صفحة جزء
[ ص: 193 ] الحديث السادس عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الحلال بين وإن الحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات ، لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب رواه البخاري ومسلم .
هذا الحديث صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير ، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص ، والمعنى واحد أو متقارب . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وعمار بن ياسر ، وجابر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وحديث النعمان أصح أحاديث الباب . [ ص: 194 ] فقوله صلى الله عليه وسلم : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس معناه : أن الحلال المحض بين لا اشتباه فيه ، وكذلك الحرام المحض ، ولكن بين الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس ، هل هي من الحلال أم من الحرام ؟ وأما الراسخون في العلم ، فلا يشتبه عليهم ذلك ، ويعلمون من أي القسمين هي . فأما الحلال المحض : فمثل أكل الطيبات من الزروع ، والثمار وبهيمة الأنعام ، وشرب الأشربة الطيبة ، ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان ، أو الصوف أو الشعر ، وكالنكاح ، والتسري وغير ذلك إذا كان اكتسابه بعقد صحيح كالبيع ، أو بميراث ، أو هبة ، أو غنيمة . والحرام المحض : مثل أكل الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وشرب الخمر ، ونكاح المحارم ، ولباس الحرير للرجال ، ومثل الأكساب المحرمة كالربا والميسر وثمن مالا يحل بيعه ، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب أو تدليس أو نحو ذلك . وأما المشتبه : فمثل بعض ما اختلف في حله أو تحريمه ، إما من الأعيان كالخيل والبغال والحمير ، والضب ، وشرب ما اختلف في تحريمه من الأنبذة التي يسكر كثيرها ، ولبس ما اختلف في إباحة لبسه من جلود السباع ونحوها ، وإما من المكاسب المختلف فيها كمسائل العينة والتورق ونحو [ ص: 195 ] ذلك ، وبنحو هذا المعنى فسر المشتبهات أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة . وحاصل الأمر أن الله تعالى أنزل على نبيه الكتاب ، وبين فيه للأمة ما يحتاج إليه من حلال وحرام ، كما قال تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ( النحل : 89 ) قال مجاهد وغيره : كل شيء أمروا به أو نهوا عنه ، وقال تعالى في آخر سورة النساء ( الآية : 176 ) التي بين فيها كثيرا من أحكام الأموال والأبضاع : يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم وقال تعالى : وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ( الأنعام : 119 ) ، وقال تعالى : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ( التوبة : 115 ) ووكل بيان ما أشكل من التنزيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ( النحل : 44 ) وما قبض صلى الله عليه وسلم حتى أكمل له ولأمته الدين ، ولهذا أنزل عليه بعرفة قبل موته بمدة يسيرة : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ( المائدة : 3 ) . وقال صلى الله عليه وسلم تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك . وقال أبو ذر : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علما . [ ص: 196 ] ولما شك الناس في موته صلى الله عليه وسلم ، قال عمه العباس رضي الله عنه : والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السبيل نهجا واضحا ، وأحل الحلال وحرم الحرام ، ونكح وطلق ، وحارب وسالم ، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاه بمخبطه ، ويمدر حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيكم . وفي الجملة فما ترك الله ورسوله حلالا إلا مبينا ولا حراما إلا مبينا ، لكن بعضه كان أظهر بيانا من بعض ، فما ظهر بيانه واشتهر وعلم من الدين بالضرورة من ذلك لم يبق فيه شك ، ولا يعذر أحد بجهله في بلد يظهر فيه الإسلام ، وما كان بيانه دون ذلك ، فمنه ما اشتهر بين حملة الشريعة خاصة ، فأجمع العلماء على حله أو حرمته ، وقد يخفى على بعض من ليس منهم ، ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضا ، فاختلفوا في تحليله وتحريمه وذلك لأسباب : منها أنه قد يكون النص عليه خفيا لم ينقله إلا قليل من الناس ، فلم يبلغ جميع حملة العلم . ومنها أنه قد ينقل فيه نصان ، أحدهما بالتحليل ، والآخر بالتحريم ، فيبلغ طائفة منهم أحد النصين دون الآخر ، فيتمسكون بما بلغهم ، أو يبلغ النصان معا من لم يبلغه التاريخ ، فيقف لعدم معرفته بالناسخ . [ ص: 197 ] ومنها ما ليس فيه نص صريح ، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس ، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيرا . ومنها ما يكون فيه أمر ، أو نهي ، فتختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب ، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه ، وأسباب الاختلاف أكثر مما ذكرنا . ومع هذا فلابد في الأمة من عالم يوافق الحق ، فيكون هو العالم بهذا الحكم ، وغيره يكون الأمر مشتبها عليه ولا يكون عالما بهذا ، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ، ولا يظهر أهل باطلها على أهل حقها ، فلا يكون الحق مهجورا غير معمول به في جميع الأمصار والأعصار ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في المشتبهات : لا يعلمهن كثير من الناس فدل على أن من الناس من يعلمها ، وإنما هي مشتبهة على من لم يعلمها ، وليست مشتبهة في نفس الأمر ، فهذا هو السبب المقتضي لاشتباه بعض الأشياء على كثير من العلماء . وقد يقع الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر ، وهو أن من الأشياء ما يعلم سبب حله وهو الملك المتيقن ومنها ما يعلم سبب تحريمه وهو ثبوت ملك الغير عليه ، فالأول لا تزول إباحته إلا بيقين زوال الملك عنه ، اللهم إلا في الأبضاع عند من يوقع الطلاق بالشك فيه كمالك ، أو إذا غلب على الظن وقوعه كإسحاق بن راهويه والثاني : لا يزول تحريمه إلا بيقين العلم بانتقال الملك فيه . وأما ما لا يعلم له أصل ملك كما يجده الإنسان في بيته ولا يدري : هل هو له أو لغيره فهذا مشتبه ، ولا يحرم عليه تناوله ، لأن الظاهر أن ما في بيته ملكه لثبوت يده عليه ، والورع اجتنابه ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : إنى لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ، ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها [ ص: 198 ] خرجاه في " الصحيحين " فإن كان هناك من جنس المحظور ، وشك هل هو منه أم لا ؟ قويت الشبهة . وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أصابه أرق من الليل ، فقال له بعض نسائه : يا رسول الله ، أرقت الليلة فقال : إني كنت أصبت تمرة تحت جنبي ، فأكلتها وكان عندنا تمر من تمر الصدقة ، فخشيت أن تكون منه . ومن هذا أيضا ما أصله الإباحة كطهارة الماء ، والثوب ، والأرض ، إذا لم يتيقن زوال أصله ، فيجوز استعماله ، وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان ، فلا تحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد ، فإن تردد في شيء من ذلك لظهور سبب آخر رجع إلى الأصل فبنى عليه ، فيبني فيما أصله الحرمة على التحريم ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم غير سهمه ، أو كلب غير كلبه ، أو يجده قد وقع في ماء وعلل بأنه لا يدري : هل مات من السبب المبيح له أو من غيره ، فيرجع فيما أصله الحل إلى الحل ، فلا ينجس الماء والأرض والثوب بمجرد ظن النجاسة ، وكذلك البدن إذا تحقق طهارته وشك : هل انتقضت بالحدث عند جمهور العلماء خلافا لمالك رحمه الله إذا لم يكن قد دخل في الصلاة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه شكى إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ، فقال : لا ينصرف حتى يسمع [ ص: 199 ] صوتا أو يجد ريحا وفي بعض الروايات : " في المسجد " بدل الصلاة . وهذا يعم حال الصلاة وغيرها ، فإن وجد سبب قوي يغلب معه على الظن نجاسة ما أصله الطهارة مثل أن يكون الثوب يلبسه كافر لا يتحرز من النجاسات ، فهذا محل اشتباه ، فمن العلماء من رخص فيه أخذا بالأصل ، ومنهم من كرهه تنزيها ، ومنهم من حرمه إذا قوي ظن النجاسة مثل أن يكون الكافر ممن لا تباح ذبيحته أو يكون ملاقيا لعورته كالسراويل والقميص ، وترجع هذه المسائل وشبهها على قاعدة تعارض الأصل والظاهر ، فإن الأصل الطهارة والظاهر النجاسة وقد تعارضت الأدلة في ذلك . فالقائلون بالطهارة يستدلون بأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب ، وطعامهم إنما يصنعونه بأيديهم في أوانيهم ، وقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم دعوة يهودي ، وكان هو وأصحابه يلبسون ويستعملون ما يجلب إليهم مما ينسجه الكفار بأيديهم من الثياب والأواني ، وكانوا في المغازي يقتسمون ما وقع لهم من الأوعية ، والثياب ويستعملونها ، وصح عنهم أنهم استعملوا الماء من مزادة مشركة . والقائلون بالنجاسة يستدلون بأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن آنية أهل الكتاب الذين يأكلون الخنزير ، ويشربون الخمر ، فقال : إن لم تجدوا غيرها ، فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها . وقد فسر الإمام أحمد الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام : يعني الحلال المحض والحرام المحض ، وقال : من اتقاها ، فقد استبرأ لدينه ، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام . [ ص: 200 ] ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط ، فإن كان أكثر ماله الحرام ؛ فقال أحمد : ينبغي أن يتجنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا ، أو شيئا لا يعرف ، واختلف أصحابنا : هل هو مكروه أو محرم ؟ على وجهين . وإن كان أكثر ماله الحلال ، جازت معاملته والأكل من ماله . وقد روى الحارث عن علي أنه قال في جوائز السلطان : لا بأس بها ، ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام . وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم بأنهم لا يجتنبون الحرام كله . وإن اشتبه الأمر فهو شبهة ، والورع تركه قال سفيان : لا يعجبني ذلك ، وتركه أعجب إلي . وقال الزهري ومكحول : لا بأس أن يؤكل منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه ، فإن لم يعلم في ماله حرام بعينه ، ولكن علم أن فيه شبهة ؛ فلا بأس بالأكل منه ، نص عليه أحمد في رواية حنبل . وذهب إسحاق بن راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسلمان وغيرهما من الرخصة ، وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ بما يقضي من الربا والقمار ، نقله عنه ابن منصور . وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه : إن كان المال كثيرا أخرج منه قدر الحرام ، وتصرف في الباقي ، وإن كان المال قليلا ، اجتنبه كله ، وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئا ، فإنه تبعد معه السلامة من الحرام بخلاف الكثير ، ومن أصحابنا من حمل ذلك على الورع دون التحريم ، وأباح التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه ، وهو قول الحنفية وغيرهم ، وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بشر الحافي . ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنه [ ص: 201 ] من الحرام بعينه ، كما تقدم عن مكحول والزهري ، وروي مثله عن الفضيل بن عياض . وروي في ذلك آثار عن السلف ، فصح عن ابن مسعود أنه سئل عمن له جار يأكل الربا علانية ولا يتحرج من مال خبيث يأخذه يدعوه إلى طعامه ، قال : أجيبوه فإنما المهنأ لكم والوزر عليه وفي رواية أنه قال : لا أعلم له شيئا إلا خبيثا أو حراما ، فقال : أجيبوه وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود ولكنه عارضه عارض بما روي عنه أنه قال : الإثم حواز القلوب . وروي عن سلمان مثل قول ابن مسعود الأول ، وعن سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، ومورق العجلي ، وإبراهيم النخعي ، وابن سيرين ، وغيرهم ، والآثار بذلك موجودة في كتاب " الأدب " لحميد بن زنجويه ، وبعضها في كتاب " الجامع " للخلال وفي مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم . ومتى علم أن عين الشيء حرام ، أخذ بوجه محرم ، فإنه يحرم تناوله ، وقد حكى الإجماع على ذلك ابن عبد البر وغيره ، وقد روي عن ابن سيرين في [ ص: 202 ] الرجل يقضى من