منها هذا الحديث ، والله أعلم . وخرجه الجوزجاني من رواية يزيد بن ربيعة سمعت أبا الأشعث يحدث عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله عز وجل تجاوز عن أمتي عن ثلاثة : عن الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه . ويزيد بن ربيعة ضعيف جدا . [ ص: 364 ] وخرج ابن أبي حاتم من رواية أبي بكر الهذلي ، عن شهر بن حوشب ، عن أم الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ والنسيان والاستكراه قال أبو بكر : فذكرت ذلك للحسن ، فقال أجل ، أما تقرأ بذلك قرآنا : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] . وأبو بكر الهذلي متروك الحديث . وخرجه ابن ماجه ، ولكن عنده عن شهر ، عن أبي ذر الغفاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولم يذكر كلام الحسن . وأما الحديث المرسل عن الحسن ، فرواه عنه هشام بن حسان ، ورواه منصور ، وعوف عن الحسن من قوله ، لم يرفعه ، ورواه جعفر بن جسر بن فرقد ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن أبي بكرة مرفوعا ، وجعفر وأبوه ضعيفان . [ ص: 365 ] قال محمد بن نصر المروزي : ليس لهذا الحديث إسناد يحتج به حكاه البيهقي . وفي " صحيح مسلم " عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزل قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] قال الله : قد فعلت . وعن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أنها لما نزلت ، قال : نعم ، وليس واحد منهما مصرحا برفعه . وخرج الدارقطني من رواية ابن جريج ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ، وما أكرهوا عليه ، إلا أن يتكلموا به أو يعملوا ، وهو لفظ غريب . وقد خرجه النسائي ولم يذكر الإكراه . وكذا رواه ابن عيينة عن مسعر ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وزاد فيه : وما استكرهوا عليه خرجه ابن ماجه . وقد أنكرت هذه الزيادة على ابن عيينة ، ولم يتابعه عليها أحد . والحديث مخرج من رواية قتادة في " الصحيحين " والسنن والمسانيد بدونها . [ ص: 366 ] ولنرجع إلى شرح حديث ابن عباس المرفوع ، فقوله : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان إلى آخره تقديره : إن الله رفع لي عن أمتي الخطأ ، أو ترك ذلك عنهم ، فإن " تجاوز " لا يتعدى بنفسه . وقوله : الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه . فأما الخطأ والنسيان ، فقد صرح القرآن بالتجاوز عنهما ، قال الله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] ، وقال : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم [ الأحزاب : 5 ] . وفي " الصحيحين " عن عمرو بن العاص سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إذا حكم الحاكم ، فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ ، فله أجر . وقال الحسن : لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين - يعني داود وسليمان - لرأيت أن القضاة قد هلكوا ، فإنه أثنى على هذا بعمله ، وعذر هذا باجتهاده : يعني قوله : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم [ الأنبياء : 78 ] الآية . وأما الإكراه فصرح القرآن أيضا بالتجاوز عنه ، قال تعالى : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] ، وقال تعالى : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة [ آل عمران : 28 ] الآية . ونحن نتكلم إن شاء الله في هذا الحديث في فصلين : أحدهما في حكم الخطأ والنسيان ، والثاني في حكم الإكراه . [ ص: 367 ] الفصل الأول في الخطأ والنسيان الخطأ : هو أن يقصد بفعله شيئا ، فيصادف فعله غير ما قصده ، مثل أن يقصد قتل كافر ، فيصادف قتله مسلما . والنسيان : أن يكون ذاكرا لشيء ، فينساه عند الفعل ، وكلاهما معفو عنه ، بمعنى أنه لا إثم فيه ، ولكن رفع الإثم لا ينافي أن يترتب على نسيانه حكم . كما أن من نسي الوضوء ، وصلى ظانا أنه متطهر ، فلا إثم عليه بذلك ، ثم إن تبين أنه كان قد صلى محدثا فإن عليه الإعادة . ولو ترك التسمية على الوضوء نسيانا ، وقلنا بوجوبها ، فهل يجب عليه إعادة الوضوء ؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد . وكذا لو ترك التسمية على الذبيحة نسيانا ، فيه عنه روايتان ، وأكثر الفقهاء على أنها تؤكل . ولو ترك الصلاة نسيانا ثم ذكر ، فإن عليه القضاء ، كما قال صلى الله عليه وسلم : من نام عن صلاة أو نسيها ، فليصلها إذا ذكرها ، لا كفارة لها إلا ذلك ثم تلا : وأقم الصلاة لذكري [ طه : 14 ] . ولو صلى حاملا في صلاته نجاسة لا يعفى عنها ، ثم علم بها بعد صلاته أو في أثنائها فأزالها فهل يعيد صلاته أم لا ؟ فيه قولان ، هما روايتان عن أحمد ، [ ص: 368 ] وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلع نعليه في صلاته وأتمها ، وقال : إن جبريل أخبرني أن فيهما أذى ولم يعد صلاته . ولو تكلم في صلاته ناسيا أنه في صلاة ، ففي بطلان صلاته بذلك قولان مشهوران ، هما روايتان عن أحمد ، ومذهب الشافعي : أنها لا تبطل بذلك . ولو أكل في صومه ناسيا ، فالأكثرون على أنه لا يبطل صيامه ، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم : من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه ، فإنما أطمعه الله وسقاه . وقال مالك : عليه الإعادة ، لأنه بمنزلة من ترك الصلاة ناسيا ، والجمهور يقولون : قد أتى بنية الصيام ، وإنما ارتكب بعض محظوراته ناسيا ، فيعفى عنه . ولو جامع ناسيا ، فهل حكمه حكم الآكل ناسيا أم لا ؟ فيه قولان : أحدهما : - وهو المشهور عن أحمد - أنه يبطل صيامه بذلك وعليه القضاء ، وفي الكفارة عنه روايتان . والثاني : لا يبطل صومه بذلك كالأكل ، وهو مذهب الشافعي ، وحكي رواية عن أحمد . وكذا الخلاف في الجماع في الإحرام ناسيا : هل يبطل به النسك أم لا ؟ . ولو حلف لا يفعل شيئا ، ففعله ناسيا ليمينه ، أو مخطئا ظانا أنه غير المحلوف عليه ، فهل يحنث في يمينه أم لا ؟ فيه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد : أحدها : لا يحنث بكل حال ، ولو كانت اليمين بالطلاق والعتاق ، وأنكر هذه [ ص: 369 ] الرواية عن أحمد الخلال ، وقال : هي سهو من ناقلها ، وهو قول الشافعي في أحد قوليه ، وإسحاق وأبي ثور ، وابن أبي شيبة ، وروي عن عطاء ، قال إسحاق : ويستخلف أنه كان ناسيا ليمينه . والثاني : يحنث بكل حال ، وهو قول جماعة من السلف ومالك . والثالث : يفرق بين أن يكون يمينه بطلاق أو عتاق ، أو بغيرهما وهو المشهور عن أحمد ، وقول أبي عبيد ، وكذا قال الأوزاعي في الطلاق ، وقال : إنما الحديث الذي جاء في العفو عن الخطأ والنسيان ما دام ناسيا ، وأقام على امرأته ، فلا إثم عليه ، فإذا ذكر ، فعليه اعتزال امرأته ، فإن نسيانه قد زال . وحكى إبراهيم الحربي إجماع التابعين على وقوع الطلاق بالناسي . ولو قتل مؤمنا خطأ ، فإن عليه الكفارة والدية بنص الكتاب ، وكذا لو أتلف مال غيره خطأ يظنه أنه مال نفسه . وكذا قال الجمهور في المحرم يقتل الصيد خطأ ، أو ناسيا لإحرامه أن عليه جزاءه ، ومنهم من قال : لا جزاء عليه إلا أن يكون متعمدا لقتله تمسكا بظاهر قوله عز وجل : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم الآية [ المائدة : 95 ] ، وهو رواية عن أحمد ، وأجاب الجمهور عن الآية بأنه رتب على قتله متعمدا الجزاء وانتقام الله تعالى ، ومجموعهما يختص بالعامد ، وإذا انتفى العمد انتفى الانتقام ، وبقي الجزاء ثابتا بدليل آخر . والأظهر - والله