فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء

280 - ومبهم التعديل ليس يكتفي به الخطيب والفقيه الصيرفي      281 - وقيل يكفي نحو أن يقالا
حدثني الثقة بل لو قالا      282 - جميع أشياخي ثقات لو لم
أسم لا يقبل من قد أبهم      283 - وبعض من حقق لم يرده
من عالم في حق من قلده      284 - ولم يروا فتياه أو عمله
على وفاق المتن تصحيحا له      285 - وليس تعديلا على الصحيح
رواية العدل على التصريح

[ التعديل المبهم ] : السادس : في التعديل المبهم ، ومجرد الرواية عن [ ص: 37 ] المعين بدون تعديل ، وغير ذلك .

( ومبهم التعديل ) أي : تعديل المبهم ( ليس يكتفي به ) الحافظ أبو بكر ( الخطيب ) ، وعصريه أبو نصر بن الصباغ ( و ) من قبلهما ( الفقيه ) أبو بكر محمد بن عبد الله ( الصيرفي ) شارح الرسالة ، وغيرهم من الشافعية ; كالماوردي والروياني ، سواء في ذلك المقلد وغيره .

( وقيل : يكفي ) كما لو عينه ; لأنه مأمون في الحالتين معا ، نقله ابن الصباغ أيضا في العدة عن أبي حنيفة ، وهو ماش على قول من يحتج بالمرسل ، من أجل أن المرسل لو لم يحتج بالمحذوف لما حذفه ، فكأنه عدله ، بل هو في مسألتنا أولى بالقبول ; لتصريحه فيها بالتعديل .

ولكن الصحيح الأول ; لأنه لا يلزم من تعديله أن يكون عند غيره كذلك ، فلعله إذا سماه يعرف بخلافها ، وربما يكون قد انفرد بتوثيقه كما وقع للشافعي في إبراهيم بن أبي يحيى ، فقد قال النووي : إنه لم يوثقه غيره ، وهو ضعيف باتفاق المحدثين ، بل إضراب المحدثين عن تسميته [ ص: 38 ] ريبة تقع ترددا في القلب .

قال ابن أبي الدم : وهذا مأخوذ من شاهد الأصل إذا شهد عليه شاهد فرع ، فلابد من تسميته للحاكم المشهود عنده بالاتفاق عند الشافعي وأصحابه ، فإذا قال شاهد الفرع : أشهدني شاهد أصل أشهد بعدالته وثقته أنه يشهد بكذا ، لم يسمع ذلك وفاقا حتى يعينه للحاكم ، ثم الحاكم إن علم عدالة شاهد الأصل عمل بموجب الشهادة ، وإن جهل حاله استزكاه - انتهى .

وصورته : ( نحو أن يقالا حدثني الثقة ) أو الضابط أو العدل من غير تسمية ( بل ) صرح الخطيب بأنه ( لو قالا ) أيضا : ( جميع أشياخي ) الذين رويت عنهم ( ثقات ) ، و ( لو لم أسم ) ، ثم روى عن واحد أبهم اسمه ( لا يقبل ) أيضا ( من قد أبهم ) للعلة المذكورة ، هذا مع كونه في هذه الصورة أعلى مما تقدم ; فإنه كما نقل عن المصنف إذا قال : حدثني الثقة ، يحتمل أنه يروي عن ضعيف ، يعني عند غيره ، وإذا قال : جميع أشياخي ثقات ، علم أنه لا يروي إلا عن ثقة ، فهي أرفع بهذا الاعتبار ، وفيه نظر ; إذ احتمال الضعف عند غيره قد طرقهما معا .