الربا ، قال : لا بأس به ، وعن الرجل يقضى من القمار قال : لا بأس به ، خرجه الخلال بإسناد صحيح ، وروي عن الحسن خلاف هذا ، وأنه قال : إن هذه المكاسب قد فسدت ، فخذوا منها ما شبه المضطر . وعارض المروي عن ابن مسعود وسلمان ، ما روي عن أبي بكر الصديق أكل طعاما ثم أخبر أنه من حرام فاستقاءه . وقد يقع الاشتباه في الحكم لكون الفرع مترددا بين أصول تجتذبه ، كتحريم الرجل زوجته ، فإن هذا متردد بين تحريم الظهار الذي ترفعه الكفارة الكبرى ، وبين تحريم الطلقة الواحدة بانقضاء عدتها الذي تباح معه الزوجة بعقد جديد ، وبين تحريم الطلاق الثلاث الذي لا تباح معه الزوجة بدون زوج وإصابة وبين تحريم الرجل عليه ما أحله الله له من الطعام والشراب الذي لا يحرمه ، وإنما يوجب الكفارة الصغرى ، أو لا يوجب شيئا على الاختلاف في ذلك ، فمن هاهنا كثر الاختلاف في هذه المسألة من زمن الصحابة فمن بعدهم . وبكل حال ، فالأمور المشتبهة التي لا تتبين أنها حلال ولا حرام لكثير من [ ص: 203 ] الناس ، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، قد يتبين لبعض الناس أنها حلال أو حرام ، لما عنده من ذلك من مزيد علم ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذه المشتبهات من الناس من يعلمها ، وكثير منهم لا يعلمها ، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان : أحدهما : من يتوقف فيها ، لاشتباهها عليه . والثاني : من يعتقدها على غير ما هي عليه ، ودل كلامه على أن غير هؤلاء يعلمها ، ومراده أنه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم ، وهذا من أظهر الأدلة على أن المصيب عند الله في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلف فيها واحد عند الله عز وجل ، وغيره ليس بعالم بها ، بمعنى أنه غير مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر ، وإن كان يعتقد فيها اعتقادا يستند فيه إلى شبهة يظنها دليلا ، ويكون مأجورا على اجتهاده ، ومغفورا له خطؤه لعدم اعتماده . وقوله صلى الله عليه وسلم : فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات ، وقع في الحرام قسم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين ، وهذا إنما هو بالنسبة إلى من هي مشتبهة عليه ، وهو ممن لا يعلمها ، فأما من كان عالما بها ، واتبع ما دله علمه عليها ، فلذلك قسم ثالث ، لم يذكره لظهور حكمه ، فإن هذا القسم أفضل الأقسام الثلاثة ، لأنه علم حكم الله في هذه الأمور المشتبهة على الناس ، واتبع علمه في ذلك . وأما من لم يعلمه حكم الله فيها ، فهم قسمان : أحدهما من يتقي هذه الشبهات ، لاشتباهها عليه ، فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه . ومعنى استبرأ : طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين ، والعرض : هو موضع المدح والذم من الإنسان ، وما يحصل له بذكره بالجميل مدح ، وبذكره بالقبيح قدح ، وقد يكون ذلك تارة في نفس الإنسان ، وتارة في سلفه ، أو في [ ص: 204 ] أهله ، فمن اتقى الأمور المشتبهة واجتنبها ، فقد حصن عرضه من القدح والشين الداخل على من لا يجتنبها ، وفي هذا دليل على أن من ارتكب الشبهات ، فقد عرض نفسه للقدح فيه والطعن ، كما قال بعض السلف : من عرض نفسه للتهم ، فلا يلومن من أساء به الظن . وفي رواية للترمذي في هذا الحديث : " فمن تركها استبراء لدينه وعرضه ، فقد سلم " والمعنى : أنه يتركها بهذا القصد - وهو براءة دينه وعرضه عن النقص - لا لغرض آخر فاسد من رياء ونحوه . وفيه دليل على أن طلب البراءة للعرض ممدوح كطلب البراءة للدين ، ولهذا ورد " أن ما وقى به المرء عرضه ، فهو صدقة " . وفي رواية في " الصحيحين " في هذا الحديث : " فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم ، كان لما استبان أترك " يعني : أن من ترك الإثم مع اشتباهه عليه ، وعدم تحققه ، فهو أولى بتركه إذا استبان له أنه إثم ، وهذا إذا كان تركه تحرزا من الإثم ، فأما من يقصد التصنع للناس ، فإنه لا يترك إلا ما يظن أنه ممدوح عندهم تركه . القسم الثاني : من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهة عنده ، فأما من أتى شيئا مما يظنه الناس شبهة ، لعلمه بأنه حلال في نفس الأمر ، فلا حرج عليه من الله في ذلك ، لكن إذا خشي من طعن الناس عليه بذلك ، كان تركها حينئذ استبراء لعرضه ، فيكون حسنا ، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن رآه واقفا مع صفية : " إنها صفية بنت حيي " وخرج أنس إلى الجمعة ، فرأى الناس قد صلوا [ ص: 205 ] ورجعوا فاستحيا ، ودخل موضعا لا يراه الناس فيه ، وقال : " من لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله " وخرجه الطبراني مرفوعا ، ولا يصح . وإن أتى ذلك لاعتقاده أنه حلال ، إما باجتهاد سائغ ، أو تقليد سائغ ، وكان مخطئا في اعتقاده ، فحكمه حكم الذي قبله ، فإن كان الاجتهاد ضعيفا ، أو التقليد غير سائغ ، وإنما حمل عليه مجرد اتباع الهوى ، فحكمه حكم من أتاه مع اشتباهه عليه ، والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه ، قد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع في الحرام ، فهذا يفسر بمعنيين : أحدهما : أن يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنها شبهة ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدريج والتسامح . وفي رواية في " الصحيحين " لهذا الحديث : ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم ، أوشك أن يواقع ما استبان . وفي رواية : " ومن يخالط الريبة ، يوشك أن يجسر " أي : يقرب أن يقدم على الحرام المحض ، والجسور : المقدام الذي لا يهاب شيئا ، ولا يراقب أحدا ، ورواه بعضهم : " يجشر " بالشين المعجمة ، أي : يرتع ، والجشر : الرعي ، وجشرت الدابة : إذا رعيتها . وفي مراسيل أبي المتوكل الناجي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من يرعى بجنبات الحرام ، يوشك أن يخالطه ، ومن تهاون بالمحقرات ، يوشك أن يخالط الكبائر " . والمعنى الثاني : أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده ، لا يدري : أهو حلال أو حرام ، فإنه لا يأمن أن يكون حراما في نفس الأمر ، فيصادف الحرام وهو لا [ ص: 206 ] يدري أنه حرام وقد روي من حديث ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات ، فمن اتقاها ، كان أنزه لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع في الحرام ، كالمرتع حول الحمى ، يوشك أن يواقع الحمى وهو لا يشعر خرجه الطبراني وغيره . واختلف العلماء : هل يطيع والديه في الدخول في شيء من الشبهة أم لا يطيعهما ؟ فروي عن بشر بن الحارث ، قال : لا طاعة لهما في الشبهة ، وعن محمد بن مقاتل العباداني قال : يطيعهما ، وتوقف أحمد في هذه المسألة ، وقال : يداريهما ، وأبى أن يجيب فيها . وقال أحمد : لا يشبع الرجل من الشبهة ، ولا يشتري الثوب للتجمل من الشبهة ، وتوقف في حد ما يؤكل وما يلبس منها ، وقال في التمرة يلقيها الطير : لا يأكلها ، ولا يأخذها ، ولا يتعرض لها . وقال الثوري في الرجل يجد في بيته الأفلس أو الدراهم : أحب إلي أن يتنزه عنها ، يعني : إذا لم يدر من أين هي . وكان بعض السلف لا يأكل إلا شيئا يعلم من أين هو ، ويسأل عنه حتى يقف على أصله وقد روي في ذلك حديث مرفوع ، إلا أن فيه ضعفا [ ص: 207 ] وقوله صلى الله عليه وسلم كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه : هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لمن وقع في الشبهات ، وأنه يقرب وقوعه في الحرام المحض ، وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سأضرب لكم مثلا ثم ذكر هذا الكلام ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مثل المحرمات كالحمى الذي يحميه الملوك ، ويمنعون غيرهم من قربانه ، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حول مدينته اثني عشر ميلا حمى محرما لا يقطع شجره ولا يصاد صيده ، وحمى عمر وعثمان أماكن ينبت فيها الكلأ لأجل إبل الصدقة [ ص: 208 ] والله عز وجل حمى هذه المحرمات ، ومنع عباده من قربانها وسماها حدوده ، فقال : تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ( البقرة : 187 ) ، وهذا فيه بيان أنه حد لهم ما أحل لهم وما حرم عليهم ، فلا يقربوا الحرام ، ولا يعتدوا الحلال ، وكذلك قال في آية أخرى : تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ( البقرة : 229 ) ، وجعل من يرعى حول الحمى وقريبا منه جديرا بأن يدخل الحمى ويرتع فيه ، فلذلك من تعدى الحلال ، ووقع في الشبهات ، فإنه قد قارب الحرام غاية المقاربة ، فما أخلقه بأن يخالط الحرام المحض ، ويقع فيه ، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي التباعد عن المحرمات ، وأن يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزا . وقد خرج الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن يزيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس [ ص: 209 ] وقال أبو الدرداء : تمام التقوى أن يتقي الله العبد ، حتى يتقيه من مثقال ذرة ، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال ، خشية أن يكون حراما ، حجابا بينه وبين الحرام . وقال الحسن : مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام . وقال الثوري : إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا مالا يتقى وروي عن ابن عمر قال : إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها . وقال ميمون بن مهران : لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال . وقال سفيان بن عيينة : لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال ، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه . ويستدل بهذا الحديث من يذهب إلى سد الذرائع إلى المحرمات وتحريم الوسائل إليها ، ويدل على ذلك أيضا من قواعد الشريعة تحريم قليل ما يسكر كثيره ، وتحريم الخلوة بالأجنبية ، وتحريم الصلاة بعد الصبح وبعد العصر سدا لذريعة الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ، ومنع الصائم من المباشرة إذا كانت تحرك شهوته ، ومنع كثير من العلماء مباشرة الحائض فيما بين سرتها وركبتها إلا من وراء حائل ، كما كان صلى الله عليه وسلم يأمر امرأته إذا كانت حائضا أن تتزر ، فيباشرها من فوق الإزار . [ ص: 210 ] ومن أمثلة ذلك وهو شبيه بالمثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم : من سيب دابته ترعى بقرب زرع غيره ، فإنه ضامن لما أفسدته من الزرع ، ولو كان ذلك نهارا ، وهذا هو الصحيح ، لأنه مفرط بإرسالها في هذه الحال . وكذا الخلاف لو أرسل كلب الصيد قريبا من الحرم ، فدخل فصاد فيه ، ففي ضمانه روايتان عن أحمد ، وقيل يضمنه بكل حال . وقوله صلى الله عليه وسلم : ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه ، واجتنابه المحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه . فإذا كان قلبه سليما ، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله ، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه ، صلحت حركات الجوارح كلها ، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها ، وتوق للشبهات حذرا من الوقوع في المحرمات . وإن كان القلب فاسدا ، قد استولى عليه اتباع هواه ، وطلب ما يحبه ، ولو كرهه الله ، فسدت حركات الجوارح كلها ، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب . ولهذا يقال : القلب ملك الأعضاء ، وبقية الأعضاء جنوده ، وهم مع هذا جنود طائعون له ، منبعثون في طاعته ، وتنفيذ أوامره ، لا يخالفونه في شيء من ذلك ، فإن كان الملك صالحا كانت هذه الجنود صالحة ، وإن كان فاسدا كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة ، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم ، كما قال تعالى : يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ( الشعراء : 88 - 89 ) ، [ ص: 211 ] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : " أسألك قلبا سليما " ، فالقلب السليم : هو السالم من الآفات والمكروهات كلها ، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وما يحبه الله ، وخشية الله ، وخشية ما يباعد منه . وفي " مسند " الإمام أحمد عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه . والمراد باستقامة إيمانه : استقامة أعمال جوارحه ، فإن أعمال جوارحه لا تستقيم إلا باستقامة القلب ، ومعنى استقامة القلب أن يكون ممتلئا من محبة الله ، ومحبة طاعته ، وكراهة معصيته . وقال الحسن لرجل : داو قلبك ؛ فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم : يعني أن مراده منهم ومطلوبه صلاح قلوبهم ، فلا صلاح للقلوب حتى يستقر فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه ، وتمتلئ من ذلك ، وهذا هو حقيقة التوحيد ، وهو معنى قول " لا إله إلا الله " فلا صلاح للقلوب حتى يكون إلهها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو الله وحده لا شريك له ، ولو كان في السماوات والأرض إله يؤله سوى الله ، لفسدت بذلك السماوات والأرض كما قال تعالى :لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( الأنبياء : 22 ) . [ ص: 212 ] فعلم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معا حتى تكون حركات أهلها كلها لله ، وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته ، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده ، فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله ، وإن كانت حركة القلب وإراداته لغير الله تعالى ، فسد ، وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب . وروى الليث ، عن مجاهد في قوله تعالى ألا تشركوا به شيئا ( الأنعام : 151 ) قال : لا تحبوا غيري . وفي " صحيح الحاكم " عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء ، وأدناه أن تحب على شيء من الجور ، وأن تبغض على شيء من العدل ، وهل الدين إلا الحب والبغض ؟ قال الله عز وجل : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ( آل عمران : 31 ) فهذا يدل على أن محبة ما يكرهه الله ، وبغض ما يحبه متابعة للهوى ، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي ، ويدل على ذلك قوله : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فجعل الله علامة الصدق في محبته اتباع رسوله ، فدل على أن المحبة لا تتم بدون الطاعة والموافقة . قال الحسن : قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، إنا نحب ربنا حبا شديدا فأحب الله أن يجعل لحبه علما ، فأنزل الله هذه الآية : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ومن هنا قال الحسن : اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته . [ ص: 213 ] وسئل ذو النون : متى أحب ربي ؟ قال : إذا كان ما يبغضه عندك أمر من الصبر . وقال بشر بن السري : ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك . قال أبو يعقوب النهرجوري : كل من ادعى محبة الله عز وجل ، ولم يوافق الله في أمره ، فدعواه باطل . وقال رويم : المحبة الموافقة في كل الأحوال ، وقال يحيى بن معاذ : ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده ، وعن بعض السلف قال : قرأت في بعض الكتب السالفة : من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من رضاه ، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه . وفي " السنن " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أعطى لله ، ومنع لله ، وأحب لله ، وأبغض لله ، فقد استكمل الإيمان ومعنى هذا أن كل حركات القلب والجوارح إذا كانت كلها لله فقد كمل إيمان العبد بذلك ظاهرا وباطنا ، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح ، فإذا كان القلب صالحا ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله ، فسارعت إلى ما فيه رضاه ، وكفت عما يكرهه ، وعما يخشى أن يكون مما يكرهه وإن لم يتيقن ذلك . قال الحسن : ما ضربت ببصري ، ولا نطقت بلساني ، ولا بطشت بيدي ، ولا نهضت على قدمي حتى أنظر على طاعة أو على معصية ؟ فإن كانت طاعته تقدمت ، وإن كانت معصية تأخرت . [ ص: 214 ] وقال محمد بن الفضل البلخي : ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله عز وجل . وقيل لداود الطائي : لو تنحيت من الظل إلى الشمس ، فقال : هذه خطى لا أدري كيف تكتب . فهؤلاء القوم لما صلحت قلوبهم ، فلم يبق فيها إرادة لغير الله عز وجل ، صلحت جوارحهم ، فلم تتحرك إلا لله عز وجل ، وبما فيه رضاه ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية