فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
وبالجملة فكتاباهما أصح كتب الحديث ( و ) لكنهما ( لم يعماه ) أي : لم يستوعبا [ كل الصحيح في كتابيهما ، بل لو قيل : إنهما لم يستوعبا مشروطهما ، [ ص: 47 ] لكان موجها ] وقد صرح كل منهما بعدم الاستيعاب ، فقال البخاري فيما رويناه من طريق إبراهيم بن معقل عنه : ( ( ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح ، وتركت من الصحاح خشية أن يطول الكتاب ) ) .

وقال مسلم : ( ( إنما أخرجت هذا الكتاب ، وقلت : هو صحاح ، ولم أقل : إن ما لم أخرجه من الحديث فيه ضعيف ) ) .

وحينئذ فإلزام الدارقطني لهما في جزء أفرده بالتصنيف بأحاديث رجال من الصحابة رويت عنهم من وجوه صحاح ، تركاها مع كونها على شرطهما ، وكذا قول ابن حبان : ينبغي أن يناقش البخاري ومسلم في تركهما إخراج أحاديث هي من شرطهما - ليس بلازم .

ولذلك قال الحاكم أبو عبد الله : ( ( ولم يحكما ، ولا واحد منهما ، أنه لم يصح من الحديث غير ما خرجه ، قال : وقد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة ، يشمتون برواة الآثار ; بأن جميع ما يصح عندكم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث ) ) .

ونحوه ما ذكره السلفي في معجم السفر " أن بعضهم رأى في [ ص: 48 ] المنام أبا داود صاحب السنن في آخرين مجتمعين ، وأن أحدهم قال : كل حديث لم يروه البخاري ، فاقلب عنه رأس دابتك " .

ومن ثم صرح بعض المغاربة بتفضيل كتاب النسائي على صحيح البخاري ، وقال : إن من شرط الصحة ، فقد جعل لمن لم يستكمل في الإدراك سببا إلى الطعن على ما لم يدخل ، [ وجعل للجدال موضعا ] فيما أدخل . وهو قول شاذ لا يعول عليه حكما وتعليلا .

والحق أنهما لم يلتزما حصر الصحيح فيما أودعاه كتابيهما ( ولكن قل ما ) أي : الذي ( عند ) الحافظ أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن يوسف الشيباني النيسابوري ( ابن الأخرم ) شيخ الحاكم ، وهو بمعجمة ثم مهملة وميم مدغمة في ميم ( منه ) أي : من الصحيح ( قد فاتهما ، ورد ) من ابن الصلاح بقوله : ولقائل أن يقول : ليس ذلك بقليل ، فإنه يصفو من ( مستدرك الحاكم ) عليهما صحيح كثير .

( لكن قال ) الشيخ محيي الدين أبو زكريا ( يحيى ) النووي ( البر ) - لما اجتمع فيه من الزهد والورع وأصناف البر ما فاق فيه ; بحيث قال بعضهم : إنه كان سالكا منهاج الصحابة ، لا يعلم في عصره من سلكه غيره - في كتابه ( ( الإرشاد ) ) بعد قوله : والصحيح قول غير ابن الأخرم : إنه فاتهما كثير ، ويدل عليه المشاهدة .

[ ص: 49 ] قلت : والصواب قول من قال ( لم يفت ) الكتب ( الخمسة ) أصول الإسلام ; وهي : الصحيحان والسنن الثلاثة ( إلا النزر ) يعني القليل ، وكأنه أراد بالقائل الحافظ أبا أحمد بن الفرضي ، فإنه وصف مصنف أبي علي بن السكن مع اشتماله على ما عدا الترمذي منها بأنه لم يبق عليه إلا القليل .

( وفيه ) أي : وفي تصويب النووي رحمه الله أيضا ( ما فيه ) كناية عن ضعفه ( لقول الجعفي ) مولاهم ، البخاري ، حسبما حكاه ابن الصلاح كالمستظهر بظاهره للرد على ابن الأخرم ، ( أحفظ منه ) أي : من الصحيح ( عشر ألف ألف . . ) حديث ، أي : مائة ألف ، كما هي عبارته .

وبقية كلامه : ومائتي ألف حديث غير صحيح . والخمسة فضلا عن الصحيحين دون ذلك بكثير ، وقد يجاب عنهما معا بأن يقال مما أشار إليه ابن الصلاح ( عله ) أي : عل البخاري ، وهي لغة في " لعل " ومنه :

لا تهين الفقير علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه

.

( أراد ) بلوغ العدد المذكور ( بالتكرار لها وموقوف ) يعني بعد المكرر والموقوف ، وكذا آثار الصحابة والتابعين وغيرهم وفتاويهم مما كان السلف يطلقون على كله حديثا ، وحينئذ يسهل الخطب ، فرب حديث له مائة طريق فأكثر .

[ ص: 50 ] وهذا حديث : الأعمال بالنيات نقل - مع ما فيه - عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي أنه كتبه من حديث سبعمائة من أصحاب راويه يحيى بن سعيد الأنصاري .

وقال الإسماعيلي عقب قول البخاري : وما تركت من الصحيح أكثر ، ما نصه : لو أخرج كل حديث عنده ، لجمع في الباب الواحد حديث جماعة من الصحابة ، ولذكر طرق كل واحد منهم إذا صحت .

وقال الجوزقي : إنه استخرج على أحاديث الصحيحين ، فكانت عدته خمسة وعشرين ألف طريق وأربعمائة وثمانين طريقا .

قال شيخنا : وإذا كان الشيخان مع ضيق شرطهما ، بلغ جملة ما في كتابيهما بالمكرر ذلك ، فما لم يخرجاه من الطرق للمتون التي أخرجاها لعله يبلغ ذلك أيضا أو يزيد ، وما لم يخرجاه من المتون من الصحيح الذي على شرطهما لعله يبلغ ذلك أيضا أو يقرب منه ، فإذا انضاف ذلك إلى ما جاء عن الصحابة والتابعين ، بلغ العدة التي يحفظها البخاري ، بل ربما زادت .

وهذا الحمل متعين ، وإلا فلو عدت أحاديث المسانيد ، والجوامع ، والسنن ، والمعاجم والفوائد ، والأجزاء ، وغيرها مما هو بأيدينا صحيحها وغيره - ما بلغت ذلك بدون تكرار - بل ولا نصفه . انتهى .

[ ص: 51 ] وبمقتضى ما تقرر ظهر أن كلام البخاري لا ينافي مقالة ابن الأخرم ، فضلا عن النووي ، وإن كان ابن الصلاح استنتج من ظاهره مع قوله :

التالي السابق


الخدمات العلمية