فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ ص: 81 ]

304 - ومن روى عن ثقة فكذبه فقد تعارضا ولكن كذبه      305 - لا تثبتن بقول شيخه فقد
كذبه الآخر فاردد ما جحد      306 - وإن يرده ب " لا أذكر " أو
ما يقتضي نسيانه فقد رأوا      307 - الحكم للذاكر عند المعظم
وحكي الإسقاط عن بعضهم      308 - كقصة الشاهد واليمين إذ
نسيه سهيل الذي أخذ      309 - عنه فكان بعد عن ربيعه
عن نفسه يرويه لن يضيعه      310 - والشافعي نهى ابن عبد الحكم
يروي عن الحي لخوف التهم

[ إنكار الأصل تحديث الفرع ] العاشر : في إنكار الأصل تحديث الفرع بالتكذيب أو غيره .

( ومن روى ) من الثقات ( عن ) شيخ ( ثقة ) أيضا حديثا ( فكذبه ) المروي عنه صريحا ، كقوله : كذب علي ( فقد تعارضا ) في قولهما ; كالبينتين إذا تكاذبتا ; فإنهما يتعارضان ; إذ الشيخ قطع بكذب الراوي ، والراوي قطع بالنقل ، ولكل منهما جهة ترجيح ، أما الراوي فلكونه مثبتا ، وأما الشيخ فلكونه نفى ما يتعلق به في أمر يقرب من المحصور غالبا .

( ولكن كذبه ) أي : الراوي ( لا تثبتن ) بنون التأكيد الخفيفة من أثبت ( بقول شيخه ) هذا ، بحيث يكون جرحا ; فإن الجرح كذلك لا يثبت بغير مرجح ، وأيضا ( فقد كذبه الآخر ) أي : كذب الراوي الشيخ بالتصريح إن فرض أنه قال : كذب ، بل سمعته منه ، أو بما يقوم مقام التصريح ، وهو جزمه بكون الشيخ حدثه به ; لأن ذلك قد يستلزم تكذيبه في دعواه أنه كذب عليه ، وليس قبول قول أحدهما بأولى من الآخر .

وأيضا فكما قال التاج السبكي : عدالة كل واحد منهما متيقنة ، وكذبه مشكوك فيه ، واليقين لا يرفع بالشك ، فتساقطا ، كرجل قال لامرأته : إن كان هذا الطائر غرابا فأنت طالق ، وعكس آخر ، ولم يعرف الطائر ; فإنه لا يمنع واحد منهما من غشيان امرأته مع أن إحدى المرأتين طالق ، وهذا بخلاف الشاهد ; فإن الماوردي قال : إن تكذيب الأصل جرح للفرع ، والفرق غلظ باب [ ص: 82 ] الشهادة وضيقه ، وكأنه أراد في خصوص تلك الشهادة ليوافق غيره .

( و ) إذا تساقطا في مسألتنا ( فاردد ) أيها الواقف عليه ( ما جحد ) الشيخ من المروي خاصة ; لكذب واحد منهما لا بعينه ، ولكن لو حدث به الشيخ نفسه أو ثقة غير الأول عنه ، ولم ينكره عليه ، فهو مقبول ، كل هذا إذا صرح بالتكذيب ، فإن جزم بالرد بدون تصريح كقوله : ما رويت هذا ، أو ما حدثت به قط ، أو أنا عالم أنني ما حدثتك ، أو لم أحدثك ، فقد سوى ابن الصلاح تبعا للخطيب وغيره بينهما أيضا ، وهو الذي مشى عليه شيخنا في توضيح النخبة ، لكنه قال في الفتح : إن الراجح عندهم ; أي : المحدثين ، القبول .

وتمسك بصنيع مسلم ; حيث أخرج حديث عمرو بن دينار عن أبي معبد عن ابن عباس : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير ، مع قول أبي معبد لعمرو : لم أحدثك به ; فإنه دل على أن مسلما كان يرى صحة الحديث ، ولو أنكره راويه إذا كان الناقل عنه عدلا .

