صفحة جزء
[ ص: 302 ] الحديث الثالث عشر

عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه . رواه البخاري ومسلم .


هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث قتادة ، عن أنس ، ولفظ مسلم " حتى يحب لجاره أو لأخيه " بالشك .

وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : " لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير " .

وهذه الرواية تبين معنى الرواية المخرجة في " الصحيحين " ، وأن المراد بنفي الإيمان نفي بلوغ حقيقته ونهايته ، فإن الإيمان كثيرا ما ينفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته ، كقوله صلى الله عليه وسلم : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، وقوله : لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه . [ ص: 303 ] وقد اختلف العلماء في مرتكب الكبائر : هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان ، أم لا يسمى مؤمنا ؟ وإنما يقال : هو مسلم ، وليس بمؤمن على قولين ، وهما روايتان عن الإمام أحمد .

فأما من ارتكب الصغائر ، فلا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية ، بل هو مؤمن ناقص الإيمان ، ينقص من إيمانه بحسب ما ارتكب من ذلك .

والقول بأن مرتكب الكبائر يقال له : مؤمن ناقص الإيمان مروي عن جابر بن عبد الله ، وهو قول ابن المبارك وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم ، والقول بأنه مسلم ، ليس بمؤمن مروي عن أبي جعفر محمد بن علي ، وذكر بعضهم أنه المختار عند أهل السنة .

وقال ابن عباس : الزاني ينزع منه نور الإيمان . وقال أبو هريرة : ينزع منه الإيمان ، فيكون فوقه كالظلة ، فإن تاب عاد إليه .

وقال عبد الله بن رواحة وأبو الدرداء : الإيمان كالقميص ، يلبسه الإنسان تارة ، ويخلعه تارة أخرى ، وكذا قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره ، والمعنى : أنه إذا كمل خصال الإيمان ، لبسه ، فإذا نقص منها شيء نزعه ، وكل هذا إشارة إلى الإيمان الكامل التام الذي لا ينقص من واجباته شيء .

والمقصود أن من جملة خصال الإيمان الواجبة أن يحب المرء لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ، ويكره له ما يكره لنفسه ، فإذا زال ذلك عنه ، فقد نقص إيمانه بذلك . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة : أحب للناس ما تحب لنفسك [ ص: 304 ] تكن مسلما خرجه الترمذي وابن ماجه .

وخرج الإمام أحمد من حديث معاذ أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان ، قال : أفضل الإيمان أن تحب لله وتبغض لله ، وتعمل لسانك في ذكر الله ، قال : وماذا يا رسول الله ؟ قال : أن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لنفسك ، وأن تقول خيرا أو تصمت .

وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم دخول الجنة على هذه الخصلة ؛ ففي " مسند " الإمام أحمد رحمه الله عن يزيد بن أسد القسري قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتحب الجنة " ؟ قلت : نعم ، قال : " فأحب لأخيك ما تحب لنفسك " .

وفي " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ، ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه .

وفيه أيضا عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم .

[ ص: 305 ] وإنما نهاه عن ذلك ، لما رأى من ضعفه ، وهو صلى الله عليه وسلم يحب هذا لكل ضعيف ، وإنما كان يتولى أمور الناس ، لأن الله قواه على ذلك ، وأمره بدعاء الخلق كلهم إلى طاعته ، وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم .

وقد روي عن علي قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إني أرضى لك ما أرضى لنفسي ، وأكره لك ما أكره لنفسي ، لا تقرأ القرآن وأنت جنب ، ولا أنت راكع ، ولا أنت ساجد .

وكان محمد بن واسع يبيع حمارا له ، فقال له رجل : أترضاه لي ؟ قال : لو رضيته لم أبعه ، وهذه إشارة منه إلى أنه لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه ، وهذا كله من جملة النصيحة لعامة المسلمين التي هي من جملة الدين كما سبق تفسير ذلك في موضعه . [ ص: 306 ] وقد ذكرنا فيما تقدم حديث النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر خرجاه في " الصحيحين " ، وهذا يدل على أن المؤمن يسوءه ما يسوء أخاه المؤمن ، ويحزنه ما يحزنه .

وحديث أنس الذي نتكلم الآن فيه يدل على أن المؤمن يسره ما يسر أخاه المؤمن ، ويريد لأخيه المؤمن ما يريده لنفسه من الخير ، وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغل والغش والحسد ، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير ، أو يساويه فيه ، لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله ، وينفرد بها عنهم ، والإيمان يقتضي خلاف ذلك ، وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء .

وقد مدح الله تعالى في كتابه من لا يريد العلو في الأرض ولا الفساد ، فقال : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ( القصص : 83 ) . وروى ابن جرير بإسناد فيه نظر عن علي رضي الله عنه قال : إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل في قوله : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين . وكذا روي عن الفضيل بن عياض في هذه الآية ، قال : لا يحب أن يكون نعله أجود من نعل غيره ، ولا شراكه أجود من شراك غيره .

وقد قيل : إن هذا محمول على أنه إذا أراد الفخر على غيره لا مجرد التجمل ، قال عكرمة وغيره من المفسرين في هذه الآية : العلو في الأرض : [ ص: 307 ] التكبر ، وطلب الشرف والمنزلة عند ذي سلطانها ، والفساد : العمل بالمعاصي .

وقد ورد ما يدل على أنه لا يأثم من كره أن يفوقه من الناس أحد في الجمال ، فخرج الإمام أحمد رحمه الله والحاكم في " صحيحه " من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي ، فأدركته وهو يقول : يا رسول الله ، قد قسم لي من الجمال ما ترى ، فما أحب أحدا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما ، أليس ذلك هو البغي ؟ فقال : " لا ، ليس ذلك بالبغي ، ولكن البغي من بطر - أو قال : - سفه الحق وغمص الناس " .

وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه ، وفي حديثه : " الكبر " بدل " البغي " .

فنفى أن يكون كراهته لأن يفوقه أحد في الجمال بغيا أو كبرا ، وفسر الكبر والبغي ببطر الحق ، وهو التكبر عليه ، والامتناع من قبوله كبرا إذا خالف هواه ، ومن هنا قال بعض السلف : التواضع أن تقبل الحق من كل من جاء به ، وإن كان صغيرا ، فمن قبل الحق ممن جاء به ، سواء كان صغيرا أو كبيرا ، وسواء كان يحبه أو لا يحبه ، فهو متواضع ، ومن أبى قبول الحق تعاظما عليه ، فهو متكبر .

وغمص الناس : هو احتقارهم وازدراؤهم ، وذلك يحصل من النظر إلى النفس بعين الكمال ، وإلى غيره بعين النقص .

[ ص: 308 ] وفي الجملة ، فينبغي للمؤمن أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ، ويكره لهم ما يكره لنفسه ، فإن رأى في أخيه المسلم نقصا في دينه ، اجتهد في إصلاحه .

قال بعض الصالحين من السلف : أهل المحبة لله نظروا بنور الله ، وعطفوا على أهل معاصي الله ، مقتوا أعمالهم ، وعطفوا عليهم ليزيلوهم بالمواعظ عن فعالهم ، وأشفقوا على أبدانهم من النار ، ولا يكون المؤمن مؤمنا حقا حتى يرضى للناس ما يرضاه لنفسه ، وإن رأى في غيره فضيلة فاق بها عليه فتمنى لنفسه مثلها ، فإن كانت تلك الفضيلة دينية ، كان حسنا ، وقد تمنى النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه منزلة الشهادة .

وقال صلى الله عليه وسلم : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا ، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله القرآن ، فهو يقرؤه آناء الليل وآناء النهار .

وقال في الذي رأى من ينفق ماله في طاعة الله ، فقال : " لو أن لي مالا ، لفعلت فيه كما فعل ، فهما في الأجر سواء " وإن كانت دنيوية ، فلا خير في تمنيها ، كما قال تعالى : فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم [ ص: 309 ] ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ( القصص : 79 - 80 ) . وأما قول الله عز وجل : ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ( النساء : 32 ) ، فقد فسر ذلك بالحسد ، وهو تمني الرجل نفس ما أعطي أخوه من أهل ومال ، وأن ينتقل ذلك إليه ، وفسر بتمني ما هو ممتنع شرعا أو قدرا ، كتمني النساء أن يكن رجالا ، أو يكون لهن مثل ما للرجال من الفضائل الدينية كالجهاد ، والدنيوية كالميراث ، والعقل والشهادة ونحو ذلك . وقيل : إن الآية تشمل ذلك كله .

ومع هذا كله ، فينبغي للمؤمن أن يحزن لفوات الفضائل الدينية ، ولهذا أمر أن ينظر في الدين إلى من فوقه ، وأن ينافس في طلب ذلك جهده وطاقته ، كما قال تعالى : وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ( المطففين : 26 ) ولا يكره أن أحدا يشاركه في ذلك ، بل يحب للناس كلهم المنافسة فيه ، ويحثهم على ذلك ، وهو من تمام أداء النصيحة للإخوان . كما قال الفضيل : إن كنت تحب أن يكون الناس مثلك ، فما أديت النصيحة لربك ، كيف وأنت تحب أن يكونوا دونك ؟ ! يشير إلى أن النصيحة لهم أن يحب أن يكونوا فوقه ، وهذه منزلة عالية ، ودرجة رفيعة في النصح ، وليس ذلك بواجب ، وإنما المأمور به في الشرع أن يحب أن يكونوا مثله ، ومع هذا ، فإذا فاقه أحد في فضيلة دينية ، اجتهد على لحاقه ، وحزن على تقصير نفسه ، وتخلفه عن لحاق السابقين ، لا حسدا لهم على ما آتاهم الله ، بل منافسة لهم ، وغبطة وحزنا على النفس بتقصيرها وتخلفها عن درجات السابقين .

وينبغي للمؤمن أن لا يزال يرى نفسه مقصرا عن الدرجات العالية ، فيستفيد بذلك أمرين نفيسين : الاجتهاد في طلب الفضائل ، والازدياد منها ، والنظر إلى نفسه بعين النقص ، وينشأ من هذا أن يحب للمؤمنين أن يكونوا خيرا منه ، لأنه لا يرضى لهم أن يكونوا على مثل حاله ، كما أنه لا يرضى لنفسه بما هي عليه ، [ ص: 310 ] بل يجتهد في إصلاحها . وقد قال محمد بن واسع لابنه : أما أبوك ، فلا كثر الله في المسلمين مثله .

فمن كان لا يرضى عن نفسه ، فكيف يحب للمسلمين أن يكونوا مثله مع نصحه لهم ؟ بل هو يحب للمسلمين أن يكونوا خيرا منه ، ويحب لنفسه أن يكون خيرا مما هو عليه .

وإن علم المرء أن الله قد خصه على غيره بفضل ، فأخبر به لمصلحة دينية ، وكان إخباره على سبيل التحدث بالنعم ، ويرى نفسه مقصرا في الشكر ، كان جائزا ، فقد قال ابن مسعود : ما أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني ، ولا يمنع هذا أن يحب للناس أن يشاركوه فيما خصه الله به ، فقد قال ابن عباس : إني لأمر على الآية من كتاب الله ، فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم . وقال الشافعي : وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ، ولم ينسب إلي منه شيء . وكان عتبة الغلام إذا أراد أن يفطر يقول لبعض إخوانه المطلعين على أمره وأعماله : أخرج إلي ماء أو تمرات أفطر عليها ؛ ليكون لك أجر مثل أجري .

التالي السابق


الخدمات العلمية