صفحة جزء
[ ص: 438 ] الحديث الرابع والأربعون . عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة خرجه البخاري ومسلم .
هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية عمرة عن عائشة ، وخرج مسلم أيضا من رواية عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، وخرجاه أيضا من رواية عروة عن عائشة من قولها ، وخرجاه من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخرجه الترمذي من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد أجمع العلماء على العمل بهذه الأحاديث في الجملة ، وأن الرضاع يحرم ما يحرمه النسب ، ولنذكر المحرمات من النسب كلهن حتى يعلم بذلك ما يحرم من الرضاع ، فنقول : الولادة والنسب قد يؤثران التحريم في النكاح ، وهو على قسمين : أحدهما : تحريم مؤبد على الانفراد ، وهو نوعان [ ص: 439 ] أحدهما : ما يحرم بمجرد النسب ، فيحرم على الرجل أصوله وإن علون ، وفروعه وإن سفلن ، وفروع أصله الأدنى وإن سفلن ، فروع أصوله البعيدة دون فروعهن ، فيدخل في أصوله أمهاته وإن علون من جهة أبيه وأمه ، وفي فروعه بناته وبنات أولاده وإن سفلن ، وفي فروع أصله الأدنى أخواته من الأبوين ، أو من أحدهما ، وبناتهن وبنات الإخوة وأولادهم وإن سفلن ، ودخل في فروع أصوله البعيدة العمات والخالات وعمات الأبوين وخالاتهما وإن علون ، فلم يبق من الأقارب حلالا للرجل سوى فروع أصوله البعيدة ، وهن بنات العم وبنات العمات ، وبنات الخال ، وبنات الخالات . والنوع الثاني : ما يحرم من النسب مع سبب آخر ، وهو المصاهرة ؛ فيحرم على الرجل حلائل آبائه ، وحلائل أبنائه ، وأمهات نسائه ، وبنات نسائه المدخول بهن ؛ فيحرم على الرجل أم امرأته وأمهاتها من جهة الأم والأب وإن علون ، ويحرم عليه بنات امرأته ، وهن الربائب وبناتهن وإن سفلن ، وكذلك بنات بني زوجته وهن بنات الربائب نص عليه الشافعي وأحمد ، ولا يعلم فيه خلاف . ويحرم عليه أن يتزوج بامرأة أبيه ، وإن علا وبامرأة ابنه وإن سفل ، ودخول هؤلاء في التحريم بالنسب ظاهر ، لأن تحريمهن من جهة نسب الرجل مع سبب المصاهرة . وأما أمهات نسائه وبناتهن ، فتحريمهن مع المصاهرة بسبب نسب المرأة ، فلم يخرج التحريم بذلك عن أن يكون بالنسب مع انضمامه إلى سبب المصاهرة ، فإن التحريم بالسبب المجرد ، والنسب المضاف إلى المصاهرة يشترك فيه الرجال والنساء ؛ فيحرم على المرأة أن تتزوج أصولها وإن علوا ، وفروعها وإن سفلوا ، وفروع أصولها الأدنى وإن سفلوا من إخوتها ، وأولاد الإخوة وإن سفلوا ، وفروع أصولها البعيدة وهم الأعمام والأخوال وإن علوا دون أبنائهم ، فهذا كله بالنسب المجرد . [ ص: 440 ] وأما بالنسب المضاف إلى المصاهرة ، فيحرم عليها نكاح أبي زوجها وإن علا ، ونكاح ابنه وإن سفل بمجرد العقد ، ويحرم عليها زوج ابنتها وإن سفلت بالعقد ، وزوج أمها وإن علت ، لكن بشرط الدخول بها . والقسم الثاني : التحريم المؤبد على الاجتماع دون الانفراد ، وتحريمه يختص بالرجال لاستحالة إباحة جمع المرأة بين زوجين ، فكل امرأتين بينهما رحم محرم يحرم الجمع بينهما بحيث لو كانت إحداهما ذكرا لم يجز له التزوج بالأخرى ، فإنه يحرم الجمع بينهما بعقد النكاح . قال الشعبي : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون : لا يجمع الرجل بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلا لم يصلح له أن يتزوجها . وهذا إذا كان التحريم لأجل النسب ، وبذلك فسره سفيان الثوري وأكثر العلماء ، فلو كان لغير النسب مثل أن يجمع