فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء

294 - والخلف في مبتدع ما كفرا قيل يرد مطلقا واستنكرا      295 - وقيل بل إذا استحل الكذبا
نصرة مذهب له ونسبا      296 - للشافعي إذ يقول : أقبل
من غير خطابية ما نقلوا      297 - والأكثرون ورآه الأعدلا
ردوا دعاتهم فقط ونقلا      298 - فيه ابن حبان اتفاقا ورووا
عن أهل بدع في الصحيح ما دعوا

[ رواية المبتدع ] : الثامن : في المبتدع ، والبدعة هي ما أحدث على غير مثال متقدم ، فيشمل المحمود والمذموم ، ولذا قسمها العز بن عبد السلام ، كما أشير إليه إن شاء الله عند التسميع بقراءة اللحان ، إلى الأحكام الخمسة ، وهو واضح ، [ ص: 62 ] ولكنها خصت شرعا بالمذموم مما هو خلاف المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فالمبتدع من اعتقد ذلك لا بمعاندة بل بنوع شبهة .

( والخلف ) أي : الاختلاف واقع بين الأئمة ( في ) قبول رواية ( مبتدع ) معروف بالتحرز من الكذب ، وبالتثبت في الأخذ والأداء مع باقي شروط القبول ( ما كفرا ) أي : لم يكفر ببدعته تكفيرا مقبولا ; كبدع الخوارج والروافض الذين لا يغلون ذاك الغلو ، وغير هؤلاء من الطوائف المخالفين لأصول السنة خلافا ظاهرا ، لكنه مستند إلى تأويل ظاهر سائغ .

( قيل يرد مطلقا ) الداعية وغيره ; لاتفاقهم على رد الفاسق بغير تأويل ، فيلحق به المتأول ، فليس ذلك بعذر ، بل هو فاسق بقوله وبتأويله ، فيضاعف فسقه ، كما استوى الكافر المتأول والمعاند بغير تأويل .

قال غير واحد ، منهم ابن سيرين : " إن هذا العلم دين ، فانظر عمن تأخذ دينك " ، بل روي مرفوعا من حديث أنس وأبي هريرة .

وكذا روي عن ابن عمر ، أنه صلى الله عليه وسلم قال له : ( ( يا ابن عمر ، دينك دينك ، إنما هو [ ص: 63 ] لحمك ودمك ، فانظر عمن تأخذ ، خذ عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين مالوا ) ) ، ولا يصح . وقال علي بن حرب : من قدر أن لا يكتب الحديث إلا عن صاحب سنة ; فإنهم لا يكذبون ، كل صاحب هوى يكذب ولا يبالي . وهذا القول ، كما قال الخطيب في الكفاية ، مروي عن طائفة من السلف ، منهم مالك ، وكذا نقله الحاكم عنه ، ونصه في المدونة في غير موضع يشهد له ، وتبعه أصحابه ، وكذا جاء عن القاضي أبي بكر الباقلاني وأتباعه ، بل نقله الآمدي عن الأكثرين ، وجزم به ابن الحاجب .

( واستنكرا ) أي : أنكر هذا القول ابن الصلاح ; فإنه قال : إنه بعيد مباعد للشائع عن أئمة الحديث ; فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة ، كما سيأتي آخر هذه المقالة ، وكذا [ ص: 64 ] قال شيخنا : إنه بعيد قال : وأكثر ما علل به أن في الرواية عنه ترويجا لأمره ، وتنويها بذكره ، وعلى هذا ينبغي أن لا يروى عن مبتدع شيء يشاركه فيه غير مبتدع .

قلت : وإلى هذا التفصيل مال ابن دقيق العيد ; حيث قال : إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه هو ; إخمادا لبدعته ، وإطفاء لناره ، يعني لأنه كان يقال كما قال رافع بن أشرس : من عقوبة الفاسق المبتدع ألا تذكر محاسنه . وإن لم يوافقه أحد ، ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده ، مع ما وصفنا من صدقه ، وتحرزه عن الكذب ، واشتهاره بالتدين ، وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته ، فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته .

( وقيل ) : إنه لا يرد المبتدع مطلقا ( بل إذا استحل الكذبا ) في الرواية أو الشهادة ( نصرة ) أي : لنصرة ( مذهب له ) أو لغيره ممن هو متابع له ، كما كان محرز أبو رجاء يفعل حسما ، حكاه عن نفسه بعد أن تاب من بدعته ; فإنه كان يضع الأحاديث يدخل بها الناس في القدر ، وكما حكى ابن لهيعة عن بعض الخوارج ممن تاب أنهم كانوا إذا هووا أمرا صيروه حديثا ، فمن لم يستحل الكذب كان مقبولا ; لأن اعتقاد حرمة الكذب يمنع من الإقدام عليه ، فيحصل صدقه .

( ونسبا ) هذا القول فيما نقله الخطيب في الكفاية ( للشافعي ) رحمه الله ; ( إذ يقول ) أي : لقوله [ ص: 65 ] ( أقبل من غير خطابية ) بالمعجمة ثم المهملة المشددة ، طائفة من الرافضة ، شرحت شيئا من حالهم في الموضوع ( ما نقلوا ) لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم ، ونص عليه في الأم والمختصر ، قال : لأنهم يرون شهادة أحدهم لصاحبه إذا سمعه يقول : لي على فلان كذا ، فيصدقه بيمينه أو غيرها ، ويشهد له اعتمادا على أنه لا يكذب .

ونحوه قول بعضهم عنهم : كان إذا جاء الرجل للواحد منهم فزعم أن له على فلان كذا أو أقسم بحق الإمام على ذلك يشهد له بمجرد قوله وقسمه ، بل قال الشافعي فيما رواه البيهقي في المدخل ، والخطيب في الكفاية : ما في أهل الأهواء قوم أشهد بالزور من الرافضة ، فإما أن يكون أطلق الكل وأراد البعض ، أو أطلق في اللفظ الأول البعض لكونهم أسوأ كذبا وأراد الكل .

وكذا قال أبو يوسف القاضي : أجيز شهادة أصحاب الأهواء أهل الصدق منهم ، إلا الخطابية والقدرية ، الذين يقولون : إن الله لا يعلم الشيء حتى يكون . رواه الخطيب في الكفاية ، على أن بعضهم ادعى أن الخطابية لا يشهدون بالزور ; فإنهم لا يجوزون الكذب ، بل من كذب عندهم فهو مجروح مقدوح فيه ، خارج عن درجة الاعتبار رواية وشهادة ، فإنه خرج بذلك عن مذهبهم ، فإذا سمع بعضهم بعضا قال شيئا عرف أنه ممن لا يجوز الكذب ، فاعتمد قوله لذلك ، وشهد بشهادته ، فلا يكون شهد بالزور لمعرفته أنه محق .

ونازعه البلقيني بأن ما بنى عليه شهادته أصل باطل ، فوجب رد شهادته ، لاعتماده [ ص: 66 ] أصلا باطلا ، وإن زعم أنه حق ، وتبعه ابن جماعة . ومن هنا نشأ الاختلاف فيما لو شهد خطابي وذكر في شهادته ما يقطع احتمال الاعتماد فيها على قول المدعي ، بأن قال : سمعت فلانا يقر بكذا لفلان ، أو رأيته أقرضه ، في القبول والرد .

وعن الربيع ، سمعت الشافعي يقول : كان إبراهيم بن أبي يحيى قدريا ، قيل للربيع : فما حمل الشافعي على أن روى عنه ؟ قال : كان يقول : لأن يخر إبراهيم من بعد أحب إليه من أن يكذب ، وكان ثقة في الحديث .

ولذا قيل كما قاله الخليلي في الإرشاد : إن الشافعي كان يقول : حدثنا الثقة في حديثه ، المتهم في دينه .

قال الخطيب : وحكي أيضا أن هذا مذهب ابن أبي ليلى وسفيان الثوري . ونحوه عن أبي حنيفة ، بل حكاه الحاكم في المدخل عن أكثر أئمة الحديث .