بل تمتاز الصورة الثانية باحتمال الذهول عن قاعدته ، أو كونه لم يسلك ذلك إلا في آخر أمره ، كما روي أن ابن مهدي كان يتساهل أولا في الرواية عن غير واحد بحيث كان يروي عن جابر الجعفي ، ثم شدد . نعم ، جزم الخطيب بأن العالم إذا قال : كل من أروي لكم عنه وأسميه فهو عدل رضي ، كان تعديلا منه لكل من روى عنه وسماه ، يعني بحيث يسوغ لنا إضافة تعديله له ، قال : وقد يوجد فيهم الضعيف ; لخفاء حاله على القائل .

[ ص: 39 ] قلت : أو لكون عمله بقوله هذا مما طرأ كما قدمته ( وبعض من حقق ) كما حكاه ابن الصلاح ولم يسمه ، ولعله إمام الحرمين ، فصل حيث ( لم يرده ) أي : التعديل لمن أبهم إذا صدر ( من عالم ) كمالك والشافعي ونحوهما من المجتهدين المقلدين ( في حق من قلده ) في مذهبه ، فكثيرا ما يقع للأئمة ذلك ، فحيث روى مالك عن الثقة عن بكير بن عبد الله بن الأشج ، فالثقة مخرمة ولده ، أو عن الثقة عن عمرو بن شعيب ، فقيل : إنه عبد الله بن وهب ، أو الزهري ، أو ابن لهيعة ، أو عمن لا يتهم من أهل العلم ، فهو الليث .

وجميع ما يقول : بلغني عن علي ، سمعه من عبد الله بن إدريس الأودي . وحيث روى الشافعي عن الثقة عن ابن أبي ذئب ، فهو ابن أبي فديك ، أو عن الثقة عن الليث بن سعد ، فهو يحيى بن حسان ، أو عن الثقة عن الوليد بن كثير ، فهو أبو أسامة ، أو عن الثقة عن الأوزاعي ، فهو عمرو بن أبي سلمة ، أو عن [ ص: 40 ] الثقة عن ابن جريج ، فهو مسلم بن خالد ، أو عن الثقة عن صالح مولى التوءمة ، فهو إبراهيم بن أبي يحيى ، أو عن الثقة وذكر أحدا من العراقيين فهو أحمد بن حنبل .

وما روي عن عبد الله بن أحمد أنه قال : كل شيء في كتاب الشافعي " أنا الثقة " فهو أبي ، يمكن أن يحمل على هذا ، نعم ، في مسند الشافعي ، وساقه البيهقي في مناقبه عن الربيع أن الشافعي إذا قال : " أخبرني الثقة " فهو يحيى بن حسان ، أو " من لا أتهم " فهو إبراهيم بن أبي يحيى ، أو " بعض الناس " فيريد به أهل العراق ، أو " بعض أصحابنا " فأهل الحجاز .

وقال شيخنا : إنه يوجد في كلام الشافعي ، أخبرني الثقة عن يحيى بن أبي كثير ، والشافعي لم يأخذ عن أحد ممن أدرك يحيى ، فيحمل على أنه أراد بسنده إلى يحيى .

بخلاف من لم يقلد كابن إسحاق ; حيث يقول : أخبرني من لا أتهم عن مقسم ، فذلك لا يكون حجة لغيره ، لا سيما وقد فسر بالحسن بن عمارة المعروف بالضعف ، وكسيبويه ; فإن أبا زيد قال : إذا قال : سيبويه حدثني ، فإنما يعنيني .

وعلى هذا القول يدل كلام ابن الصباغ في العدة ; فإنه قال : إن الشافعي لم يورد ذلك احتجاجا بالخبر على غيره ، وإنما ذكر لأصحابه قيام الحجة عنده على [ ص: 41 ] الحكم ، وقد عرف هو من روى عنه ذلك ، لكن قد توقف شيخنا [ في هذا القول ] ، وقال : إنه ليس من المبحث ; لأن المقلد يتبع إمامه ، ذكر دليله أم لا .

