صفحة جزء
[ ص: 238 ] الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما نهيتكم عنه ، فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم . رواه البخاري ومسلم .
هذا الحديث بهذا اللفظ خرجه مسلم وحده من رواية الزهري ، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة ، كلاهما عن أبي هريرة ، وخرجاه من رواية أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : دعوني ما تركتكم ، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء ، فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر ، فأتوا منه ما استطعتم وخرجه مسلم من طريقين آخرين عن أبي هريرة بمعناه . وفي رواية له ذكر سبب هذا الحديث من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت : نعم ، لوجبت ، ولما استطعتم ثم قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم [ ص: 239 ] بشيء ، فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء ، فدعوه . وخرجه الدارقطني من وجه آخر مختصرا ، وقال فيه : فنزل قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ( المائدة : 101 ) . وقد روي من غير وجه أن هذه الآية نزلت لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج ، وقالوا : أفي كل عام ؟ . وفي " الصحيحين " عن أنس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رجل : من أبي ؟ فقال : " فلان " فنزلت هذه الآية لا تسألوا عن أشياء . وفيهما أيضا عن قتادة ، عن أنس قال : سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة ، فغضب ، فصعد المنبر ، فقال : لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته ، فقام رجل كان إذا لاحى الرجال دعي إلى غير أبيه ، فقال : يا رسول الله ، من أبي ؟ قال : " أبوك حذافة " ثم أنشأ عمر ، فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ، نعوذ بالله من الفتن . وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء . وفي " صحيح البخاري " عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي ؟ [ ص: 240 ] فأنزل الله هذه الآية ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء . وخرج ابن جرير الطبري في " تفسيره " من حديث أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارا وجهه ، حتى جلس على المنبر ، فقام إليه رجل ، فقال : أين أنا ؟ فقال " في النار " فقام إليه آخر فقال : من أبي ؟ قال : " أبوك حذافة " فقام عمر فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، وبالقرآن إماما ، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك ، والله أعلم من آباؤنا ، قال : فسكن غضبه ، ونزلت هذه الآية : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . وروي أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس ، فقال : يا قوم كتب عليكم الحج فقام رجل ، فقال يا رسول الله ، أفي كل عام ؟ فأغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا ، فقال : والذي نفسي بيده ، لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، وإذن لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، فإذا أمرتكم بشيء ، فافعلوا ، وإذا نهيتكم عن شيء ، فانتهوا عنه ، فأنزل الله : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ، نهاهم أن يسألوا مثل الذي سألت النصارى في المائدة ، فأصبحوا بها كافرين ، فنهى الله تعالى عن ذلك ، وقال لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ، ولكن انتظروا ، فإذا نزل القرآن ، فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه . فدلت هذه الأحاديث على النهي عن السؤال عما لا يحتاج إليه ما يسوء [ ص: 241 ] السائل جوابه مثل سؤال السائل ؛ هل هو في النار أو في الجنة ، وهل أبوه ما ينسب إليه أو غيره ، وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث والاستهزاء ، كما كان يفعله كثير من المنافقين وغيرهم . وقريب من ذلك سؤال الآيات واقتراحها على وجه التعنت ، كما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب ، وقال عكرمة وغيره : إن الآية نزلت في ذلك . ويقرب من ذلك السؤال عما أخفاه الله عن عباده ، ولم يطلعهم عليه ، كالسؤال عن وقت الساعة ، وعن الروح . ودلت أيضا على نهي المسلمين عن السؤال عن كثير من الحلال والحرام مما يخشى أن يكون السؤال سببا لنزول التشديد فيه ، كالسؤال عن الحج : هل يجب كل عام أم لا ؟ وفي " الصحيح " عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم ، فحرم من أجل مسألته . ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللعان كره المسائل وعابها حتى ابتلي السائل عنه قبل وقوعه بذلك في أهله ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال . ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرخص في المسائل إلا للأعراب ونحوهم من الوفود القادمين عليه ، يتألفهم بذلك ، فأما المهاجرون والأنصار المقيمون بالمدينة [ ص: 242 ] الذين رسخ الإيمان في قلوبهم ، فنهوا عن المسألة ، كما في " صحيح مسلم " عن النواس بن سمعان ، قال : أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة ، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم . وفيه أيضا عن أنس ، قال : نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل ، فيسأله ونحن نسمع . وفي " المسند " عن أبي أمامة قال : كان الله قد أنزل : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قال : فكنا قد كرهنا كثيرا من مسألته واتقينا ذلك حين أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قال : فأتينا أعرابيا ، فرشوناه بردا ، ثم قلنا له : سل النبي صلى الله عليه وسلم وذكر حديثا . وفي " مسند أبي يعلى " عن البراء بن عازب ، قال : إن كان لتأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فأتهيب منه ، وإن كنا لنتمنى الأعراب . وفي " مسند البزار " ، عن ابن عباس قال : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب [ ص: 243 ] محمد صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة ، كلها في القرآن : يسألونك عن الخمر والميسر ( البقرة : 219 ) ، يسألونك عن الشهر الحرام ( البقرة : 22 ) يسألونك عن اليتامى ( البقرة : 22 ) ، وذكر الحديث . وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يسألونه عن حكم حوادث قبل وقوعها ، لكن للعمل بها عند وقوعها ، كما قالوا له : إنا لاقوا العدو غدا ، وليس معنا مدى ، أفنذبح بالقصب ؟ وسألوه عن الأمراء الذين أخبر عنهم بعده ، وعن طاعتهم وقتالهم ، وسأله حذيفة عن الفتن ، وما يصنع فيها . فبهذا الحديث ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم يدل على كراهة المسائل وذمها ، ولكن بعض الناس يزعم أن ذلك كان مختصا بزمن النبي صلى الله عليه وسلم لما يخشى حينئذ من تحريم ما لم يحرم ، أو إيجاب ما يشق القيام به ، وهذا قد أمن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم . ولكن ليس هذا وحده هو سبب كراهة المسائل ، بل له سبب آخر ، وهو الذي أشار إليه ابن عباس في كلامه الذي ذكرنا بقوله : ولكن انتظروا ، فإذا نزل القرآن ، فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه . ومعنى هذا : أن جميع ما يحتاج إليه المسلمون في دينهم لابد أن يبينه الله في كتابه العزيز ، ويبلغ ذلك رسوله عنه ، فلا حاجة بعد هذا لأحد في السؤال ، فإن الله تعالى أعلم بمصالح عباده منهم ، فما كان فيه هدايتهم ونفعهم ، فإن الله تعالى لابد أن يبينه لهم ابتداء من غير سؤال ، كما قال : يبين الله لكم أن تضلوا ( النساء : 176 ) . وحينئذ ، فلا حاجة إلى السؤال عن شيء ، ولا سيما قبل وقوعه والحاجة إليه ، وإنما الحاجة [ ص: 244 ] المهمة إلى فهم ما أخبر الله به ورسوله ، ثم اتباع ذلك والعمل به ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن المسائل ؛ فيحيل على القرآن ، كما سأله عمر عن الكلالة ، " فقال يكفيك آية الصيف " . وأشار صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى أن في الاشتغال بامتثال أمره ، واجتناب نهيه شغلا عن المسائل ، فقال : إذا نهيتكم عن شيء ، فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر ، فأتوا منه ما استطعتم ، فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم يجتهد في فهم ذلك ، والوقوف على معانيه ، ثم يشتغل بالتصديق بذلك إن كان من الأمور العلمية ، وإن كان من الأمور العملية ، بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر ، واجتناب ما ينهى عنه ، وتكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك ؛ لا إلى غيره . وهكذا كان حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان في طلب العلم النافع من الكتاب والسنة . فأما إن كانت همة السامع مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع ، وقد لا تقع ، فإن هذا مما يدخل في النهي ، ويثبط عن الجد في متابعة الأمر . وقد سأل رجل ابن عمر عن استلام الحجر ، فقال له : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله ، فقال له الرجل : أرأيت إن غلبت عليه ؟ أرأيت إن زوحمت ؟ فقال له ابن عمر : اجعل " أرأيت " باليمن ، رأيت رسول الله يستلمه ويقبله خرجه الترمذي ومراد ابن عمر أن لا يكون لك هم إلا في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا حاجة إلا فرض العجز عن ذلك أو تعسره قبل وقوعه ؛ فإنه قد يفتر العزم على التصميم عن المتابعة ، فإن التفقه في الدين ، والسؤال عن العلم إنما يحمد إذا كان للعمل ، لا للمراء والجدال . [ ص: 245 ] وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه ذكر فتنا تكون في آخر الزمان ، فقال له عمر : متى ذلك يا علي ؟ قال : إذا تفقه لغير الدين ، وتعلم لغير العمل ، والتمست الدنيا بغير الآخرة . وعن ابن مسعود أنه قال : كيف بكم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، وتتخذ سنة ، فإن غيرت يوما قيل : هذا منكر ؟ قالوا : ومتى ذلك ؟ قال : إذا قلت أمناؤكم ، وكثرت أمراؤكم ، وقلت فقهاؤكم ، وكثرت قراؤكم ، وتفقه لغير الدين ، والتمست الدنيا بعمل الآخرة . خرجهما عبد الرازق في كتابه . ولهذا المعنى كان كثير من الصحابة والتابعين يكرهون السؤال عن الحوادث قبل وقوعها ، ولا يجيبون عن ذلك ، قال عمرو بن مرة : خرج عمر على الناس ، فقال : أحرج عليكم أن تسألونا عن ما لم يكن ، فإن لنا فيما كان شغلا . وعن ابن عمر ، قال : لا تسألوا عما لم يكن ، فإني سمعت عمر لعن السائل عما لم يكن . وكان زيد بن ثابت إذا سئل ، عن الشيء يقول : كان هذا ؟ فإن قالوا : لا ، قال : دعوه حتى يكون . [ ص: 246 ] وقال مسروق : سألت أبي بن كعب عن شيء ، فقال : أكان بعد ؟ فقلت : لا ، فقال أجمنا - يعني : أرحنا حتى يكون - ، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا . وقال الشعبي : سئل عمار عن مسألة فقال : هل كان هذا بعد ؟ قالوا : لا ، قال : فدعونا حتى يكون ، فإذا كان تجشمناه لكم . وعن الصلت بن راشد ، قال سألت طاوسا عن شيء ، فانتهرني فقال : أكان هذا ؟ قلت : نعم ، قال : آلله ؟ قلت : آلله . قال : إن أصحابنا أخبرونا ، عن معاذ بن جبل أنه قال : أيها الناس ، لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله ، فيذهب بكم هاهنا وهاهنا ، فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله ، لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد ، أو قال وفق . وقد خرجه أبو داود في كتاب " المراسيل " مرفوعا من طريق ابن عجلان ، عن طاوس ، عن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها ، فإنكم إن لم تفعلوا لم ينفك المسلمون منهم من إذا قال سدد أو وفق ، وأنكم إن عجلتم ، تشتت بكم السبل هاهنا وهاهنا " ومعنى إرساله أن طاوسا لم يسمع من معاذ . وخرجه أيضا من رواية يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن النبي مرسلا . [ ص: 247 ] وروى الحجاج بن منهال حدثنا جرير بن حازم أنه قال : سمعت الزبير بن سعيد رجلا من بني هاشم ، قال : سمعت أشياخنا يحدثون : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال في أمتي من إذا سئل سدد وأرشد حتى يتساءلوا ، عن ما لم ينزل تبيينه ، فإذا فعلوا ذلك ، ذهب بهم هاهنا وهاهنا " . وقد روي عن الصنابحي عن معاوية ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأغلوطات . خرجه الإمام أحمد . رحمه الله وفسرها الأوزاعي ، وقال : هي شداد المسائل . وقال عيسى بن يونس : هي ما لا يحتاج إليه من كيف وكيف . ويروى من حديث ثوبان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سيكون أقوام من أمتي يغلطون فقهاءهم بعضل المسائل ، أولئك شرار أمتي . وقال الحسن : شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل يعمون بها عباد الله . وقال الأوزاعي : إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ، ألقى على لسانه المغاليط ، فلقد رأيتهم أقل الناس علما . وقال ابن وهب ، عن مالك : أدركت هذه البلدة ، وإنهم ليكرهون الإكثار الذي فيه الناس اليوم . يريد المسائل . وقال أيضا : سمعت مالكا وهو يعيب كثرة الكلام وكثرة الفتيا ، ثم قال : يتكلم كأنه جمل مغتلم يقول : هو كذا ، هو كذا يهدر في كلامه . [ ص: 248 ] وقال : سمعت مالكا يكره الجواب في كثرة المسائل ، وقال : قال الله عز وجل : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ( الإسراء : 85 ) فلم يأته في ذلك جواب . وكان مالك يكره المجادلة عن السنن أيضا قال الهيثم بن جميل : قلت لمالك : يا أبا عبد الله ، الرجل يكون عالما بالسنن يجادل عنها ؟ قال : لا ، ولكن يخبر بالسنة ، فإن قبل منه وإلا سكت . قال إسحاق بن عيسى : كان مالك يقول : المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل . وقال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : المراء في العلم يقسي القلب ، ويؤثر الضغن . وكان أبو شريح الإسكندراني يوما في مجلسه ، فكثرت المسائل ، فقال : قد درنت قلوبكم منذ اليوم ، فقوموا إلى أبي حميد خالد بن حميد اصقلوا قلوبكم ، وتعلموا هذه الرغائب ، فإنها تجدد العبادة ، وتورث الزهادة ، وتجر الصداقة ، وأقلوا المسائل إلا ما نزل ، فإنها تقسي القلوب ، وتورث العداوة . وقال الميموني : سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد - يسأل ، عن مسألة ، فقال : وقعت هذه المسألة ؟ بليتم بها بعد ؟ وقد انقسم الناس في هذا الباب أقساما : فمن أتباع أهل الحديث من سد باب المسائل حتى قل فقهه وعلمه بحدود ما أنزل الله على رسوله ، وصار حامل فقه غير فقيه . ومن فقهاء أهل الرأي من توسع في توليد المسائل قبل وقوعها ، ما يقع في العادة منها وما لا يقع ، واشتغلوا بتكلف الجواب عن ذلك ، وكثرة الخصومات فيه ، والجدال عليه حتى يتولد من ذلك افتراق القلوب ، ويستقر فيها بسببه الأهواء والشحناء والعداوة والبغضاء ، ويقترن ذلك كثيرا بنية المغالبة ، وطلب [ ص: 249 ] العلو والمباهاة ، وصرف وجوه الناس وهذا مما ذمه العلماء الربانيون ، ودلت السنة على قبحه وتحريمه . وأما فقهاء أهل الحديث العاملون به ، فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله عز وجل ، وما يفسره من السنن الصحيحة ، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة صحيحها وسقيمها ، ثم التفقه فيها وتفهمها ، والوقوف على معانيها ، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث ، ومسائل الحلال والحرام ، وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك ، وهذا هو طريقة الإمام أحمد ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين ، وفي معرفة هذا شغل شاغل عن التشاغل بما أحدث من الرأي ما لا ينتفع به ، ولا يقع ، وإنما يورث التجادل فيه كثرة الخصومات والجدال وكثرة القيل والقال . وكان الإمام أحمد كثيرا إذا سئل عن شيء من المسائل المتولدات التي لا تقع يقول : دعونا من هذه المسائل المحدثة . وما أحسن ما قاله يونس بن سليمان السقطي : نظرت في الأمر ، فإذا هو الحديث والرأي ، فوجدت في الحديث ذكر الرب عز وجل وربوبيته وإجلاله وعظمته ، وذكر العرش وصفة الجنة والنار ، وذكر النبيين والمرسلين ، والحلال والحرام ، والحث على صلة الأرحام ، وجماع الخير فيه ، ونظرت في الرأي ، فإذا فيه المكر ، والغدر ، والحيل ، وقطيعة الأرحام ، وجماع الشر فيه . وقال أحمد بن شبويه : من أراد علم القبر فعليه بالآثار ، ومن أراد علم الخبز فعليه بالرأي . ومن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه ، تمكن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالبا ، لأن أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها ، ولابد [ ص: 250 ] أن يكون سلوك هذا الطريق خلف أئمة أهله المجمع على هدايتهم ودرايتهم كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ومن سلك مسلكهم ، فإن من ادعى سلوك هذا الطريق على غير طريقهم ، وقع في مفاوز ومهالك ، وأخذ بما لا يجوز الأخذ به ، وترك ما يجب العمل به . وملاك الأمر كله أن يقصد بذلك وجه الله ، والتقرب إليه بمعرفة ما أنزل على رسوله ، وسلوك طريقه ، والعمل بذلك ، ودعاء الخلق إليه ، ومن كان كذلك وفقه الله وسدده ، وألهمه رشده ، وعلمه ما لم يكن يعلم ، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب في قوله تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء ( فاطر : 28 ) ، ومن الراسخين في العلم ، وقد خرج ابن أبي حاتم في " تفسيره " من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم ، فقال : من برت يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام قلبه ، ومن عف بطنه وفرجه ، فذلك من الراسخين في العلم . وقال نافع بن يزيد : يقال : الراسخون في العلم : المتواضعون لله ، والمتذللون لله في مرضاته لا يتعاطون من فوقهم ، ولا يحقرون من دونهم . ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : أتاكم أهل اليمن هم ، أبر قلوبا ، وأرق أفئدة ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية . وهذا إشارة منه إلى أبي موسى الأشعري ، ومن كان على طريقه من علماء أهل اليمن ، ثم إلى مثل أبي مسلم [ ص: 251 ] الخولاني وأويس القرني ، وطاوس ، ووهب بن منبه ، وغيرهم من علماء أهل اليمن ، وكل هؤلاء من العلماء الربانيين الخائفين لله ، فكلهم علماء بالله يخشونه ويخافونه ، وبعضهم أوسع علما بأحكام الله وشرائع دينه من بعض ، ولم يكن تميزهم عن الناس بكثرة قيل وقال ، ولا بحث ولا جدال . وكذلك معاذ بن جبل رضي الله عنه أعلم الناس بالحلال والحرام ، وهو الذي يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة ، ولم يكن علمه بتوسعة المسائل وتكثيرها ، بل قد سبق عنه كراهة الكلام فيما لا يقع ، وإنما كان عالما بالله وعالما بأصول دينه وقد قيل للإمام أحمد : من نسأل بعدك ؟ قال عبد الوهاب الوراق ، قيل له : إنه ليس له اتساع في العلم ، قال : إنه رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق . وسئل عن معروف الكرخي ، فقال : كان معه أصل العلم : خشية الله . وهذا يرجع إلى قول بعض السلف : كفى بخشية الله علما ، وكفى بالاغترار بالله جهلا . وهذا باب واسع يطول استقصاؤه . ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه فنقول : من لم يشتغل بكثرة المسائل التي لا توجد مثلها في كتاب ، ولا سنة ، بل اشتغل بفهم كلام الله ورسوله ، وقصده بذلك امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، فهو ممن امتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ، وعمل بمقتضاه ، ومن لم يكن اهتمامه بفهم ما أنزل الله على رسوله ، واشتغل بكثرة توليد المسائل قد تقع وقد لا تقع ، وتكلف أجوبتها بمجرد الرأي ، خشي عليه أن يكون مخالفا لهذا الحديث ، مرتكبا لنهيه ، تاركا لأمره . [ ص: 252 ] واعلم أن كثرة وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة وإنما هو من ترك الاشتغال بامتثال أوامر الله ورسوله ، واجتناب نواهي الله ورسوله ، فلو أن من أراد أن يعمل عملا سأل عما شرع الله في ذلك العمل فامتثله ، وعما نهى عنه فيه فاجتنبه ، وقعت الحوادث مقيدة بالكتاب والسنة وإنما يعمل العامل بمقتضى رأيه وهواه ، فتقع الحوادث عامتها مخالفة لما شرعه الله وربما عسر ردها إلى الأحكام المذكورة في الكتاب والسنة لبعدها عنها . وفي الجملة فمن امتثل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ، وانتهى عما نهى عنه ، وكان مشتغلا بذلك عن غيره ، حصل له النجاة في الدنيا والآخرة ، ومن خالف ذلك ، واشتغل بخواطره وما يستحسنه ، وقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ، وعدم انقيادهم وطاعتهم لرسلهم . وقوله صلى الله عليه وسلم " إذا نهيتكم عن شيء ، فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر ، فأتوا منه ما استطعتم " قال بعض العلماء : هذا يؤخذ منه أن النهي أشد من الأمر ، لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه ، والأمر قيد بحسب الاستطاعة ، وروي هذا عن الإمام أحمد . ويشبه هذا قول بعضهم : أعمال البر يعملها البر والفاجر ، وأما المعاصي ، فلا يتركها إلا صديق . وروي عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : اتق المحارم ، تكن أعبد [ ص: 253 ] الناس وقالت عائشة رضي الله عنها : من سره أن يسبق الدائب المجتهد فليكف عن الذنوب ، وروي مرفوعا . وقال الحسن : ما عبد العابدون بشيء أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه . والظاهر أن ما ورد من تفضيل ترك المحرمات على فعل الطاعات ، إنما أريد به على نوافل الطاعات ، وإلا فجنس الأعمال الواجبات أفضل من جنس ترك المحرمات ، لأن الأعمال مقصودة لذاتها ، والمحارم المطلوب عدمها ، ولذلك لا تحتاج إلى نية بخلاف الأعمال ، ولذلك كان جنس ترك الأعمال قد تكون كفرا كترك التوحيد ، وكترك أركان الإسلام أو بعضها على ما سبق ، بخلاف ارتكاب المنهيات فإنه لا يقتضي الكفر بنفسه ، ويشهد لذلك قول ابن عمر : لرد دانق من حرام أفضل من مائة ألف تنفق في سبيل الله . وعن بعض السلف قال : ترك دانق مما يكرهه الله أحب إلي من خمسمائة حجة . وقال ميمون بن مهران : ذكر الله باللسان حسن وأفضل منه أن يذكر الله العبد [ ص: 254 ] عند المعصية فيمسك عنها . وقال ابن المبارك : لأن أرد درهما من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف ومائة ألف ، حتى بلغ ستمائة ألف . وقال عمر بن عبد العزيز : ليست التقوى قيام الليل ، وصيام النهار ، والتخليط فيما بين ذلك ، ولكن التقوى أداء ما افترض الله ، وترك ما حرم الله ، فإن كان مع ذلك عمل ، فهو خير إلى خير ، أو كما قال . وقال أيضا : وددت أني لا أصلي غير الصلوات الخمس سوى الوتر ، وأن أؤدي الزكاة ، ولا أتصدق بعدها بدرهم ، وأن أصوم رمضان ولا أصوم بعده يوما أبدا ، وأن أحج حجة الإسلام ثم لا أحج بعدها أبدا ، ثم أعمد إلى فضل قوتي ، فأجعله فيما حرم الله علي ، فأمسك عنه . وحاصل كلامهم يدل على اجتناب المحرمات - وإن قلت - أفضل من الإكثار من نوافل الطاعات فإن ذلك فرض ، وهذا نفل . وقالت طائفة من المتأخرين : إنما قال صلى الله عليه وسلم : إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر ، فأتوا منه ما استطعتم ، لأن امتثال الأمر لا يحصل إلا بعمل ، والعمل يتوقف وجوده على شروط وأسباب ، وبعضها قد لا يستطاع ، فلذلك قيده بالاستطاعة ، كما قيد الله الأمر بالتقوى بالاستطاعة ، قال تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم ( التغابن : 16 ) وقال في الحج : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ( آل عمران : 97 ) . وأما النهي : فالمطلوب عدمه ، وذلك هو الأصل ، فالمقصود استمرار العدم الأصلي ، وذلك ممكن ، وليس فيه ما لا يستطاع ، وهذا فيه أيضا نظر ، فإن الداعي إلى فعل المعاصي قد يكون قويا ، لا صبر معه للعبد على الامتناع مع فعل المعصية مع القدرة عليها ، فيحتاج الكف عنها حينئذ إلى مجاهدة شديدة ، [ ص: 255 ] ربما كانت أشق على النفوس من مجرد مجاهدة النفس على فعل الطاعة ، ولهذا يوجد كثيرا من يجتهد فيفعل الطاعات ، ولا يقوى على ترك المحرمات . وقد سئل عمر عن قوم يشتهون المعصية ولا يعملون بها ، فقال : أولئك قوم امتحن الله قلوبهم للتقوى ، لهم مغفرة وأجر عظيم . وقال يزيد بن ميسرة : يقول الله في بعض الكتب : أيها الشاب التارك شهوته ، المتبذل في شبابه لأجلي ، أنت عندي كبعض ملائكتي . وقال : ما أشد الشهوة في الجسد ، إنها مثل حريق النار ، وكيف ينجو منها الحصوريون ؟ . والتحقيق في هذا أن الله لا يكلف العباد من الأعمال ما لا طاقة لهم به ، وقد أسقط عنهم كثيرا من الأعمال بمجرد المشقة رخصة عليهم ، ورحمة لهم ، وأما المناهي ، فلم يعذر أحد بارتكابها بقوة الداعي والشهوات ، بل كلفهم تركها على كل حال ، وأن ما أباح أن يتناول من المطاعم المحرمة عند الضرورة ما تبقى معه الحياة ، لا لأجل التلذذ والشهوة ، ومن هنا يعلم صحة ما قاله الإمام أحمد : إن النهي أشد من الأمر . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ثوبان وغيره أنه قال : استقيموا ولن تحصوا يعني : لن تقدروا على الاستقامة كلها . [ ص: 256 ] وروى الحكم بن حزن الكلفي ، قال : وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه الجمعة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا أو قوس ، فحمد الله ، وأثنى عليه بكلمات خفيفات طيبات مباركات ، ثم قال : " أيها الناس إنكم لن تطيقوا ، ولن تفعلوا كل ما أمرتكم به ، ولكن سددوا وأبشروا " أخرجه الإمام أحمد وأبو داود . وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " دليل على أن من عجز عن فعل المأمور به كله ، وقدر على بعضه ، فإنه يأتي بما أمكنه منه ، وهذا مطرد في مسائل : منها الطهارة ، فإذا قدر على بعضها ، وعجز عن الباقي : إما لعدم الماء ، أو لمرض في بعض أعضائه دون بعض ، فإنه يأتي من ذلك بما قدر عليه ، ويتيمم للباقي ، وسواء في ذلك الوضوء والغسل على المشهور . ومنها الصلاة ، فمن عجز عن فعل الفريضة قائما صلى قاعدا ، فإن عجز صلى مضطجعا ، وفي " صحيح البخاري " عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب . ولو عجز عن ذلك كله ، أومأ بطرفه ، وصلى بنيته ، ولم تسقط عنه الصلاة على المشهور . ومنها زكاة الفطر ، فإذا قدر على إخراج بعض صاع ، لزمه ذلك على [ ص: 257 ] الصحيح ، فأما من قدر على صيام بعض النهار دون تكملته ، فلا يلزمه ذلك بغير خلاف ، لأن صيام بعض اليوم ليس بقربة في نفسه ، وكذا لو قدر على عتق بعض رقبة في الكفارة لم يلزمه ، لأن تبعيض العتق غير محبوب للشارع بل يؤمر بتكميله بكل طريق . وأما من فاته الوقوف بعرفة في الحج ، فهل يأتي بما بقي منه من المبيت بمزدلفة ، ورمي الجمار أم لا ؟ بل يقتصر على الطواف والسعي ، ويتحلل بعمرة على روايتين ، عن أحمد أشهرهما : أنه يقتصر على الطواف والسعي ، لأن المبيت والرمي من لواحق الوقوف بعرفة وتوابعه ، وإنما أمر الله تعالى بذكره عند المشعر الحرام ، وبذكره في الأيام المعدودات لمن أفاض من عرفات ، فلا يؤمر به من لا يقف بعرفة كما لا يؤمر به المعتمر .

التالي السابق


الخدمات العلمية