وقال الفخر الرازي في المحصول : إنه الحق . ورجحه ابن دقيق العيد . وقيل : يقبل مطلقا ، سواء الداعية وغيره كما سيأتي ; لأن تدينه وصدق لهجته يحجزه عن الكذب ، وخصه بعضهم بما إذا كان المروي يشتمل على ما ترد به بدعته ; لبعده حينئذ عن التهمة جزما ، وكذا خصه بعضهم بالبدعة الصغرى ; [ ص: 67 ] كالتشيع سوى الغلاة فيه وغيرهم ; فإنه كثر في التابعين وأتباعهم ، فلو رد حديثهم لذهب جملة من الآثار النبوية ، وفي ذلك مفسدة بينة .

أما البدعة الكبرى ; كالرفض الكامل والغلو فيه ، والحط على الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فلا ولا كرامة ، لا سيما ولست أستحضر الآن من هذا الضرب رجلا صادقا ولا مأمونا ، بل الكذب شعارهم ، والنفاق والتقية دثارهم ، فكيف يقبل من هذا حاله ، حاشا وكلا ، قاله الذهبي .

قال : والشيعي والغالي في زمن السلف وعرفهم من تكلم في عثمان والزبير وطلحة وطائفة ممن حارب عليا ، وتعرض لسبهم . والغالي في زمننا وعرفنا هو الذي كفر هؤلاء السادة وتبرأ من الشيخين أيضا ، فهذا ضال مفتر . ونحوه قول شيخنا في أبان بن تغلب من تهذيبه : التشيع في عرف المتقدمين هو اعتقاد تفضيل علي على عثمان ، وأن عليا كان مصيبا في حروبه ، وأن مخالفه مخطئ ، مع تقديم الشيخين وتفضيلهما ، وربما اعتقد بعضهم أن عليا أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان معتقد ذلك ورعا دينا صادقا مجتهدا فلا ترد روايته بهذا ، لا سيما إن كان غير داعية . وأما التشيع في عرف المتأخرين فهو الرفض المحض ، فلا يقبل رواية الرافضي الغالي ولا كرامة .

( والأكثرون ) من العلماء ( ورآه ) ابن الصلاح ( الأعدلا ) والأولى من الأقوال ( ردوا دعاتهم فقط ) . قال عبد الله بن أحمد : قلت لأبي : لم رويت عن أبي معاوية الضرير وكان مرجئا ، ولم ترو عن [ ص: 68 ] شبابة بن سوار وكان قدريا ؟ قال : لأن أبا معاوية لم يكن يدعو إلى الإرجاء ، وشبابة كان يدعو إلى القدر .

وحكى الخطيب هذا القول ، لكن عن كثيرين ، وتردد ابن الصلاح في عزوه بين الكثير أو الأكثر . نعم ، حكاه بعضهم عن الشافعية كلهم ، بل ( ونقلا فيه ابن حبان اتفاقا ) حيث قال في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي من ثقاته : وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كانت فيه بدعة ولم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز ، فإذا دعا إليها سقط الاحتجاج بأخباره .

وليس صريحا في الاتفاق لا مطلقا ولا بخصوص الشافعية ، ولكن الذي اقتصر ابن الصلاح عليه في العزو له الشق الثاني ، فقال : قال ابن حبان : " الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة ، لا أعلم بينهم فيه اختلافا " ، على أنه محتمل أيضا لإرادة الشافعية أو مطلقا .

وعلى الثاني فالمحكي عن مالك وغيره يخدش فيه ، على أن القاضي عبد الوهاب في الملخص فهم من قول مالك : [ ص: 69 ] " لا تأخذ الحديث عن صاحب هوى يدعو إلى هواه " التفصيل ، ونازعه القاضي عياض ; فإن المعروف عنه الرد مطلقا ، يعني كما تقدم ، وإن كانت هذه العبارة محتملة ، وبالجملة فقد قال شيخنا : إن ابن حبان أغرب في حكاية الاتفاق ، ولكن يشترط مع هذين ، أعني كونه صدوقا غير داعية ، أن لا يكون الحديث الذي يحدث به مما يعضد بدعته ويشدها ويزينها ; فإنا لا نأمن حينئذ عليه غلبة الهوى ، أفاده شيخنا .

وإليه يومئ كلام ابن دقيق العيد الماضي ، بل قال شيخنا : إنه قد نص على هذا القيد في المسألة الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ النسائي ، فقال في مقدمة كتابه في الجرح والتعديل : ومنهم زائغ عن الحق ، صدوق اللهجة ، قد جرى في الناس حديثه ، لكنه مخذول في بدعته ، مأمون في روايته ، فهؤلاء ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يعرف وليس بمنكر ، إذا لم تقو به بدعتهم فيتهمون بذلك .

( و ) قد ( رووا ) أي : الأئمة النقاد كالبخاري ومسلم ، أحاديث ( عن ) جماعة ( أهل بدع ) بسكون الدال ( في الصحيح ) على وجه الاحتجاج ; لأنهم ( ما دعوا ) إلى بدعهم ، ولا استمالوا الناس إليها ، منهم خالد بن مخلد ، وعبيد الله بن موسى العبسي ، وهما ممن [ ص: 70 ] اتهم بالغلو في التشيع ، وعبد الرزاق بن همام ، وعمرو بن دينار ، وهما بمجرد التشيع ، وسعيد بن أبي عروبة ، وسلام بن مسكين ، وعبد الله بن أبي نجيح المكي ، وعبد الوارث بن سعيد ، وهشام الدستوائي ، وهم ممن رمي بالقدر ، وعلقمة بن مرثد ، وعمرو بن مرة ، ومحمد بن خازم أبو معاوية الضرير ، ومسعر بن كدام ، وهم ممن رمي بالإرجاء .

وكالبخاري وحده لعكرمة مولى ابن عباس ، وهو ممن نسب إلى الإباضية من آراء الخوارج ، وكمسلم وحده لأبي حسان الأعرج ، ويقال إنه كان يرى رأي الخوارج .

وكذا أخرجا لجماعة في المتابعات كداود بن الحصين ، وكان متهما برأي الخوارج ، والبخاري وحده فيها لجماعة ، كسيف بن سليمان وشبل بن عباد ، مع أنهما كانا ممن يرى القدر في آخرين عندهما اجتماعا ، وانفرادا في الأصول والمتابعات ، يطول سردهم ، بل في ترجمة محمد بن يعقوب بن الأخرم من ( تأريخ نيسابور ) للحاكم من قوله : إن كتاب مسلم ملآن من الشيعة ، مع ما اشتهر من قبول الصحابة رضي الله عنهم أخبار الخوارج وشهاداتهم ، ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل ، ثم استمرار عمل التابعين والخالفين ، فصار ذلك - كما قال الخطيب - كالإجماع منهم ، وهو أكبر الحجج في هذا الباب ، وبه يقوى الظن في مقاربة الصواب .

وربما تبرأ بعضهم مما نسب إليه ، أو [ لم يثبت عنه ، أو ] رجع وتاب .

فإن قيل : قد خرج البخاري لعمران بن حطان السدوسي الشاعر الذي قال فيه أبو العباس المبرد : إنه كان رأس العقد من الصفرية وفقيههم وخطيبهم [ ص: 71 ] وشاعرهم ، مع كونه كان داعية إلى مذهبه ، فقد مدح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي ، وذلك من أكبر الدعوة إلى البدعة .

وأيضا فالقعدية قوم من الخوارج كانوا يقولون بقولهم ولا يرون بالخروج ، بل يدعون إلى آرائهم ويزينون مع ذلك الخروج ويحسنونه ، وكذا لعبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني ، مع قول أبي داود فيه : إنه كان داعية إلى الإرجاء . فقد أجيب عن التخريج لأولهما بأجوبة :

أحدها : أنه إنما خرج له ما حمل عنه قبل ابتداعه .

ثانيها : أنه رجع في آخر عمره عن هذا الرأي . وكذا أجيب بهذا عن تخريج الشيخين معا لشبابة بن سوار مع كونه داعية .

ثالثها : وهو المعتمد المعول عليه ، أنه لم يخرج له سوى حديث واحد مع كونه في المتابعات ، ولا يضر فيها التخريج لمثله .

وأجاب شيخنا عن التخريج لثانيهما بأن البخاري لم يخرج له سوى حديث واحد قد رواه مسلم من غير طريق الحماني ، فبان أنه لم يخرج له إلا ما له [ ص: 72 ] أصل .

هذا كله في البدعة غير المكفرة ، أما المكفرة وفي بعضها ما لا شك في التكفير به كمنكري العلم بالمعدوم ، القائلين ما يعلم الأشياء حتى يخلقها ، أو بالجزئيات ، والمجسمين تجسيما صريحا ، والقائلين بحلول الإلهية في علي أو غيره .

وفي بعضها ما اختلف فيه ، كالقول بخلق القرآن والنافين للرؤية ، فلم يتعرض ابن الصلاح للتنصيص على حكاية خلاف فيها .

وكذا أطلق القاضي عبد الوهاب في الملخص ، وابن برهان في الأوسط عدم القبول ، وقالا : لا خلاف فيه . نعم ، حكى الخطيب في الكفاية عن جماعة من أهل النقل والمتكلمين أن أخبار أهل الأهواء كلها مقبولة ، وإن كانوا كفارا أو فساقا بالتأويل .

وقال صاحب ( المحصول ) : الحق أنه إن اعتقد حرمة الكذب قبلنا روايته ; لأن اعتقاده - كما قدمت - يمنعه من الكذب ، وإلا فلا .

قال شيخنا : والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعة ; لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة ، وقد تبالغ فتكفرها ، فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف .

فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمرا متواترا من الشرع ، معلوما من [ ص: 73 ] الدين بالضرورة ; أي : إثباتا ونفيا ، فأما من لم يكن بهذه الصفة ، وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه ، فلا مانع من قبوله .

وقال أيضا : والذي يظهر أن الذي يحكم عليه بالكفر من كان الكفر صريح قوله ، وكذا من كان لازم قوله ، وعرض عليه فالتزمه ، أما من لم يلتزمه وناضل عنه ; فإنه لا يكون كافرا ، ولو كان اللازم كفرا ، وينبغي حمله على غير القطعي ; ليوافق كلامه الأول .

وسبقه ابن دقيق العيد فقال : الذي تقرر عندنا أنه لا تعتبر المذاهب في الرواية ; إذ لا نكفر أحدا من أهل القبلة إلا بإنكار قطعي من الشريعة ، فإذا اعتبرنا ذلك انضم إليه الورع والتقوى فقد حصل معتمد الرواية ، وهذا مذهب الشافعي حيث يقبل شهادة أهل الأهواء ، قال : وأعراض المسلمين حفرة من حفر النار ، وقف على شفيرها طائفتان من الناس : المحدثون والحكام ، فأشار بذلك إلى أنهم من أهل القبلة فتقبل روايتهم ، كما نرثهم ونورثهم ، وتجرى عليهم أحكام الإسلام .

وممن صرح بذلك النووي ، فقال في الشهادات من ( الروضة ) : جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة .

وقال في شروط الأئمة منها : ولم يزل السلف والخلف على الصلاة خلف المعتزلة وغيرهم ، [ ص: 74 ] ومناكحتهم ، وإجراء أحكام الإسلام عليهم .

وقد قال الشافعي في الأم : ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث إلى أمور تباينوا فيها تباينا شديدا ، واستحل بعضهم من بعض بما تطول حكايته ، وكان ذلك متقادما منه ما كان في عهد السلف وإلى اليوم ، فلم نعلم من سلف الأئمة من يقتدى به ، ولا من بعدهم من التابعين رد شهادة أحد بتأويل ، وإن خطأه وضلله ورآه استحل ما حرم الله عليه فلا يرد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمل ، وإن بلغ فيه استحلال المال والدم ، انتهى .

وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما رويناه عنه : " لا تظنن بكلمة خرجت من في امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا " .

التالي السابق


الخدمات العلمية