تنبيه : ألحق ابن السبكي بحدثني الثقة من مثل الشافعي دون غيره ، حدثني من لا أتهم في مطلق القبول ، لا في المرتبة . وفرق بينهما الذهبي وقال : إن قول الشافعي : أخبرني من لا أتهم ، ليس بحجة ; لأن من أنزله من رتبة الثقة إلى أنه غير متهم فهو لين عنده ، وضعيف عند غيره ; لأنه عندنا مجهول ، ولا حجة في مجهول .

ونفي الشافعي التهمة عمن حدثه لا يستلزم نفي الضعف ; فإن ابن لهيعة ووالد علي بن المديني ، وعبد الرحمن بن زياد الأفريقي وأمثالهم ليسوا ممن نتهمهم على السنن ، وهم ضعفاء لا نقبل حديثهم للاحتجاج به .

قال ابن السبكي : وهو صحيح ، إلا أن يكون قول الشافعي ذلك حين احتجاجه به ، فإنه هو والتوثيق حينئذ سواء في أصل الحجة ، وإن كان مدلول اللفظ لا يزيد على ما ذكره الذهبي .

( ولم يروا ) أي : الجمهور ، كما هو قضية كلام ابن الصلاح ( فتياه ) أو فتواه كما هي بخط الناظم ; أي : العالم مجتهدا كان أو مقلدا ( أو عمله ) في الأقضية وغيرها .

( على وفاق المتن ) أي : الحديث الوارد في ذلك المعنى ، حيث لم يظهر أن ذلك بمفرده مستنده ( تصحيحا له ) أي : للمتن ، ولا تعديلا لراويه ; لإمكان أن يكون لدليل آخر وافق ذلك المتن من متن غيره ، أو إجماع أو قياس ، أو يكون ذلك منه احتياطا ، أو لكونه ممن يرى العمل بالضعيف وتقديمه على القياس ، كما تقدم عن أحمد وأبي داود ، ويكون اقتصاره على هذا [ ص: 42 ] المتن أن ذكره إما لكونه أوضح في المراد ، أو لأرجحيته على غيره ، أو بغير ذلك .

قال ابن الصلاح : وكذلك مخالفته للحديث ليست قدحا منه في صحته ، ولا في راويه ، قال الخطيب : لأنه قد يكون عدل عنه لمعارض أرجح عنده منه من نسخ وغيره مع اعتقاد صحته ، وبه قطع ابن كثير . وممن صرح بأن العمل بخبر انفرد به راو لأجله ، يعني : جزما ، يكون تعديلا له ، الخطيب وغيره ; لأنه لم يعمل بخبره إلا وهو رضي عنده ، فكان ذلك قائما مقام التصريح بتعديله .

ونحوه قول ابن الحاجب : إن حكم الحاكم المشترط العدالة بالشهادة تعديل باتفاق ، وعمل العالم مثله .

( و ) كذا ( ليس تعديلا ) مطلقا ( على ) القول ( الصحيح ) الذي قال به أكثر العلماء من المحدثين وغيرهم ( رواية العدل ) الحافظ الضابط ، فضلا عن غيره ، عن الراوي ( على ) وجه ( التصريح ) باسمه ; لأنه يجوز أن يروي عمن لا يعرف عدالته ، بل وعن غير عدل ، فلا تتضمن روايته عنه تعديله ولا خبرا عن صدقه ، كما إذا شهد شاهد فرع على شاهد أصل لا يكون مجرد أدائه الشهادة على شهادته تعديلا منه له بالاتفاق ، وكذا إذا أشهد الحاكم على نفسه رجلا بما ثبت عنده لا [ ص: 43 ] يكون تعديلا له على الأصح .

وقد ترجم البيهقي في المدخل على هذه المسألة : " لا تستدل بمعرفة صدق من حدثنا على صدق من فوقه " ، بل صرح الخطيب بأنه لا يثبت للراوي حكم العدالة بمجرد رواية اثنين مشهورين عنه .

[ والثاني : أنه تعديل مطلقا ; إذ الظاهر أنه لا يروي إلا عن عدل ; إذ لو علم فيه جرحا لذكره ; لئلا يكون غاشا في الدين ، حكاه جماعة منهم الخطيب .

وكذا قال ابن المنير في الكفيل : للتعديل قسمان : صريحي وغير صريحي ، فالصريحي واضح ، وغير الصريحي ، وهو الضمني ، كرواية العدل وعمل العالم .

ورده الخطيب بأنه قد لا يعلم عدالته ولا جرحه ] ، كيف وقد وجد جماعة من العدول الثقات رووا عن قوم أحاديث أمسكوا في بعضها عن ذكر أحوالهم مع [ ص: 44 ] علمهم بأنهم غير مرضيين ، وفي بعضها شهدوا عليهم بالكذب .

وكذا خطأه الفقيه أبو بكر الصيرفي وقال : " لأن الرواية تعريف ; أي : مطلق تعريف ، يزول جهالة العين بها بشرطه ، والعدالة بالخبرة ، والرواية لا تدل على الخبرة " .

وقد قال سفيان الثوري : إني لأروي الحديث على ثلاثة أوجه ، فللحجة من رجل ، وللتوقف فيه من آخر ، ولمحبة معرفة مذهب من لا أعتد بحديثه ، لكن قد عاب شعبة عليه ذلك . وقيل لأبي حاتم الرازي : أهل الحديث ربما رووا حديثا لا أصل له ولا يصح ، فقال : علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم ، فروايتهم الحديث الواهي للمعرفة ; ليتبين لمن بعدهم أنهم ميزوا الآثار وحفظوها .

قال البيهقي : فعلى هذا الوجه كانت رواية من روى من الأئمة عن الضعفاء .

والثالث : التفصيل ، فإن علم أنه لا يروي إلا عن عدل كانت روايته عن الراوي تعديلا له ، وإلا فلا ، وهذا هو الصحيح عند الأصوليين ; كالسيف الآمدي وابن الحاجب وغيرهما ، بل وذهب إليه جمع من المحدثين ، وإليه ميل [ ص: 45 ] الشيخين وابن خزيمة في صحاحهم ، والحاكم في مستدركه ، ونحوه قول الشافعي رحمه الله فيما يتقوى به المرسل : أن يكون المرسل إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولا ولا مرغوبا عن الرواية عنه - انتهى .

وأما رواية غير العدل فلا يكون تعديلا باتفاق .

تتمة : ممن كان لا يروي إلا عن ثقة إلا في النادر : الإمام أحمد ، وبقي بن مخلد ، وحريز بن عثمان ، وسليمان بن حرب ، وشعبة ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ومالك ، ويحيى بن سعيد القطان ، وذلك في شعبة على المشهور ، فإنه كان يتعنت في الرجال ولا يروي إلا عن ثبت ، وإلا فقد قال عصام بن علي : سمعت شعبة يقول : لو لم أحدثكم إلا عن ثقة لم أحدثكم عن ثلاثة . وفي نسخة : ثلاثين . وذلك اعتراف منه بأنه يروي عن الثقة وغيره ، فينظر . وعلى كل حال فهو لا يروي عن متروك ، ولا عمن أجمع على ضعفه .

وأما سفيان الثوري فكان يترخص مع سعة علمه وشدة ورعه ويروي عن الضعفاء ، حتى قال فيه صاحبه شعبة : لا تحملوا عن الثوري إلا عمن تعرفون ; فإنه لا يبالي عمن حمل .

وقال الفلاس : قال لي يحيى بن سعيد : لا تكتب عن معتمر إلا عمن تعرف ; فإنه يحدث عن كل .

[ ص: 46 ] واعلم أن ما وقع في هذا الفصل من التوسط بين مسألتيه بموافقة حديث لما أفتى به العالم أو عمل به - ظاهر في المناسبة مع القول الثالث المفصل في الأول ، وإن خالف ابن الصلاح هذا الصنيع .

التالي السابق


الخدمات العلمية