وكذا صحح الحديث البخاري وغيره ، وكأنهم حملوا الشيخ في ذلك على النسيان كالصيغ التي بعدها .

ويؤيده قول الشافعي رحمه الله في هذا الحديث بعينه : كأنه نسي بعد أن حدثه ، [ ص: 83 ] بل قال قتادة حين حدث عن كثير بن [ أبي كثير عن ] أبي سلمة عن أبي هريرة بشيء ، وقال كثير : ما حدثت بهذا قط ، إنه نسي ، لكن إلحاق هذه الألفاظ بالصورة الأولى أظهر .

ولعل تصحيح هذا الحديث بخصوصه لمرجح اقتضاه تحسينا للظن بالشيخين ، لا سيما وقد قيل ، كما أشار إليه الفخر الرازي : إن الرد إنما هو عند التساوي ، فلو رجح أحدهما عمل به . قال شيخنا : وهذا الحديث من أمثلته .

هذا مع أن شيخنا قد حكى عن الجمهور من الفقهاء في هذه الصورة القبول ، وعن بعض الحنفية ورواية عن أحمد الرد قياسا على الشاهد .

وبالجملة ، فظاهر صنيع شيخنا اتفاق المحدثين على الرد في صورة التصريح بالكذب ، وقصر الخلاف على هذه ، وفيه نظر ، فالخلاف موجود ، فمن متوقف ، ومن قائل بالقبول مطلقا ، وهو اختيار ابن السبكي ، تبعا لأبي المظفر بن السمعاني ، وقال به أبو الحسين بن القطان ، وإن كان الآمدي والهندي حكيا الاتفاق على الرد من غير تفصيل ، وهو مما يساعد ظاهر صنيع [ ص: 84 ] شيخنا في الصورة الأولى ، وينازع في الثانية .

ويجاب بأن الاتفاق في الأولى والخلاف في الثانية بالنظر للمحدثين خاصة .

وأما لو أنكر الشيخ المروي بالفعل كأن عمل بخلاف الخبر ، فقد تقدم في الفصل السادس قريبا أنه لا يقدح في الخبر ، ولا في راويه ، وكذا إذا ترك العمل به ، وهل يسوغ عمل الراوي نفسه به بحيث لم نقبله منه ؟ الظاهر نعم إذا كان أهلا ، قياسا على ما سيأتي في سادس أنواع التحمل فيما إذا أعلم الشيخ الطالب بأن هذا مرويه ، ولكن منعه من روايته عنه ; إذ لا فرق ، هذا كله إذا لم يذكر الشيخ أن المروي ليس من حديثه أصلا ، فإن صرح بذلك فلا ، حتى لو رواه ثانيا لا يقبل منه ، بل ذاك مقتض لجرحه .

وفيه نظر ، ثم إن ما تقدم فيما يرده الشيخ بالصريح ، أو ما يقوم مقامه كما شرح ( و ) إما ( إن يرده ب ) قوله : ( لا أذكر ) هذا ، أو لا أعرف أني حدثته به ( أو ) نحوهما من الألفاظ التي فيها ( ما يقتضي نسيانه ) ، كيغلب على ظني أنني ما حدثته بهذا ، أو لا أعرف أنه من حديثي ، والراوي جازم به ( فقد رأوا ) أي : الجمهور من المحدثين ، قبوله ( الحكم ل ) الراوي ( الذاكر ) كما هو ( عند المعظم ) من الفقهاء والمتكلمين ، وصححه غير واحد ، منهم الخطيب [ ص: 85 ] وابن الصلاح وشيخنا ، بل حكى فيه اتفاق المحدثين ; لأن الفرض أن الراوي ثقة جزما ، فلا يطعن فيه بالاحتمال ; إذ المروي عنه غير جازم بالنفي ، بل جزم الراوي عنه وشكه هو قرينة لنسيانه ( وحكي الإسقاط ) في المروي وعدم القبول ( عن بعضهم ) بكسر الميم ; أي : بعض العلماء ، وهم قوم من الحنفية كما قال ابن الصلاح ، ونسبه النووي في شرح مسلم للكرخي منهم ، بل حكاه ابن الصباغ في العدة عن أصحاب أبي حنيفة ، لكن في التعميم نظر ، إلا أن يريد المتأخرين منهم ، لا سيما وسيأتي في المسألة الثانية من صفة رواية الحديث وأدائه عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن أنه إذا وجد سماعه في كتابه وهو غير ذاكر لسماعه يجوز له روايته .

ويتأيد بقول الكيا الطبري : إنه لا يعرف لهم في مسألتنا بخصوصها كلام [ ص: 86 ] إلا إن أخذ من ردهم حديث : ( ( إذا نكحت المرأة بغير إذن وليها فنكاحها باطل ) ) الذي ذكره ابن الصلاح من أمثلة من حدث ونسي .

وذكر الرافعي في الأقضية أن القاضي ابن كج حكاه وجها عن بعض الأصحاب ، ونقله شارح اللمع عن اختيار القاضي أبي حامد المروروذي ، وأنه قاسه على الشاهد . وتوجيه هذا القول أن الفرع تبع للأصل في إثبات الحديث بحيث إذا أثبت الأصل الحديث ثبتت رواية الفرع ، فكذلك ينبغي أن يكون فرعا عليه وتبعا له في النفي .

ولكن هذا متعقب ; فإن عدالة الفرع يقتضي صدقه ، وعدم علم الأصل لا ينافيه ، فالمثبت الجازم مقدم على النافي ، خصوصا الشاك .

قال شيخنا : وأما قياس ذلك بالشهادة ، يعني على الشهادة ، إذا ظهر توقف الأصل ، ففاسد ; لأن شهادة الفرع لا تسمع مع القدرة على شهادة الأصل ، بخلاف الرواية ، فافترقا ، على أن بعض المتأخرين - كما حكاه البلقيني - قد أجرى في الشهادة على الشهادة الوجهين فيما لو لم ينكر الحاكم حكمه بل [ ص: 87 ] توقف ، والأوفق هناك لقول الأكثرين قبول الشهادة بحكمه ، فاستويا .

وفي المسألة قول آخر ، وهو إن كان الشيخ رأيه يميل إلى غلبة النسيان ، أو كان ذلك عادته في محفوظاته ، قبل الذاكر الحافظ ، وإن كان رأيه يميل إلى جهله أصلا بذلك الخبر رد ، فقلما ينسى الإنسان شيئا حفظه نسيانا لا يتذكره بالتذكير ، والأمور تبنى على الظاهر لا على النادر ، قاله ابن الأثير وأبو زيد الدبوسي .

وقد صنف الدارقطني ، ثم الخطيب : ( من حدث ونسي ) ، وفيه ما يدل على تقوية المذهب الأول الصحيح ; لكون كثير منهم حدث بأحاديث ، ثم لما عرضت عليه لم يتذكرها ، لكن لاعتمادهم على الرواة عنهم صاروا يروونها عن الذي رواها عنهم عن أنفسهم . ولذلك أمثلة كثيرة ; ( كقصة ) حديث ( الشاهد واليمين ) ، الذي لفظه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد .

( إذ نسيه سهيل ) ابن أبي صالح ( الذي أخذ ) أي : حمل ( عنه ) عن أبيه عن أبي هريرة ( فكان ) سهيل ( بعد ) بضم الدال على البناء ( عن ربيعه ) هو ابن أبي عبد الرحمن ( عن نفسه يرويه ) ، فيقول : أخبرني ربيعة ، وهو عندي ثقة ، أنني حدثته إياه ولا أحفظه ، قال عبد العزيز الدراوردي : وقد كان أصابت سهيلا علة أذهبت بعض عقله ، ونسي بعض [ ص: 88 ] حديثه ، فكان يحدث به عمن سمعه منه . وفائدته سوى ما تضمنته من شدة الوثوق بالراوي عنه - مما لم يذكره ابن الصلاح - الإعلام بالمروي ، وكونه ( لن يضيعه ) بضم أوله من أضاع ; إذ بتركه لروايته يضيع .

ومن ظريف ما اتفق في المعنى أن أبا القاسم بن عساكر ، وهو أستاذ زمانه حفظا وإتقانا وورعا ، حدث قال : سمعت سعيد بن المبارك الدهان ببغداد يقول : رأيت في النوم شخصا أعرفه ينشد صاحبا له :


أيها الماطل ديني     أملي وتماطل
علل القلب فإني     قانع منك بباطل

وحدث ابن عساكر بهذا صاحبه الحافظ أبا سعد بن السمعاني ، قال أبو سعد : فرأيت ابن الدهان ، فعرضت ذلك عليه ، فقال : ما أعرفه . قال أبو سعد : وابن عساكر من أكمل من رأيت ، جمع له الحفظ والمعرفة والإتقان ، ولعل ابن الدهان نسي ، ثم كان ابن الدهان بعد ذلك يرويه عن أبي سعد عن ابن عساكر عن نفسه .

قال الخطيب في الكفاية : ولأجل أن النسيان غير مأمون على الإنسان ، بحيث يؤدي إلى جحود ما روي عنه ، وتكذيب الراوي له ، كره من كره من العلماء التحديث عن الأحياء ، منهم الشعبي ; فإنه قال لابن عون : لا تحدثني عن الأحياء . ومعمر ; فإنه قال لعبد الرزاق : إن قدرت أن لا تحدث عن حي فافعل .

( والشافعي ) بالإسكان ( نهى ابن عبد الحكم ) ، هو محمد بن عبد الله ( يروي ) أي : عن الرواية ، [ ص: 89 ] ( عن الحي ) ، وهو كما [ أشار إليه الخطيب قريبا ] دون ابن الصلاح ( ل ) أجل ( خوف التهم ) إذا جزم الشيخ بالنفي ، وذلك فيما رويناه في مناقبه والمدخل ، كلاهما للبيهقي ، من طريق أبي سعيد الجصاص عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : سمعت من الشافعي حكاية ، فحكيتها عنه ، فنميت إليه ، فأنكرها ، قال : فاغتم أبي ; أي : لذلك غما شديدا ، وكنا نجله ، فقلت له : يا أبت ، أنا أذكره لعله يتذكر ، فمضيت إليه ، فقلت له : يا أبا عبد الله ، أليس تذكر يوم كذا وكذا في الإملاء على الكلمة ؟ فذكرها ، ثم قال لي : يا محمد ، لا تحدث عن الحي ; فإن الحي لا يؤمن عليه أن ينسى .

لكن قد قيد بعض المتأخرين الكراهة بما إذا كان له طريق آخر سوى طريق الحي ، أما إذا لم يكن له سواها وحدثت واقعة فلا معنى للكراهة ; لما في الإمساك من كتم العلم ، وقد يموت الراوي قبل موت المروي عنه ، فيضيع العلم [ إن لم يحدث به غيره ] ، وهو حسن ; إذ المصلحة محققة ، والمفسدة مظنونة ، كما قدمناه في قبول المبتدع فيما لم نره من حديث غيره ، من أن مصلحة تحصيل ذاك المروي مقدمة على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته .

وكذا يحسن تقييد مسألتنا بما إذا كانا في بلد واحد ، أما إن كانا في بلدين فلا ; لاحتمال أن يكون [ الحامل له على الإنكار النفاسة ] مع قلتها بين المتقدمين ، وقد حدث عمرو بن دينار عن الزهري بشيء ، وسئل الزهري عنه [ ص: 90 ] فأنكره ، وبلغ ذلك عمرا ، فاجتمع بالزهري فقال له : " يا أبا بكر ، أليس قد حدثتني بكذا ؟ فقال : ما حدثتك ، ثم قال : والله ، ما حدثت به وأنا حي إلا أنكرته ، حتى توضع أنت في السجن " .

وقد أوردت القصة في السادس من المسلسلات . وروى البخاري في الأحكام عن حماد بن حميد عن عبيد الله بن معاذ حديثا ، ووجد في بعض النسخ وصفه بصاحب لنا ، وإن عبيد الله كان في الأحياء حينئذ .

التالي السابق


الخدمات العلمية