بين زوجة رجل وابنته من غيرها ، فإنه يباح عند الأكثرين ، وكرهه بعض السلف . فإذا علم ما يحرم من النسب ، فكل ما يحرم منه ، فإنه يحرم من الرضاع نظيره ، فيحرم على الرجل أن يتزوج أمهاته من الرضاعة وإن علون ، وبناته من الرضاعة وإن سفلن ، وأخواته من الرضاعة ، وبنات أخواته من الرضاعة وعماته وخالاته من الرضاعة ، وإن علون دون بناتهن . ومعنى هذا أن المرأة إذا أرضعت طفلا الرضاع المعتبر في المدة المعتبرة ، صارت أما له بنص كتاب الله ، فتحرم عليه هي وأمهاتها ، وإن علون من نسب أو رضاع ، وتصير بناتها كلهن أخوات له من الرضاعة ، فيحرمن عليه بنص القرآن ؛ وبقية التحريم من الرضاعة استفيد من السنة ، كما استفيد من السنة أن تحريم الجمع لا يختص بالأختين ، بل المرأة وعمتها ، والمرأة وخالتها كذلك ، وإذا كان أولاد المرضعة من نسب أو رضاع إخوة للمرتضع ، فيحرم عليه بنات إخوته أيضا ، وقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من تزويج ابنة عمه حمزة وابنة أبي سلمة ، وعلل [ ص: 441 ] بأن أبويهما كانا أخوين له من الرضاعة . ويحرم عليه أيضا أخوات المرضعة ، لأنهن خالاته ، وينتشر التحريم أيضا إلى الفحل صاحب اللبن الذي ارتضع منه الطفل ، فيصير صاحب اللبن أبا للطفل ، وتصير أولاده كلهم من المرضعة أو من غيرها من نسب أو رضاع إخوة للمرتضع ويصير إخوته أعماما للطفل المرتضع ، وهذا قول جمهور العلماء من السلف ، وأجمع عليه الأئمة الأربعة ومن بعدهم . وقد دل على ذلك من السنة ما روت عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن عليها بعد ما أنزل الحجاب ، قالت عائشة : فقلت : والله لا آذن له حتى أستأذن رسول صلى الله عليه وسلم ، فإن أبا القعيس ليس هو أرضعني ، ولكن أرضعتني امرأته ، قالت : فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكرت ذلك له ، فقال : ائذني له ، فإنه عمك تربت يمينك ، وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة . خرجاه في " الصحيحين " بمعناه . وسئل ابن عباس عن رجل له جاريتان ، أرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاما أيحل للغلام أن يتزوج الجارية ، فقال : لا ، اللقاح واحد . ولو كان اللبن الذي ارتضع به الطفل قد ثاب للمرأة من غير وطء فحل بأن تكون امرأة لا زوج لها قد ثاب لها لبن أو هي بكر أو آيسة ، فأكثر العلماء على أنه يحرم الرضاع به ، وتصير المرضعة أما للطفل ، وقد حكاه ابن المنذر إجماعا عمن يحفظ عنه من أهل العلم ، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق وغيرهم . وذهب الإمام أحمد في المشهور المنصوص عنه إلى أنه لا ينتشر التحريم [ ص: 442 ] به بحال حتى يكون له فحل يدر اللبن من رضاعه . وحكي عن الشافعي قول مثله . ولو انقطع نسبه من جهة صاحب اللبن ، كولد الزنا ، فهل تنتشر الحرمة إلى الزاني صاحب اللبن ؟ هذا ينبني على أن البنت من الزنا هل تحرم على الزاني ؟ ومذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك في رواية عنه تحريمها عليه خلافا للشافعي ، وبالغ الإمام أحمد في الإنكار على من خالف في ذلك ، فعلى قولهم : هل ينتشر التحريم إلى الزاني صاحب اللبن ، فيكون أبا للمرتضع أم لا ؟ فيه قولان هما وجهان لأصحابنا ، واختار ابن حامد أن التحريم لا ينتشر إليه ، واختار أبو بكر ، والقاضي أبو يعلى أن التحريم ينتشر إلى الزاني ، وهو نص أحمد ، وحكاه عن ابن عباس ، وهو قول إسحاق بن راهويه ، نقله عنه حرب . وينتشر التحريم بالرضاع إلى ما حرم بالنسب مع الصهر : أما من جهة نسب الرجل ، كامرأة أبيه وابنه ، أو من جهة نسب الزوجة ، كأمها وابنتها ، وإلى ما حرم جمعه لأجل نسب المرأة أيضا ، كالجمع بين الأختين والمرأة وعمتها أو خالتها ، فيحرم ذلك كله من الرضاع كما يحرم من النسب ، لدخوله في قوله صلى الله عليه وسلم : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب . وتحرم هذا كله للنسب ، فبعضه لنسب الزوج وبعضه لنسب الزوجة ، وقد نص على ذلك أئمة السلف ، ولا يعلم بينهم فيه اختلاف ، ونص عليه الإمام أحمد ، واستدل بعموم قوله : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب . وأما قوله عز وجل : وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم [ النساء : 23 ] ، فقالوا : لم يرد بذلك أنه لا يحرم حلائل الأبناء من الرضاع ، إنما أراد إخراج حلائل الذين تبنوا ، ولم يكونوا أبناء من النسب كما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زوجة زيد بن حارثة بعد أن كان قد تبناه . وهذا التحريم بالرضاع يختص بالمرتضع نفسه ، وينتشر إلى أولاده ، ولا ينتشر تحريمه إلى من في درجة المرتضع من إخوته وأخواته ولا إلى من هو [ ص: 443 ] أعلى منه من آبائه وأمهاته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته ، فتباح المرضعة نفسها لأبي المرتضع من النسب ولأخيه ، وتباح أم المرتضع وأخته منه لأبي المرتضع من الرضاع ولأخيه . هذا قول جمهور العلماء ، وقالوا : يباح أن يتزوج أخت أخته من الرضاعة ، وأخت ابنته من الرضاعة ، حتى قال الشعبي : هي أحل من ماء قدس ، وصرح بإباحتها حبيب بن أبي ثابت وأحمد . وروى أشعث عن الحسن أنه كره أن يتزوج الرجل بنت ظئر ابنه ، ويقول : أخت ابنه ، ولم ير بأسا أن يتزوج أمها ، يعني : ظئر ابنه ، وروى سليمان التيمي عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتزوج أخت أخيه من الرضاعة ، فلم يقل فيه شيئا ، وهذا يقتضي توقفه فيه ، ولعل الحسن إنما كان يكره ذلك تنزيها ، لا تحريما ، لمشابهته للمحرم بالنسب في الاسم ، وهذا بمجرده لا يوجب تحريما . وقد استثنى كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم مما يحرم من النسب صورتين ، فقالوا : لا يحرم نظيرها من الرضاع : إحداهما : أم الأخت ، فتحرم من النسب ، ولا تحرم من الرضاع . والثانية : أخت الابن ، فتحرم من النسب دون الرضاع ، ولا حاجة إلى استثناء هذين ولا أحدهما . أما أم الأخت ، فإنما تحرم من النسب ، لكونها أما أو زوجة أب ، لا لمجرد كونها أم أخت ، فلا يعلق التحريم بما لم يعلقه الله به ، وحينئذ فيوجد في الرضاع من هي أم أخت ليست أما ولا زوجة أب ، فلا تحرم ، لأنها ليست نظيرا لذات النسب ، وأما أخت الابن ، فإن الله تعالى إنما حرم الربيبة المدخول بأمها ، فتحرم لكونها ربيبة دخل بأمها ، لا لكونها أخت ابنه ، والدخول في [ ص: 444 ] الرضاع منتف فلا يحرم به أولاد المرضعة . ومما قد يدخل في عموم قوله : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب : لو ظاهر من امرأته ، فشبهها بمحرمة من الرضاع ، فقال لها : أنت علي كأمي من الرضاع ، فهل يثبت بذلك تحريم الظهار أم لا ؟ فيه قولان : أحدهما : أنه يثبت به تحريم الظهار ، وهو قول الجمهور ، منهم مالك ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي ، والحسن بن صالح ، وعثمان التيمي ، وهو المشهور عن أحمد . والثاني : لا يثبت به التحريم ، وهو قول الشافعي ، وتوقف فيه أحمد في رواية ابن منصور .

التالي السابق


الخدمات العلمية