فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ ص: 43 ] [ تردد ابن الصلاح في التفضيل ] ولكون ابن الصلاح لم يقف على كلام ابن حزم ، تردد في جهة التفضيل .

وقال ما معناه : إن كان المراد أن كتاب مسلم يترجح بأنه لم يمازجه غير الصحيح ، يعني بخلاف البخاري ، فإنه أودع تراجم أبوابه كثيرا من موقوفات الصحابة والتابعين وغير ذلك ، فهذا لا بأس به ، لكن لا يلزم منه المدعى ، أو أن الأرجحية من حيثية الصحة فمردود على قائله .

وأما المنقول عن أبي علي فلفظه كما رويناه من طريق ابن منده المذكور عنه : ( ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم ) . وهو كما أشار إليه شيخنا محتمل للمدعى ، أو لنفي الأصحية خاصة دون المساواة .

فقد قال ابن القطاع في شرح ديوان المتنبي : ذهب من لا يعرف معاني الكلام إلى أن مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ما أقلت الغبراء ، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر مقتضاه أن يكون أبو ذر أصدق العالم أجمع .

قال : وليس المعنى كذلك ، وإنما نفى أن يكون أحد أعلى رتبة في الصدق منه ، ولم ينف أن يكون في الناس مثله في الصدق ، ولو أراد ما ذهبوا إليه ، لقال : أبو ذر أصدق من كل من أقلت .

والحاصل أن قول القائل : فلان أعلم أهل البلد بفن كذا ، ليس كقوله : ما في البلد أعلم من فلان بفن كذا ; لأنه في الأول أثبت له الأعلمية ، وفي الثاني نفى أن يكون في البلد أحد أعلم منه ، فيجوز أن يكون [ ص: 44 ] فيها من يساويه فيه .

قال : وإذا كان لفظ أبي علي محتملا لكل من الأمرين ، لم يحسن أن ينسب إليه الجزم بالأصحية ، يعني كما فعل جماعة منهم النووي في شرح مسلم وغيره ; حيث قال : وقال أبو علي : كتاب مسلم أصح . وقد سبقه كل من شيخيه : المؤلف ، والعز ابن جماعة إلى الإرشاد لذلك .

بل لعدم صراحة مثل ذلك ، قال الإمام أحمد : ما تروي عن أثبت من هشام الدستوائي ، أما مثله فعسى .

ويتأيد كل هذا بحكاية التساوي ، قولا ثالثا في المسألة ، بل فيها رابع ، وهو الوقف ; إذا علم هذا ، فدليل الجمهور إجمالي وتفصيلي .

[ دليل قول الجمهور ] أما الإجمالي : فاتفاقهم على أن البخاري كان أعلم بالفن من مسلم ، وأنه تلميذه وخريجه ، حتى قال الدارقطني : لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء .

[ ص: 45 ] ولكن قد يقال : لا يلزم من ذلك أرجحية المصنف ، كما أنه لا يستلزم المرجوحية ، ويجاب بأنه الأصل ، ومن ثم اتجه تعلق الأولية بالمقصود .

وقول النووي : إن كتاب البخاري أكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة .

وأما التفصيلي : فالإسناد الصحيح مداره على الاتصال وعدالة الرواة ، وكتاب البخاري أعدل رواة وأشد اتصالا . وبيانه أن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وخمسة وثلاثون رجلا ، المتكلم فيه بالضعف منهم نحو من ثمانين .

والذين انفرد مسلم بإخراج حديثهم دون البخاري ستمائة وعشرون رجلا ، المتكلم فيه منهم مائة وستون رجلا على الضعف من كتاب البخاري ، ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلا أولى من التخريج عمن تكلم فيه ، ولو كان ذلك غير شديد .

وأيضا فالذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه ، لم يكثر من تخريج أحاديثهم بخلاف مسلم ، والذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وخبرهم وخبر حديثهم بخلاف مسلم ، فأكثر من ينفرد به ممن تكلم فيه من المتقدمين .

ولا شك أن المرء أعرف بحديث شيوخه من حديث غيرهم ممن تقدم ، وأكثر هؤلاء الذين تكلم فيهم من المتقدمين يخرج البخاري أحاديثهم غالبا في الاستشهادات ونحوها ، بخلاف مسلم .

وأما ما يتعلق بالاتصال : فمسلم كان مذهبه - بل نقل فيه الإجماع في أول صحيحه - أن الإسناد المعنعن له حكم الاتصال ، إذا تعاصر المعنعن والمعنعن عنه ، وإن لم يثبت اجتماعهما ، والبخاري لا يحمله على الاتصال ، حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة واحدة .

[ ص: 46 ] ولذا قال النووي : وهذا المذهب يرجح كتاب البخاري ، قال : وإن كنا لا نحكم على مسلم بعمله في صحيحه بهذا المذهب ، لكونه يجمع طرقا كثيرة يتعذر معها وجود هذا الحكم الذي جوزه . انتهى .

[ وذلك في الغالب وما عداه فجلالته تنبو عن مشي ما لم يتصل عليه ] .

وما ذكره بعضهم من المرجحات لكتاب مسلم ، سوى ما سلف عن ابن حزم - فهو مع كونه - كما مر - غير مستلزم للأصحية ، معارض بوجود مثله ، أو أحسن منه من نمطه في البخاري مما لا نطيل بإيضاحه هنا .

وقد قال الحافظ الفقيه الإمام النظار أبو بكر الإسماعيلي : ( ( إنه - أي : مسلما - رام ما رام البخاري ، إلا أنه لم يضايق نفسه مضايقته .

وروى عن جماعة لم يتعرض البخاري للرواية عنهم قال : وكل قصد الخير وما هو الصواب عنده ، غير أن أحدا منهم لم يبلغ من التشديد مبلغ أبي عبد الله ، ولا تسبب إلى استنباطه المعاني واستخراج لطائف فقه الحديث وتراجم الأبواب الدالة على ما له وصلة بالحديث المروي فيه تسببه ، ولله الفضل يختص به من يشاء ) ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية