فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء

416 - واختلفوا في صحة السماع من ناسخ فقال بامتناع      417 - الإسفراييني مع الحربي
وابن عدي وعن الصبغي      418 - لا ترو تحديثا وإخبارا قل
حضرت والرازي وهو الحنظلي      419 - وابن المبارك كلاهما كتب
وجوز الحمال والشيخ ذهب      420 - بأن خيرا منه أن يفصلا
فحيث فهم صح أو لا بطلا [ ص: 198 ]      421 - كما جرى للدارقطني حيث عد
إملاء إسماعيل عدا وسرد      422 - وذاك يجري في الكلام أو إذا
هينم حتى خفي البعض كذا      423 - إن بعد السامع ثم يحتمل
في الظاهر الكلمتان أو أقل

الخامس : في النسخ والكلم وغيرهما وقت السماع أو الإسماع ( واختلفوا ) أي : العلماء ( في صحة السماع من ناسخ ) ينسخ حين القراءة ، مسمعا كان أو سامعا ( فقال بامتناع ) ذلك مطلقا في الصورتين الأستاذ الفقيه الأصولي أبو إسحاق ( الإسفراييني ) ، بفتح الفاء وكسر التحتانية ، إذ سئل عنهما معا ( مع ) أبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق ( الحربي و ) أبي أحمد ( بن عدي ) في آخرين ; لأن الاشتغال بالنسخ مخل بالسماع . وعبارة الإسفراييني : فإنه إذا يشتغل به عن الاستماع ، حتى إذا استعيد منه تعذر عليه - انتهى .

وقد قيل السمع للعين ، والإصغاء للأذن ، وقيل : إنه لا يسمى سامعا ، إنما يقال له : جليس العالم . حكي عن جماعة ( و ) نحوه ما جاء ( عن ) أحد أئمة الشافعية بخراسان أبي بكر أحمد بن إسحاق ( الصبغي ) بكسر المهملة بعدها موحدة ثم معجمة نسبة لأبيه ; لكونه كان يبيع الصبغ ، إنه قال : ( لا ترو ) أيها المحدث ما سمعته على شيخك في حال نسخه ، أو أنت تنسخ ( تحديثا و ) لا ( إخبارا ) يعني : لا تقل : ثنا ولا أنا مع إطلاقهما ، بل ( قل حضرت ) ، يعني : كمن أدى ما تحمله وهو صغير قبل فهم الخطاب ورد الجواب ، وإن كان في مسألتنا أعلى .

( و ) لكن أبو [ ص: 199 ] حاتم محمد بن إدريس ( الرازي وهو الحنظلي ) نسبة لدرب حنظلة بالري ، وكفى به حفظا وإتقانا ( وابن المبارك ) عبد الله المروزي ، وكفى به دينا ونسكا وفضلا ( كلاهما ) قد ( كتب ) . أما أولهما ففي حال تحمله عند كل من محمد بن الفضل الملقب عارم وعمر بن مرزوق .

وأما ثانيهما ، ففي حال تحديثه ، وذلك منهما مقتض للجواز ، ومشعر بعدم التنصيص في الأداء على الحضور ( و ) كذا ( جوز ) موسى بن هارون ( الحمال ) بالمهملة ذلك ، بل عزى صحة السماع كذلك للجمهور سعد الخير الأنصاري .

( والشيخ ) ابن الصلاح ( ذهب ) إلى القول ( بأن خيرا منه ) أي : من إطلاق القول بالجواز أو بالمنع ( أن يفصلا فحيث ) صحب الكتابة ( فهم ) يعني : تمييز اللفظ المقروء فضلا عن معناه ( صح ) السماع منه وعليه ( أو لا ) يصحبها ذلك ، وصار كأنه صوت غفل ( بطلا ) هذا السماع ; يعني : وصار حضورا .

وسبقه لذلك سعد الخير الأنصاري ، فقال : إذا لم تمنع الكتابة عن فهم ما قرئ ، فالسماع صحيح - انتهى .

والعمل على هذا ، فقد كان شيخنا ينسخ في مجلس سماعه ثم إسماعه ، بل ويكتب على الفتاوى ويصنف ، ويرد مع ذلك على القارئ ردا مفيدا .

وكذا بلغنا عن الحافظ المزي وغيره ممن قبله وبعده ( كما جرى للدارقطني ) ، نسبة لدار القطن ببغداد ; إذ حضر في حداثته إملاء أبي علي إسماعيل الصفار ، [ ص: 200 ] فرآه بعض الحاضرين ينسخ ، فقال له : لا يصح سماعك وأنت تنسخ ، فقال له الدارقطني : فهمي للإملاء خلاف فهمك ، واستظهر عليه ( حيث عد إملاء إسماعيل ) المشار إليه ( عدا ) ، وإن جملة ما أملاه في ذاك المجلس ثمانية عشر حديثا بعد أن سأل المنكر عليه : أتعلم كم أملى حديثا ؟ فقال له : لا ، ثم لم يكتف الدارقطني بعدها إجمالا بل ساقها على الولاء إسنادا ومتنا ( وسرد ) ذلك أحسن سرد ، فعجب الناس منه . رواها الخطيب في تأريخه ، قال : حدثنا الأزهري قال : بلغني أن الدارقطني ، فذكر معناها .

وقد سمعت شيخنا يحكي عن بعضهم أنه كان يقرنها بما وقع للبخاري ; حيث قلبت عليه الأحاديث ، وبتعجب شيخنا من ذلك ، وهو ظاهر في التعجب ، ثم إن هذا كله فيما إذا وقع النسخ حال التحمل أو الأداء ، فلو وقع ذلك فيهما معا كان أشد ، ووراء هذا قول بعضهم : الخلاف في المسألة لفظي ; فإن المرء لو بلغ الغاية من الحذق والفهم لابد أن يخفى عليه بعض المسموع ، وإنما العبرة بالأكثر ، فمن لاحظ الاحتياط قال : ليس بسامع ، ومن لاحظ التسامح والغلبة عده سامعا ، ورأى أن النسخ إن حجب فهو حجاب رقيق - انتهى . [ وفي تسميته لفظيا مع ذلك توقف ] .

وما قيل في أن السمع للعين قد يخدشه ما رويناه في خامس المحامليات رواية ابن مهدي من حديث كلثوم الخزاعي عن أم سلمة ، أنها كانت تفلي رأس [ ص: 201 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاءت زينب فرفعت طرفها إليها ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ( ( أقبلي على فلايتك ; فإنك لا تكلمينها بعينك ) ) .

ويلتحق بالنسخ الصلاة ، وقد كان الدارقطني يصلي في حال قراءة القارئ عليه ، وربما يشير برد ما يخطئ فيه القارئ ، كما اتفق له حيث قرأ القارئ عليه مرة : يسير بن ذعلوق ، بالياء التحتانية ، فقال له : ن والقلم ، [ ومرة : عمرو بن سعيد ] ، فقال له ياشعيب أصلاتك [ هود : 87 ] .

وقد قال الرافعي في أماليه : كان شيخنا أبو الحسن الطالقاني ربما قرئ عليه الحديث وهو يصلي ، ويصغي إلى ما يقول القارئ ، وينبهه إذا زل ، يعني بالإشارة .

وفي ترجمة أبي الحسن علي بن أحمد بن محمد بن الحسن الإستراباذي من تأريخ سمرقند للنسفي ، أنه كان يكتب الكتاب عامة النهار وهو يقرأ القرآن ظاهرا ، لا يمنعه أحد الأمرين عن الآخر ، بل كان سأل الله تعالى في الكعبة كمال [ ص: 202 ] القوة على قراءة القرآن ، وجماع النسوان ، فاستجيب له الدعوتان .

وهل يلتحق بذلك قراءة قارئين فأكثر في آن واحد ؟ فيه نظر .

وقد قال الذهبي في طبقات القراء : ما أعلم أحدا من المقرئين ترخص في إقراء اثنين فصاعدا إلا الشيخ علم الدين السخاوي . وفي النفس من صحة كمال الرواية على هذا الفعل شيء ; فإن الله ما جعل لرجل من قلبين في جوفه ، قال : وما هذا في قوة البشر ، بل في قدرة الربوبية .

قالت عائشة رضي الله عنها : " سبحان من وسع سمعه الأصوات " ، انتهى .

وممن وصف العلم بذلك ابن خلكان ، فقال : إنه رآه مرارا راكبا إلى الجبل ، وحوله اثنان وثلاثة يقرءون عليه دفعة واحدة في أماكن من القرآن مختلفة ، ويرد على الجميع .

ولما ترجم التقي الفاسي في تأريخ مكة الشمس محمد بن إسماعيل بن يوسف الحلبي ، والد بعض من كتبت عنه ، قال في ترجمته : وكان في بعض الأحايين يقرأ في موضع من القرآن ، ويقرأ عليه في موضع آخر ، ويكتب في موضع آخر ، فيصيب فيما يقرؤه ويكتبه وفي الرد ، بحيث لا يفوته شيء من ذلك ، على ما [ ص: 203 ] بلغني قال : وهذا نحو مما حكي عن بعض القراء أنه كان يسمع ثلاثة نفر يقرءون عليه دفعة واحدة في أماكن مختلفة ، وعيب ذلك على هذا المقرئ .

قلت : وكأنه عنى السخاوي ، وكذا قال شيخنا : إنه شوهد ذلك من الحلبي مرارا - انتهى .

وفيه تساهل وتفريط ، ومقابله في التشدد والإفراط فيه ما حكاه الخطيب في ترجمة الحافظ أبي عبد الله محمد بن علي بن عبد الله بن محمد الصوري ، أنه كان مع كثرة طلبه وكتبه صعب المذهب فيما يسمعه ، ربما كرر قراءة الحديث الواحد على شيخه مرات ( وذاك ) أي : التفصيل المذكور في مسألة النسخ ( يجري في الكلام ) من كل من السامع والمسمع في وقت السماع ، وكذا في إفراط القارئ في الإسراع ( أو إذا هينم ) أي : أخفى صوته ( حتى خفي ) في ذلك كله ( البعض ) ، و ( كذا إن بعد السامع ) عن القارئ ، أو كان في سمعه أو المسمع بعض ثقل ، أو عرض نعاس خفيف بحيث يفوت سماع البعض ( ثم ) مع اعتماد التفصيل في كل ما سلف ( يحتمل ) يعني : يغتفر ( في الظاهر ) [ من صنيعهم في المسموع ] ( الكلمتان ) [ إذا فاتتا ] ( أو أقل ) كالكلمة .

وقد سئل أبو إسحاق الإسفراييني عن كلام السامع أو المسمع غير المتصل ، وعن القراءة السريعة والمدغمة التي تشذ منها الحرف والحرفان ، والإغفاء اليسير ، فأجاب : إذا كانت كلمة لا تلهيه عن السماع جازت الرواية ، وكذا لا يمنع ما ذكر بعد ذلك من السماع ، وإذا لم يكن الإدغام يجوز في اللغة يكون حينئذ تاركا بعض [ ص: 204 ] الكلمة - انتهى .

بل توسعوا حين صار الملحوظ إبقاء سلسلة الإسناد لأكثر من ذلك ، بحيث كان يكتب السماع عند المزي وبحضرته لمن يكون بعيدا عن القارئ ، وكذا للناعس ، والمتحدث ، والصبيان الذين لا ينضبط أحدهم ، بل يلعبون غالبا ولا يشتغلون بمجرد السماع . حكاه ابن كثير .

قال : وبلغني عن القاضي التقي سليمان بن حمزة أنه زجر في مجلسه الصبيان عن اللعب ، فقال : لا تزجروهم ; فإنا إنما سمعنا مثلهم .

وكذا حكي عن ابن المحب الحافظ التسامح في ذلك ، ويقول : كذا كنا صغارا نسمع ، فربما ارتفعت أصواتنا في بعض الأحيان والقارئ يقرأ ، فلا ينكر علينا من حضر المجلس من كبار الحفاظ كالمزي والبرزالي والذهبي وغيرهم من العلماء .

وقال الذهبي : كان شيخنا ابن أبي الفتح يسرع في القراءة ويعرب ، لكنه يدغم بعض ألفاظه ، ومثله ابن حبيب .

وكان شيخنا أبو العباس ، يعني : ابن تيمية ، يسرع ولا يدغم إلا نادرا ، وكان المزي يسرع ويبين ، وربما تمتم يسيرا - انتهى .

[ ص: 205 ] وممن وصف بسرعة السرد مع عدم اللحن والدمج البرزالي ، ومن قبله الخطيب الحافظ ، بحيث قرأ البخاري على إسماعيل بن أحمد النيسابوري الحيري الضرير راويه عن الكشميهني في ثلاثة مجالس : اثنان منهما في ليلتين ، كان يبتدئ بالقراءة وقت المغرب ، ويختم عند صلاة الفجر ، والثالث من ضحوة نهار إلى طلوع الفجر . قال الذهبي : وهذا شيء لا أعلم أحدا في زماننا يستطيعه - انتهى .

وقد قرأه شيخنا في أربعين ساعة رملية ، وصحيح مسلم في أربعة مجالس ، سوى الختم من نحو يومين وشيء ; فإن كل مجلس كان من باكر النهار إلى الظهر .

وأسرع من علمته قرأ من الخطوط المتنوعة في عصرنا مع الصحة ، بحيث لم ينهض الأكابر لضبط شاذة ولا فاذة عليه في الإعراب ، خاصة مع عدم تبييت مطالعة شيخنا ابن خضر ، ولكن ما كان يخلو من هذرمة ، [ وأسرع [ ص: 206 ] ما وقع لي اتفاقا أنني قرأت في جلسة نحوا من خمس ساعات من مواقيت الصلاة في صحيح البخاري إلى الصيام ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية