صفحة جزء
[ ص: 361 ] الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني ، قال : لا تغضب فردد مرارا قال : لا تغضب رواه البخاري .
هذا الحديث خرجه البخاري من طريق أبي الحصين الأسدي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، ولم يخرجه مسلم ، لأن الأعمش رواه ، عن أبي صالح ، واختلف عليه في إسناده فقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، كقول أبي حصين ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، وعند يحيى بن معين أن هذا هو الصحيح ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة وأبي سعيد ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أو جابر ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن رجل من الصحابة غير مسمى . وخرج الترمذي هذا الحديث من طريق أبي حصين أيضا ولفظه : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله علمني شيئا ولا تكثر علي لعلي أعيه ، قال : لا تغضب فردد ذلك مرارا كل ذلك يقول : لا تغضب وفي رواية أخرى لغير الترمذي قال : قلت : يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ولا تكثر علي قال : لا تغضب . فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه وصية وجيزة جامعة لخصال [ ص: 362 ] الخير ، ليحفظها عنه خشية أن لا يحفظها لكثرتها ، فوصاه النبي أن لا يغضب ، ثم ردد هذه المسألة عليه مرارا ، والنبي صلى الله عليه وسلم يردد عليه هذا الجواب ، فهذا يدل على أن الغضب جماع الشر ، وأن التحرز منه جماع الخير . ولعل هذا الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو الدرداء ، فقد خرج الطبراني من حديث أبي الدرداء قال : قلت : يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ، قال : لا تغضب ولك الجنة . وقد روى الأحنف بن قيس عن عمه جارية بن قدامة أن رجلا قال : يا رسول الله قل لي قولا ، وأقلل علي لعلي أعقله ، " قال لا تغضب " فأعاد عليه مرارا كل ذلك يقول : " لا تغضب " خرجه الإمام أحمد وفي رواية له أن جارية بن قدامة قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . فهذا يغلب على الظن أن السائل هو جارية بن قدامة ، ولكن ذكر الإمام أحمد عن يحيى القطان أنه قال : هكذا قال هشام ، يعني : أن هشاما ذكر في الحديث أن جارية سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، قال يحيى : وهم يقولون : إنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا قال العجلي وغيره : إنه تابعي وليس بصحابي . وخرج الإمام أحمد من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن ، عن [ ص: 363 ] رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قلت : يا رسول الله أوصني ، قال : لا تغضب قال الرجل : ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله ورواه مالك في " الموطأ " عن الزهري ، عن حميد مرسلا . وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم : ماذا يباعدني من غضب الله عز وجل ؟ قال : لا تغضب . وقول الصحابي : ففكرت فيما قال النبي صلى الله عليه وسلم فإذا الغضب يجمع الشر كله يشهد لما ذكرناه أن الغضب جماع الشر ، قال جعفر بن محمد : الغضب مفتاح كل شر . وقيل لابن المبارك : اجمع لنا حسن الخلق في كلمة ، قال : ترك الغضب . وكذا فسر الإمام أحمد ، وإسحاق بن راهويه حسن الخلق بترك الغضب ، وقد روي ذلك مرفوعا ، خرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب " الصلاة " من حديث أبي العلاء بن الشخير أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه ، فقال : يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ فقال : " حسن الخلق " ثم أتاه عن يمينه ، فقال : يا رسول الله أي العمل أفضل فقال : " حسن الخلق " ، ثم أتاه عن شماله فقال : يا رسول الله ، أي العمل أفضل ؟ قال : حسن الخلق ثم أتاه من بعده ، يعني : من خلفه ، فقال : يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " مالك لا تفقه ! حسن الخلق هو أن لا تغضب إن استطعت " . وهذا مرسل . فقوله صلى الله عليه وسلم لمن استوصاه : لا تغضب يحتمل أمرين : [ ص: 364 ] أحدهما : أن يكون مراده الأمر بالأسباب التي توجب حسن الخلق من الكرم والسخاء والحلم والحياء والتواضع والاحتمال وكف الأذى ، والصفح والعفو ، وكظم الغيظ ، والطلاقة والبشر ، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة ، فإن النفس إذا تخلقت بهذه الأخلاق ، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه . والثاني : أن يكون المراد لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك ، بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به ، فإن الغضب إذا ملك ابن آدم كان الآمر والناهي له ، ولهذا المعنى قال الله عز وجل ولما سكت عن موسى الغضب [ الأعراف : 154 ] فإذا لم يمتثل الإنسان ما يأمره به غضبه ، وجاهد نفسه على ذلك ، اندفع عنه شر الغضب ، وربما سكن غضبه ، وذهب عاجلا ، فكأنه حينئذ لم يغضب ، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارة في القرآن بقوله عز وجل وإذا ما غضبوا هم يغفرون [ الشورى : 37 ] ، وبقوله عز وجل : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [ آل عمران : 134 ] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من غضب بتعاطي أسباب تدفع عنه الغضب ، وتسكنه ، ويمدح من ملك نفسه عند غضبه ففي " الصحيحين " عن سليمان بن صرد قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس ، وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم كلمة لو قالها ، لذهب عنه ما يجد ، لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فقالوا للرجل : ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : إني لست بمجنون . وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 365 ] قال في خطبته : ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ، أفما رأيتم إلى حمرة عينيه ، وانتفاخ أوداجه ، فمن أحس من ذلك شيئا فليلزق بالأرض . وخرج الإمام أحمد ، وأبو داود من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا غضب أحدكم وهو قائم ، فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع . وقد قيل : إن المعنى في هذا أن القائم متهيئ ، للانتقام ، والجالس دونه في ذلك ، والمضطجع أبعد عنه ، فأمره بالتباعد عن حالة الانتقام ، ويشهد لذلك أنه روي من حديث سنان بن سعد عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن حديث الحسن مرسلا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الغضب جمرة في قلب الإنسان توقد ألا ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ، فإذا أحس أحدكم من ذلك شيئا ، فليجلس ، ولا يعدونه الغضب " . والمراد : أنه يحبسه في نفسه ، ولا يعديه إلى غيره بالأذى بالفعل ، ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن : " إن المضطجع فيها خير من القاعد ، والقاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي " وإن [ ص: 366 ] كان هذا على وجه ضرب المثال في الإسراع في الفتن ، إلا أن المعنى : أن من كان أقرب إلى الإسراع فيها ، فهو شر ممن كان أبعد عن ذلك . وخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس ، عن النبي قال : إذا غضب أحدكم ، فليسكت ، قالها ثلاثا . وهذا أيضا دواء عظيم للغضب ، لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيرا من السباب وغيره مما يعظم ضرره ، فإذا سكت زال هذا الشر كله عنه ، وما أحسن قول مورق العجلي رحمه الله : ما امتلأت غيظا قط ولا تكلمت في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت . وغضب يوما عمر بن عبد العزيز فقال له ابنه عبد الملك رحمهما الله : أنت يا أمير المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضلك به تغضب هذا الغضب ؟ فقال له : أوما تغضب ياعبد الملك ؟ فقال عبد الملك : وما يغني عني سعة جوفي إذا لم أردد فيه الغضب حتى لا يظهر ؟ فهؤلاء قوم ملكوا أنفسهم عند الغضب رضي الله عنهم . وخرج الإمام أحمد ، وأبو داود من حديث عروة بن محمد السعدي أنه كلمه رجل فأغضبه ، فقام فتوضأ ، ثم قال : حدثني أبي ، عن جدي عطية ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الغضب من الشيطان ، وإن الشيطان خلق من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم ، فليتوضأ " . [ ص: 367 ] وروى أبو نعيم بإسناده عن أبي مسلم الخولاني أنه كلم معاوية بشيء وهو على المنبر ، فغضب ثم نزل فاغتسل ، ثم عاد إلى المنبر ، وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الغضب من الشيطان ، والشيطان من النار ، والماء يطفئ النار ، فإذا غضب أحدكم فليغتسل . وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس الشديد بالصرعة ، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب . وفي " صحيح مسلم " عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما تعدون الصرعة فيكم ؟ قلنا : الذي لا تصرعه الرجال ، قال : ليس ذلك ، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب . وخرج الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من حديث معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه ، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء . وخرج الإمام أحمد من حديث ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما تجرع عبد [ ص: 368 ] جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله عز وجل ومن حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ، ما كظم عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانا وخرج أبو داود معناه من رواية بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " ملأه الله أمنا وإيمانا " . وقال ميمون بن مهران : جاء رجل إلى سلمان ، فقال : يا أبا عبد الله أوصني ، قال : لا تغضب ، قال أمرتني أن لا أغضب وإنه ليغشاني ما لا أملك ، قال : فإن غضبت ، فاملك لسانك ويدك خرجه ابن أبي الدنيا ، وملك لسانه ويده هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأمره لمن غضب أن يجلس ، ويضطجع وبأمره له أن يسكت . قال عمر بن عبد العزيز : قد أفلح من عصم من الهوى ، والغضب ، والطمع . وقال الحسن : أربع من كن فيه عصمه الله من الشيطان ، وحرمه على النار : من ملك نفسه عند الرغبة والرهبة والشهوة والغضب . وهذه الأربع التي ذكرها الحسن هي مبدأ الشر كله ، فإن الرغبة في الشيء هي ميل النفس إليه لاعتقاد نفعه ، فمن حصل له رغبة في شيء ، حملته تلك [ ص: 369 ] الرغبة على طلب ذلك الشيء من كل وجه يظنه موصلا إليه ؛ وقد يكون كثير منها محرما ؛ وقد يكون ذلك الشيء المرغوب فيه محرما . والرهبة : هي الخوف من الشيء ، وإذا خاف الإنسان من شيء تسبب في دفعه عنه بكل طريق يظنه دافعا له ، وقد يكون كثير منها محرما . والشهوة : هي ميل النفس إلى ما يلائمها ، وتلتذ به ، وقد تميل كثيرا إلى ما هو محرم كالزنا والسرقة وشرب الخمر ، وإلى الكفر والسحر والنفاق والبدع . والغضب : هو غليان دم القلب طلبا لدفع المؤذي عند خشية وقوعه ، أو طلبا للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعد وقوعه ، وينشأ من ذلك كثير من الأفعال المحرمة كالقتل والضرب وأنواع الظلم والعدوان ؛ وكثير من الأقوال المحرمة كالقذف والسب والفحش ، وربما ارتقى إلى درجة الكفر ، كما جرى لجبلة بن الأيهم ، وكالأيمان التي لا يجوز التزامها شرعا ، وكطلاق الزوجة الذي يعقب الندم . والواجب على المؤمن أن تكون شهوته مقصورة على طلب ما أباحه الله له ، وربما تناولها بنية صالحة ، فأثيب عليها ، وأن يكون غضبه دفعا للأذى في الدين له أو لغيره وانتقاما ممن عصى الله ورسوله ، كما قال تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم [ التوبة : 14 - 15 ] . وهذه كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان لا ينتقم لنفسه ، ولكن إذا انتهكت [ ص: 370 ] حرمات الله لم يقم لغضبه شيء ولم يضرب بيده خادما ولا امرأة إلا أن يجاهد في سبيل الله . وخدمه أنس عشر سنين ، فما قال له : " أف " قط ، ولا قال له لشيء فعله : " لم فعلت كذا " ، ولا لشيء لم يفعله : " ألا فعلت كذا " وفي رواية أنه كان إذا لامه بعض أهله قال صلى الله عليه وسلم : " دعوه فلو قضي شيء كان " وفي رواية للطبراني قال أنس : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، فما دريت شيئا قط وافقه ، ولا شيئا خالفه رضى من الله بما كان . وسئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان خلقه القرآن ، تعني : أنه تأدب بآدابه ، وتخلق بأخلاقه ، فما مدحه القرآن ، كان فيه رضاه ، وما ذمه القرآن ، كان فيه سخطه ، وجاء في رواية عنها ، قالت : كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه . وكان صلى الله عليه وسلم لشدة حيائه لا يواجه أحدا بما يكره ، بل تعرف الكراهة في وجهه ، كما في " الصحيح " عن أبي سعيد الخدري قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها ، فإذا رأى شيئا يكرهه ، عرفناه في وجهه . ولما بلغه ابن [ ص: 371 ] مسعود قول القائل : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ، شق عليه صلى الله عليه وسلم وتغير وجهه ، وغضب ، ولم يزد على أن قال : لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر . وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى ، أو سمع ما يكرهه الله ، غضب لذلك ، وقال فيه ، ولم يسكت ، وقد دخل بيت عائشة فرأى سترا فيه تصاوير ، فتلون وجهه وهتكه ، وقال : إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور . ولما شكي إليه الإمام الذي يطيل بالناس صلاته حتى يتأخر بعضهم عن الصلاة معه ، غضب واشتد غضبه ، ووعظ الناس ، وأمر بالتخفيف . ولما رأى النخامة في قبلة المسجد ، تغيظ ، وحكها ، وقال : إن أحدكم إذا كان في الصلاة ، فإن الله حيال وجهه ، فلا يتنخمن حيال وجهه في الصلاة . [ ص: 372 ] وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم " أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا " وهذا عزيز جدا ، وهو أن الإنسان لا يقول سوى الحق سواء غضب أو رضي ، فإن أكثر الناس إذا غضب لا يتوقف فيما يقول . وخرج الطبراني من حديث أنس مرفوعا : " ثلاث من أخلاق الإيمان : من إذا غضب لم يدخله غضبه في باطل ، ومن إذا رضي ، لم يخرجه رضاه من حق ، ومن إذا قدر ، لم يتعاط ما ليس له " . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه أخبر عن رجلين ممن كان قبلنا كان أحدهما عابدا ، وكان الآخر مسرفا على نفسه ، وكان العابد يعظه ، فلا ينتهي ، فرآه يوما على ذنب استعظمه ، فقال : والله لا يغفر الله لك ، فغفر للمذنب ، وأحبط عمل العابد " . وقال أبو هريرة : لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته ، فكان أبو هريرة يحذر الناس أن يقولوا مثل هذه الكلمة في غضب وقد خرجه الإمام أحمد [ ص: 373 ] وأبو داود ، فهذا غضب لله ، ثم تكلم في حال غضبه لله بما لا يجوز ، وحتم على الله بما لا يعلم ، فأحبط الله عمله ، فكيف بمن تكلم في غضبه لنفسه ، ومتابعة هواه بما لا يجوز . وفي " صحيح مسلم " عن عمران بن حصين : أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة ، فضجرت فلعنتها فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : خذوا متاعها ودعوها . وفيه أيضا عن جابر قال : سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ورجل من الأنصار على ناضح له ، فتلدن عليه بعض التلدن ، فقال له : سر ، لعنك الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انزل عنه ، فلا تصحبنا بملعون ، لا تدعوا على أنفسكم ، ولا تدعوا على أولادكم ، ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء ، فيستجيب لكم . فهذا كله يدل على أن دعاء الغضبان قد يجاب إذا صادف ساعة إجابة ، وأنه ينهى عن الدعاء على نفسه وأهله وماله في الغضب . وأما ما قاله مجاهد في قوله تعالى : ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم [ يونس : 11 ] ، قال : هو الواصل لأهله وولده وماله إذا غضب عليه ، قال : اللهم لا تبارك فيه ، اللهم العنه ، يقول : لو عجل له ذلك ، لأهلك من دعا عليه ، فأماته . فهذا يدل على أنه لا يستجاب [ ص: 374 ] جميع ما يدعو به الغضبان على نفسه وأهله وماله ، والحديث دل على أنه قد يستجاب لمصادفته ساعة إجابة . وأما ما روي عن الفضيل بن عياض قال : ثلاثة لا يلامون على غضب : الصائم والمريض والمسافر ، وعن الأحنف بن قيس قال : يوحي الله إلى الحافظين اللذين مع ابن آدم : لا تكتبا على عبدي في ضجره شيئا ، وعن أبي عمران الجوني قال : إن المريض إذا جزع فأذنب ، قال الملك الذي على اليمين للملك الذي على الشمال : لا تكتب ، خرجه ابن أبي الدنيا ، فهذا كله لا يعرف له أصل صحيح من الشرع يدل عليه ، والأحاديث التي ذكرناها من قبل تدل على خلافه . وقول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا غضبت فاسكت يدل على أن الغضبان مكلف في حال غضبه بالسكوت ، فيكون حينئذ مؤاخذا بالكلام ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر من غضب أن يتلافى غضبه بما يسكنه من أقوال وأفعال ، وهذا هو عين التكليف له بقطع الغضب ، فكيف يقال : إنه غير مكلف في حال غضبه بما يصدر منه . وقال عطاء بن أبي رباح : ما أبكى العلماء بكاء آخر العمر من غضبة يغضبها أحدهم فتهدم عمر خمسين سنة ، أو ستين سنة ، أو سبعين سنة ، ورب غضبة قد أقحمت صاحبها مقحما ما استقاله . خرجه ابن أبي الدنيا . ثم إن من قال من السلف : إن الغضبان إذا كان سبب غضبه مباحا ، كالمرض ، أو السفر ، أو طاعة كالصوم ، لا يلام عليه إنما مراده أنه لا إثم عليه إذا كان مما يقع منه في حال الغضب كثيرا من كلام يوجب تضجرا أو سبا ونحوه كما قال صلى الله عليه وسلم : إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر ، وأغضب كما يغضب [ ص: 375 ] البشر ، فأيما مسلم سببته أو جلدته ، فاجعلها له كفارة . فأما ما كان من كفر ، أو ردة ، أو قتل نفس ، أو أخذ مال بغير حق ونحو ذلك ، فهذا لا يشك مسلم أنهم لم يريدوا أن الغضبان لا يؤاخذ به ، وكذلك ما يقع من الغضبان من طلاق وعتاق ، أو يمين ، فإنه يؤاخذ بذلك كله بغير خلاف وفي " مسند الإمام أحمد " ، عن خويلة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أنها راجعت زوجها ، فغضب ، فظاهر منها وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه وضجر ، وأنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعلت تشكو إليه ما تلقى من سوء خلقه ، فأنزل الله آية الظهار ، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكفارة الظهار في قصة طويلة ، وخرجها ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي العالية : أن خويلة غضب زوجها فظاهر منها ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته بذلك ، وقالت : إنه لم يرد الطلاق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أراك إلا حرمت عليه " ، وذكر القصة بطولها ، وفي آخرها ، قال : فحول الله الطلاق ، فجعله ظهارا . فهذا الرجل ظاهر في حال غضبه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى حينئذ أن الظهار طلاق ، وقد قال : إنها حرمت عليه بذلك ، يعني : لزمه الطلاق ، فلما جعله الله ظهارا مكفرا ألزمه بالكفارة ، ولم يلغه . وروى مجاهد عن ابن عباس أن رجلا قال له : إني طلقت امرأتي ثلاثا وأنا [ ص: 376 ] غضبان ، فقال : ابن عباس لا يستطيع أن يحل لك ما حرم الله عليك ، عصيت ربك وحرمت عليك امرأتك خرجه الجوزجاني والدارقطني بإسناد على شرط مسلم . وخرج القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب " أحكام القرآن " بإسناد صحيح عن عائشة قالت : اللغو في الأيمان ما كان في المراء والهزل والمزاحة ، والحديث الذي لا يعقد عليه القلب ، وأيمان الكفارة على كل يمين حلفت عليها على جد من الأمر في غضب أو غيره : لتفعلن أو لتتركن ، فذلك عقد الأيمان فيها الكفارة وكذا رواه ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة وهذا من أصح الأسانيد ، وهذا يدل على أن الحديث المروي عنها مرفوعا : " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق " إما أنه غير صحيح ، أو أن تفسيره [ ص: 377 ] بالغضب غير صحيح . وقد صح ، عن غير واحد من الصحابة أنهم أفتوا أن يمين الغضبان منعقدة وفيها الكفارة ، وما روي عن ابن عباس مما يخالف ذلك فلا يصح إسناده ، قال الحسن : طلاق السنة أن يطلقها واحدة طاهرا من غير جماع ، وهو بالخيار ما بينه وبين أن تحيض ثلاث حيض ، فإن بدا له أن يراجعها كان أملك بذلك ، فإن كان غضبان ، ففي ثلاث حيض ، أو في ثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض ما يذهب غضبه ، وقال الحسن : لقد بين الله لئلا يندم أحد في طلاق كما أمره الله . خرجه القاضي إسماعيل [ ص: 378 ] وقد جعل كثير من العلماء الكنايات مع الغضب كالصريح في أنه يقع بها الطلاق ظاهرا ؛ ولا يقبل تفسيرها مع الغضب بغير الطلاق ، ومنهم من جعل الغضب مع الكنايات كالنية ، فأوقع بذلك الطلاق في الباطن أيضا ، فكيف يجعل الغضب مانعا من وقوع صريح الطلاق .

التالي السابق


الخدمات العلمية