أعلم - أن الناسي والمخطئ إنما عفي عنهما بمعنى رفع الإثم عنهما ، لأن الإثم مرتب على المقاصد والنيات ، والناسي والمخطئ لا قصد لهما ، فلا إثم عليهما ، وأما رفع الأحكام عنهما فليس مرادا من هذه النصوص ، فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليل آخر . [ ص: 370 ] الفصل الثاني . في حكم المكره . وهو نوعان : أحدهما : من لا اختيار له بالكلية ، ولا قدرة له على الامتناع ، كمن حمل كرها وأدخل إلى مكان حلف على الامتناع من دخوله ، أو حمل كرها ، وضرب به غيره حتى مات ذلك الغير ، ولا قدرة له على الامتناع ، أو أضجعت ، ثم زني بها من غير قدرة لها على الامتناع ، فهذا لا إثم عليه بالاتفاق ، ولا يترتب عليه حنث في يمينه عند جمهور العلماء . وقد حكي عن بعض السلف - كالنخعي - فيه خلاف ، ووقع مثله في كلام بعض أصحاب الشافعي وأحمد ، والصحيح عندهم أنه لا يحنث بحال . وروي عن الأوزاعي في امرأة حلفت على شيء ، وأحنثها زوجها كرها أن كفارتها عليه ، وعن أحمد رواية كذلك ، فيما إذا وطئ امرأته مكرهة في صيامها أو إحرامها أن كفارتها عليه . والمشهور عنه أنه يفسد بذلك صومها وحجها . والنوع الثاني : من أكره بضرب أو غيره حتى فعل ، فهذا الفعل يتعلق به التكليف ، فإنه يمكنه أن لا يفعل فهو مختار للفعل ، لكن ليس غرضه نفس الفعل ، بل دفع الضرر عنه ، فهو مختار من وجه ، غير مختار من وجه ، ولهذا اختلف الناس : هل هو مكلف أم لا ؟ [ ص: 371 ] واتفق العلماء على أنه لو أكره على قتل معصوم لم يبح له أن يقتله ، فإنه إنما يقتله باختياره افتداء لنفسه من القتل ، هذا إجماع من العلماء المعتد بهم ، وكان في زمن الإمام أحمد يخالف فيه من لا يعتد به ، فإذا قتله في هذه الحال ، فالجمهور على أنهما يشتركان في وجوب القود : المكره والمكره ؟ لاشتراكهما في القتل ، وهو قول مالك والشافعي في المشهور وأحمد ، وقيل : يجب على المكره وحده ، لأن المكره صار كالآلة ، وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي ، وروي عن زفر كالأول ، وروي عنه أنه يجب على المكره لمباشرته ، وليس هو كالآلة ، لأنه آثم بالاتفاق ، وقال أبو يوسف : لا قود على واحد منهما ، وخرجه بعض أصحابنا وجها لنا من الرواية لا توجب فيها قتل الجماعة بالواحد ، وأولى . ولو أكره بالضرب ونحوه على إتلاف مال الغير المعصوم ، فهل يباح له ذلك ؟ فيه وجهان لأصحابنا . فإن قلنا : يباح له ذلك ، فضمنه المالك ، رجع بما ضمنه على المكره ، وإن قلنا : لا يباح له ذلك ، فالضمان عليهما معا كالقود . وقيل : على المباشر المكره وحده وهو ضعيف . ولو أكره على شرب الخمر أو غيره من الأفعال المحرمة ، ففي إباحته قولان : أحدهما : يباح له ذلك استدلالا بقوله تعالى : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم [ النور : 33 ] ، وهذه نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول ، كانت له أمتان يكرههما على الزنا ، وهما يأبيان ذلك ، وهذا قول الجمهور كالشافعي ، وأبي حنيفة ، وهو المشهور عن أحمد ، وروي نحوه عن الحسن ومكحول ، ومسروق وعن عمر بن الخطاب ما يدل عليه . [ ص: 372 ] وأهل هذه المقالة اختلفوا في إكراه الرجل على الزنا ، فمنهم من قال : لا يصح إكراهه عليه ، ولا إثم عليه ، وهو قول الشافعي ، وابن عقيل من أصحابنا ، ومنهم من قال : لا يصح إكراهه عليه ، وعليه الإثم والحد ، وهو قول أبي حنيفة ومنصوص أحمد ، وروي عن الحسن . والقول الثاني : إن التقية إنما تكون في الأقوال ، ولا تقية في الأفعال ، ولا إكراه عليها ، روي ذلك عن ابن عباس ، وأبي العالية ، وأبي الشعثاء ، والربيع بن أنس ، والضحاك ، وهو رواية عن أحمد ، وروي عن سحنون أيضا . وعلى هذا لو شرب الخمر أو سرق مكرها ، حد . وعلى الأول لو شرب الخمر مكرها ، ثم طلق أو أعتق ، فهل يكون حكمه حكم المختار لشربها أم لا ؟ بل يكون طلاقه وعتاقه لغوا ؟ فيه لأصحابنا وجهان ، وروي عن الحسن فيمن قيل له : اسجد لصنم وإلا قتلناك ، قال : إن كان الصنم تجاه القبلة فليسجد ، ويجعل نيته لله ، وإن كان إلى غير القبلة فلا يفعل وإن قتلوه ، قال ابن حبيب المالكي : وهذا قول حسن . قال ابن عطية : وما يمنعه أن يجعل نيته لله ، وإن كان لغير القبلة ، وفي كتاب الله : فأينما تولوا فثم وجه الله [ البقرة : 115 ] ، وفي الشرع إباحة التنفل للمسافر إلى غير القبلة ؟ وأما الإكراه على الأقوال ، فاتفق العلماء على صحته ، وأن من أكره على قول محرم إكراها معتبرا أن له أن يفتدي نفسه به ، ولا إثم عليه ، وقد دل عليه قول الله تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] 0 وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار : وإن عادوا فعد . وكان المشركون قد عذبوه حتى يوافقهم [ ص: 373 ] على ما يريدونه من الكفر ، ففعل . وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصى طائفة من أصحابه ، وقال : لا تشركوا بالله وإن قطعتم وحرقتم ، فالمراد الشرك بالقلوب ، كما قال تعالى : وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما [ لقمان : 15 ] ، وقال تعالى : ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله [ النحل : 105 ] . [ ص: 374 ] وسائر الأقوال يتصور عليها الإكراه ، فإذا أكره بغير حق على قول من الأقوال ، لم يترتب عليه حكم من الأحكام ، وكان لغوا ، فإن كلام المكره صدر منه وهو غير راض به ، فلذلك عفي عنه ، ولم يؤاخذ به في أحكام الدنيا والآخرة . وبهذا فارق الناسي والجاهل ، وسواء في ذلك العقود : كالبيع والنكاح ، أو الفسوخ : كالخلع والطلاق والعتاق ، وكذلك الأيمان والنذور ، وهذا قول جمهور العلماء ، وهو قول مالك والشافعي وأحمد . وفرق أبو حنيفة بين ما يقبل الفسخ عنده ، ويثبت فيه الخيار كالبيع ونحوه ، فقال : لا يلزم مع الإكراه ، وما ليس كذلك ، كالنكاح والطلاق والعتاق والأيمان ، فألزم بها مع الإكراه . ولو حلف : لا يفعل شيئا ، ففعله مكرها ، فعلى قول أبي حنيفة يحنث ، وأما على قول الجمهور ، ففيه قولان : أحدهما : يحنث ، كما يحنث إذا فعل به ذلك كرها ، ولم يقدر على الامتناع كما سبق ، وهذا قول الأكثرين منهم . والثاني : يحنث هاهنا ، لأنه فعله باختياره بخلاف ما إذا حمل ولم يمكنه الامتناع ، وهو رواية عن أحمد وقول للشافعي ، ومن أصحابه - وهو القفال - من فرق بين اليمين بالطلاق والعتاق وغيرهما كما قلنا نحن في الناسي ، وخرجه بعض أصحابنا وجها لنا . ولو أكره على أداء ماله بغير حق ، فباع عقاره ليؤدي ثمنه ، فهل يصح الشراء منه أم لا ؟ فيه روايتان عن أحمد ، وعنه رواية ثالثة : إن باعه بثمن المثل اشتري منه ، وإن باعه بدونه لم يشتر منه ، ومتى رضي المكره بما أكره عليه لحدوث رغبة له فيه بعد الإكراه ، والإكراه قائم ، صح ما صدر منه من العقود وغيرها بهذا القصد . هذا هو المشهور عند أصحابنا ، وفيه وجه آخر : أنه لا يصح أيضا ، وفيه بعد . [ ص: 375 ] وأما الإكراه بحق ، فهو غير مانع من لزوم ما أكره عليه ، فلو أكره الحربي على الإسلام فأسلم ، صح إسلامه ، وكذا لو أكره الحاكم أحدا على بيع ماله ليوفي دينه ، أو أكره المؤلي بعد مدة الإيلاء وامتناعه من الفيئة على الطلاق ، ولو حلف لا يوفي دينه فأكرهه الحاكم على وفائه ، فإنه يحنث بذلك ، لأنه فعل ما حلف عليه حقيقة على وجه يعذر فيه . ذكره أصحابنا بخلاف ما إذا امتنع من الوفاء ، فأدى عنه الحاكم ، فإنه يحنث ، لأنه لم يوجد منه فعل المحلوف عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية