صفحة جزء
[ ص: 278 ] الحديث الحادي عشر

عن الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته رضي الله عنه قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك رواه النسائي والترمذي ، وقال : حسن صحيح .


هذا الحديث خرجه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان في " صحيحه " والحاكم من حديث بريد بن أبي مريم ، عن أبي الحوراء السعدي عن الحسن بن علي ، وصححه الترمذي ، وأبو الحوراء السعدي ، قال الأكثرون : اسمه ربيعة بن شيبان ، ووثقه النسائي وابن حبان ، وتوقف أحمد في أن أبا الحوراء اسمه ربيعة بن شيبان ، ومال إلى التفرقة بينهما ، وقال الجوزجاني : أبو الحوراء مجهول لا يعرف .

وهذا الحديث قطعة من حديث طويل فيه ذكر قنوت الوتر ، وعند الترمذي [ ص: 279 ] وغيره زيادة في هذا الحديث وهي " فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة " ولفظ ابن حبان : " فإن الخير طمأنينة ، وإن الشر ريبة " .

وقد خرجه الإمام أحمد بإسناد فيه جهالة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وخرجه من وجه آخر أجود منه موقوفا على أنس .

وخرجه الطبراني من رواية مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا ، قال الدارقطني : وإنما يروى هذا من قول ابن عمر ، وعن عمر ، ويروى عن مالك من قوله . انتهى .

ويروى بإسناد ضعيف ، عن عثمان بن عطاء الخراساني - وهو ضعيف - ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " قال : وكيف لي بالعلم بذلك ؟ قال : " إذا أردت أمرا ، فضع يدك على صدرك ، فإن القلب يضطرب للحرام ، ويسكن للحلال ، وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة " . وقد روي عن عطاء الخراساني مرسلا .

وخرج الطبراني نحوه بإسناد ضعيف عن واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فيه : قيل له : فمن الورع ؟ قال : " الذي يقف عند الشبهة " [ ص: 280 ] وقد روي هذا الكلام موقوفا على جماعة من الصحابة : منهم عمر ، وابن عمر ، وأبو الدرداء ، وعن ابن مسعود ، قال : ما تريد إلى ما يريبك وحولك أربعة آلاف لا تريبك ؟ ! وقال عمر : دعوا الربا والريبة ، يعني : ما ارتبتم فيه ، وإن لم تتحققوا أنه ربا .

ومعنى هذا الحديث يرجع إلى الوقوف عند الشبهات واتقائها ، فإن الحلال المحض لا يحصل لمؤمن في قلبه منه ريب - والريب : بمعنى القلق والاضطراب - بل تسكن إليه النفس ، ويطمئن به القلب ، وأما المشتبهات فيحصل بها للقلوب القلق والاضطراب الموجب للشك .

وقال أبو عبد الرحمن العمري الزاهد : إذا كان العبد ورعا ، ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه .

وقال الفضيل : يزعم الناس أن الورع شديد ، وما ورد علي أمران إلا أخذت بأشدهما ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك .

وقال حسان بن أبي سنان : ما شيء أهون من الورع ، إذا رابك شيء ، فدعه . وهذا إنما يسهل على مثل حسان رحمه الله .

قال ابن المبارك : كتب غلام لحسان بن أبي سنان إليه من الأهواز : إن قصب السكر أصابته آفة ، فاشتر السكر فيما قبلك ، فاشتراه من رجل ، فلم يأت عليه إلا قليل فإذا فيما اشتراه ربح ثلاثين ألفا ، قال : فأتى صاحب السكر ، فقال : يا هذا إن غلامي كان قد كتب إلي ، فلم أعلمك ، فأقلني فيما اشتريت منك ، فقال له الآخر : قد أعلمتني الآن ، وقد طيبته لك ، قال : فرجع فلم يحتمل قلبه ، فأتاه ، فقال : يا هذا إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه ، فأحب أن تسترد هذا البيع ، قال : فما زال به حتى رده عليه .

[ ص: 281 ] وكان يونس بن عبيد إذا طلب المتاع ونفق ، وأرسل يشتريه يقول لمن يشتري له : أعلم من تشتري منه أن المتاع قد طلب .

وقال هشام بن حسان : ترك محمد بن سيرين أربعين ألفا فيما لا ترون به اليوم بأسا .

وكان الحجاج بن دينار قد بعث طعاما إلى البصرة مع رجل وأمره أن يبيعه يوم يدخل بسعر يومه ، فأتاه كتابه : إني قدمت البصرة ، فوجدت الطعام مبغضا فحبسته ، فزاد الطعام ، فازددت فيه كذا وكذا ، فكتب إليه الحجاج : إنك قد خنتنا ، وعملت بخلاف ما أمرناك به ، فإذا أتاك كتابي ، فتصدق بجميع ثمن الطعام على فقراء البصرة ، فليتني أسلم إذا فعلت ذلك .

وتنزه يزيد بن زريع عن خمسائة ألف من ميراث أبيه ، فلم يأخذه ، وكان أبوه يلي الأعمال للسلاطين ، وكان يزيد يعمل الخوص ، ويتقوت منه إلى أن مات رحمه الله .

وكان المسور بن مخرمة قد احتكر طعاما كثيرا ، فرأى سحابا في الخريف فكرهه ، فقال : ألا أراني قد كرهت ما ينفع المسلمين ؟ فآلى أن لا يربح فيه شيئا ، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب فقال له عمر : جزاك الله خيرا .

وفي هذا أن المحتكر ينبغي له التنزه عن ربح ما احتكره احتكارا منهيا عنه ، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على التنزه عن ربح ما لم يدخل في ضمانه لدخوله في ربح ما لم يضمن ، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أحمد في رواية [ ص: 282 ] عنه فيمن أجر ما استأجره بربح : إنه يتصدق بالربح ، وقال في رواية عنه في ربح مال المضاربة إذا خالف فيه المضارب : إنه يتصدق به ، وقال في رواية عنه فيما إذا اشترى ثمرة قبل صلاحها بشرط القطع ، ثم تركها حتى بدا صلاحها : إنه يتصدق بالزيادة ، وحمله طائفة من أصحابنا على الاستحباب ، لأن الصدقة بالشبهات مستحب .

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن أكل الصيد للمحرم ، فقالت : إنما هي أيام قلائل فما رابك ، فدعه يعني ما اشتبه عليك : هل هو حلال أو حرام ، فاتركه ، فإن الناس اختلفوا في إباحة أكل الصيد للمحرم إذا لم يصد هو .

وقد يستدل بهذا على أن الخروج من اختلاف العلماء أفضل ، لأنه أبعد عن الشبهة ، ولكن المحققين من العلماء من أصحابنا وغيرهم على أن هذا ليس هو على إطلاقه ، فإن من مسائل الاختلاف ما ثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم رخصة ليس لها معارض ، فاتباع تلك الرخصة أولى من اجتنابها ، وإن لم تكن تلك الرخصة بلغت بعض العلماء ، فامتنع منها لذلك ، وهذا كمن تيقن الطهارة ، وشك في الحدث ، فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ولا سيما إن كان شكه في الصلاة ، فإنه لا يجوز له قطعها لصحة النهي [ ص: 283 ] عنه ، وإن كان بعض العلماء يوجب ذلك .

وإن كان للرخصة معارض ، إما من سنة أخرى ، أو من عمل الأمة بخلافها ، فالأولى ترك العمل بها ، وكذا لو كان قد عمل بها شذوذ من الناس ، واشتهر في الأمة العمل بخلافها في أمصار المسلمين من عهد الصحابة ، فإن الأخذ بما عليه عمل المسلمين هو المتعين ، فإن هذه الأمة قد أجارها الله أن يظهر أهل باطلها على أهل حقها ، فما ظهر العمل به في القرون الثلاثة المفضلة ، فهو الحق ، وما عداه فهو باطل .

وهاهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها ، وتشابهت أعماله في التقوى والورع ، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه ، فإنه لا يحتمل له ذلك ، بل ينكر عليه ، كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق : يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين ، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : هما ريحانتاي من الدنيا .

وسأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها ، فقال : إن كان بر أمه في كل شيء ، ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل ، وإن كان يبرها بطلاق زوجته ، ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه ، فيضربها ، فلا يفعل .

وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري بقلا ، ويشترط الخوصة : يعني التي تربط بها جرزة البقل ، فقال أحمد : أيش هذه المسائل ؟ ! قيل له :

[ ص: 284 ] إنه إبراهيم بن أبي نعيم ، فقال أحمد : إن كان إبراهيم بن أبي نعيم ، فنعم هذا يشبه ذاك .

وإنما أنكر هذه المسائل ممن لا يشبه حاله ، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا ، وقد كان الإمام أحمد نفسه يستعمل في نفسه هذا الورع ، فإنه أمر من يشتري له سمنا ، فجاء به على ورقة فأمر برد الورقة إلى البائع ، وكان الإمام أحمد لا يستمد من محابر أصحابه ، وإنما يخرج معه محبرته يستمد منها ، واستأذنه رجل أن يكتب من محبرته ، فقال له : اكتب فهذا ورع مظلم ، واستأذنه آخر في ذلك فتبسم ، فقال : لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا ، وهذا قاله على وجه التواضع وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع ، وكان ينكره على من لم يصل إلى هذا المقام ، بل يتسامح في المكروهات الظاهرة ، ويقدم على الشبهات من غير توقف .

وقوله صلى الله عليه وسلم " فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة " يعني : أن الخير تطمئن به القلوب ، والشر ترتاب به ، ولا تطمئن إليه ، وفي هذا إشارة إلى الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه ، وسيأتي مزيد لهذا الكلام على حديث النواس بن سمعان إن شاء الله تعالى .

وخرج ابن جرير بإسناده عن قتادة ، عن بشير بن كعب أنه قرأ هذه الآية : [ ص: 285 ] فامشوا في مناكبها ( الملك : 15 ) ثم قال لجاريته : إن دريت ما مناكبها فأنت حرة لوجه الله ، قالت : مناكبها : جبالها ، فكأنما سفع في وجهه ، ورغب في جاريته ، فسألهم ، فمنهم من أمره ، ومنهم من نهاه ، فسأل أبا الدرداء ، فقال : الخير طمأنينة والشر ريبة ، فذر ما يريبك إلى ما لا يريبك .

وقوله في الرواية الأخرى : " إن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة " يشير إلى أنه لا ينبغي الاعتماد على قول كل قائل كما قال في حديث وابصة : " وإن أفتاك الناس وأفتوك " وإنما يعتمد على قول من يقول الصدق ، وعلامة الصدق أنه تطمئن به القلوب ، وعلامة الكذب أنه تحصل به الريبة ، فلا تسكن القلوب إليه ، بل تنفر منه .

ومن هنا كان العقلاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا كلامه وما يدعو إليه ، عرفوا أنه صادق ، وأنه جاء بالحق ، وإذا سمعوا كلام مسيلمة ، عرفوا أنه كاذب ، وأنه جاء بالباطل ، وقد روي أن عمرو بن العاص سمعه قبل إسلامه يدعي أنه أنزل عليه : يا وبر يا وبر ، لك أذنان وصدر ، وإنك لتعلم يا عمرو ، فقال : والله إني لأعلم أنك تكذب .

وقال بعض المتقدمين : صور ما شئت في قلبك ، وتفكر فيه ، ثم قسه إلى ضده ، فإنك إذا ميزت بينهما ، عرفت الحق من الباطل ، والصدق من الكذب ، قال : كأنك تصور محمدا صلى الله عليه وسلم ، ثم تتفكر فيما أتى به من القرآن فتقرأ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس الآية ( البقرة : 164 ) ، ثم تتصور ضد محمد صلى الله عليه وسلم ، فتجده مسيلمة ، فتتفكر فيما جاء به فتقرأ : [ ص: 286 ] ألا يا ربة المخدع 26 قد هيئ لك المضجع يعني قوله لسجاح حين تزوج بها ، قال : فترى هذا - يعني القرآن - رصينا عجيبا ، يلوط بالقلب ، ويحسن في السمع ، وترى ذا - يعني قول مسيلمة - باردا غثا فاحشا ، فتعلم أن محمدا حق أتي بوحي ، وأن مسيلمة كذاب أتي بباطل .

التالي السابق


الخدمات العلمية