فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ ص: 253 ]

463 - والخامس التعليق في الإجازه بمن يشاؤها الذي أجازه      464 - أو غيره معينا والأولى
أكثر جهلا وأجاز الكلا      465 - معا أبو يعلى الإمام الحنبلي
مع ابن عمروس وقال : ينجلي      466 - الجهل إذ يشاؤها والظاهر
بطلانها أفتى بذاك طاهر      467 - قلت : وجدت ابن أبي خيثمة
أجاز كالثانية المبهمة      468 - وإن يقل : من شاء يروي قربا
ونحوه الأزدي مجيزا كتبا      469 - أما أجزت لفلان إن يرد
فالأظهر الأقوى الجواز فاعتمد

( و ) النوع ( الخامس ) من أنواع الإجازة : ( التعليق في الإجازه ) ، ولم يفرده ابن الصلاح عن الذي قبله ، بل قال فيه : ويتثبت بذيله الإجازة المعلقة بشرط ، وذكره ، وإفراده حسن ، خصوصا والصورة الأخيرة منه كما سيأتي لا جهالة فيها .

ثم التعليق إما أن يكون ( بمن يشاؤها ) أي : الإجازة ( الذي أجازه ) الشيخ ، يعني أنها معلقة بمشيئة مبهم لنفسه ، كأن يقول : من شاء أن أجيز له فقد أجزت له ، أو أجزت لمن شاء .

وقد كتب أبو الطيب الكوكبي إلى ابن حيويه : سلام عليك ، فقد سألني ابنك محمد بن العباس أن أجيز لك هذا التأريخ الذي حدثنا أحمد بن أبي خيثمة ، وقد أجزته لك ولكل من أحب ذلك ، فاروه عني ومن أحب ذلك ( أو ) يشاؤها ( غيره ) أي : غير المجاز ، حال كونه ( معينا ) ، فهي معلقة [ ص: 254 ] بمشيئة مسمى لغيره ، كأن يقول : من شاء فلان أن أجيزه فقد أجزته ، أو أجزت لمن يشاء فلان ، أو يقول لشخص : أجزت لمن شئت رواية حديثي ، أو نحو ذلك .

وقد ألحق ابن الصلاح بها الصورة الأولى ، لكنه قال : ( والأولى ) أي : التعليق بمشيئة المجاز له المبهم ( أكثر جهلا ) وانتشارا من الثانية ; فإنها معلقة بمشيئة من لا يحصر عددهم ، والثانية بمشيئة معين ، مع اشتراكهما في جهالة المجاز لهم ، فإن كان الغير مبهما ، كأن يقول : أجزت لمن شاء بعض الناس أن يروي عني ، فأكثر جهلا ; لوجود الجهالة فيها في الجهتين ، ولذا كانت فيها بخصوصها باطلة قطعا .

( وأجاز الكلا ) أي : الصورتين المتقدمتين ( معا ) القاضي ( أبو يعلى ) محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء ( الإمام الحنبلي ) والد القاضي أبي الحسين محمد مؤلف طبقات الحنابلة ( مع ابن عمروس ) بفتح أوله وآخره سين مهملة ، هو أبو الفضل محمد بن عبيد الله المالكي ، فيما نقله عنهما الحافظ الخطيب الشافعي في جزء الإجازة للمعدوم والمجهول ( وقالا ) مستدلين للجواز : ( ينجلي الجهل ) فيها في ثاني الحال ( إذ يشاؤها ) أي : الإجازة ، المجاز له .

قلت : ولم أر الاستدلال ولا الصورة الأولى في الجزء المذكور ، ولا عزاها ابن الصلاح لهما ، بل كلامه محتمل لكون الاستدلال له وإن لم يوافق على الصحة فيها ; حيث قال : فهذا فيه جهالة وتعليق بشرط .

( والظاهر بطلانها ) وعدم صحتها ، وقد ( أفتى بذاك ) القاضي أبو الطيب ( طاهر ) بن عبد الله الطبري ; إذ سأله [ ص: 255 ] صاحبه الخطيب عنها ، وعلل ذلك بأنه إجازة لمجهول ، فهو كقوله : أجزت لبعض الناس ، قال : وهؤلاء الثلاثة ، يعني المجيزين والمبطل ، كانوا مشايخ مذاهبهم ببغداد إذ ذاك ، وكذا منعها الماوردي كما نقله عياض ، وقال : لأنه تحمل يحتاج إلى تعيين المتحمل .

قال الخطيب : ولعل من منع صحتها لتعلقها بالوكالة ; فإنه إذا قال : وكلتك إذ جاء رأس الشهر ، لم يصح عند الشافعية ، فكذلك إذا علق الإجازة بمشيئة فلان ، يعني : المعين ، قال ابن الصلاح : وقد يعلل ذلك أيضا بما فيها من التعليق بالشرط ; فإن ما يفسد [ بالجهالة يفسد ] بالتعليق على ما عرف عند قوم .

( قلت ) : ولكن قد ( وجدت ) الحافظ ( ابن أبي خيثمة ) أبا بكر أحمد بن زهير بن حرب ( أجاز ) بكيفيته ( كالثانية المبهمة ) في المجاز فقط ; فإنه قال فيما كتبه بخطه : أجزت لأبي زكريا يحيى بن مسلمة أن يروي عني ما أحب من تأريخي الذي سمعه مني أبو محمد القاسم بن الأصبغ ، ومحمد بن عبد الأعلى ، كما سمعاه مني ، وأذنت له في ذلك ولمن أحب من أصحابه ، [ ص: 256 ] فإن أحب أن تكون الإجازة لأحد بعد هذا فأنا أجزت له ذلك بكتابي هذا .

وكذلك قال محمد بن أحمد بن الحافظ يعقوب بن شيبة بن الصلت : أجزت لعمر بن أحمد الخلال ، وولده عبد الرحمن ، وختنه علي بن الحسن جميع ما فاته من حديثي مما لم يدرك سماعه من المسند وغيره ، ولكل من أحب عمر فليرووه عني إن شاء الله ، حكاه الخطيب ، وقال : وقد رأيت مثل هذه الإجازة لبعض المتقدمين ، إلا أن اسمه ذهب من حفظي ، انتهى .

ولعل ما رآه هو ما حكاه عن ابن أبي خيثمة ، مع أنه قد فعله غيرهما من المتقدمين والمتأخرين .

على أنه قد يفرق بين هذا الصنيع وبين ما تقدم ، بأنه حصل فيه العطف على معين بخلاف ذاك ، وهل يلتحق بالتعليق بمشيئة المعين الإذن له في الإجازة ، كأن يقول : أذنت لك أن تجيز عني من شئت ؟ لم أر فيها نقلا ، إلا ما حكاه شيخنا في ترجمة إبراهيم بن خلف بن منصور الغساني من لسان الميزان ، أنه كانت له وكالات بالإجازة من شيوخ وكلوه في الإذن لمن يريد الرواية عنهم ، قال ابن مسدي : وكنت ممن كتب إلي بالإجازة عنه وعن موكله في سنة ثلاث وستمائة [ ص: 257 ] ( 603 ) ه ، انتهى .

وقد فعله شيخنا ، بل وحكى بعض المتأخرين عن بعض من عاصره أنه فعله ، قال : والظاهر فيه الصحة كما لو قال : وكل عني . ويكون مجازا من جهة الإذن ، وينعزل المأذون له في الإجازة بموت الآذن قبل الإجازة كالوكيل ، فلو قال : أجزت لك أن تجيز عني فلانا ، كان أولى بالجواز ، وقد ذكر ابن الصلاح نظير هذه المسألة في قسم الكتابة كما سيأتي ، ثم إن كل ما تقدم في التعليق لنفس الإجازة .

( وإن يقل : من شاء ) الرواية عني ( يروي ) [ فقد أجزته ] ، وكان التعليق للرواية ( قربا ) القول بصحته . وعبارة ابن الصلاح : أنه أولى بالجواز ، يعني من الذي قبله عند مجيزه ، من حيث إن مقتضى كل إجازة تفويض الرواية بها إلى مشيئة المجاز له ، فكان هذا مع كونه بصيغة التعليق تصريحا بما يقتضيه الإطلاق ، وحكاية للحال لا تعليقا في الحقيقة ، يعني أنه وإن كان شرطا لفظيا فهو لازم حصوله بحصولها ، فكان ذكره وعدم ذكره سواء في عدم التأثير .

واستظهر للأولوية بتجويز بعض الشافعية في البيع ; أي : وهو الأصح كما في الروضة وغيرها ، أن يقول : بعتك هذا بكذا إن شئت ، فيقول : قبلت .

ونوزع في القياس بأن المبتاع معين ، والمجاز له هنا مبهم ، وكذا تعقبه البلقيني بأنه ليس التعليق في مسألة البيع للإيجاب على ما عليه تفرع من جهة التصريح بمقتضى الإطلاق ; فإن المشتري بالخيار ، إن شاء قبل ، وإن شاء لم يقبل ; [ ص: 258 ] لتوقف تمام البيع على قبوله ، بخلافه في الإجازة ، فلا يتوقف على القبول ، فيكون قوله : أجزت لمن شاء الرواية ، تعليقا ; لأنه قبل مشيئة الرواية لا يكون مجازا ، وبعد مشيئتها يكون مجازا .

وحينئذ فلا يصح ; لأنه يؤدي إلى تعليق وجهل ، وذلك باطل كما تقدم . نعم ، نظير ما نحن فيه : وكلت من شاء ، أو أوصيت لمن شاء وأمثالهما مما لا يصح فيها ، قال : وإذا بطل في الوصية مع احتمالها ما لا تحتمله غيرها فلأن يبطل فيما نحن فيه أولى .

قال ابن الصلاح : ( ونحوه ) أي : نحو ما تقدم من تعليق الرواية ، أبو الفتح محمد بن الحسين ( الأزدي ) الموصلي الحافظ ، حال كونه ( مجيزا كتبا ) بخطه فقال : أجزت رواية ذلك لجميع من أحب أن يرويه عني ( أما ) لو قال : ( أجزت ) لك أن تروي عني الكتاب الفلاني ، أو كذا وكذا ، أو فهرستي إن شئت الرواية عني ، أو أجزت لك إن شئت أن تروي عني ، أو أجزت ( لفلان ) الفلاني ( إن يرد ) ، أو يحب الرواية عني ، أو نحو ذلك مما هو نظير مسألة البيع سواء أو يشابهها ( فالأظهر الأقوى ) فيها ( الجواز ) إذ قد انتفت فيه الجهالة وحقيقة التعليق ، ولم يبق سوى صيغته ( فاعتمد ) ذلك .

وإن حكى ابن الأثير المنع فيها عن قوم ; لأنها تحمل ، فيعتبر فيه تعيين المتحمل ، قال : وهذا هو الأجدر بالاحتياط ، والأولى بنجابة المحدث وحفظه - انتهى .

ويشهد له أنه لو قال : راجعتك إن [ ص: 259 ] شئت ، لا تصح الرجعة ، ولو قال : أجزت لفلان إن يرد الإجازة ، فالظاهر - كما قال المصنف - : إنه لا فرق ، وإن لم يصرح ابن الصلاح بتعليق الإجازة في المعين ، فتعليله وبعض أمثلته يقتضي الصحة فيه بعمومه .

واعلم أن نفي ابن الصلاح حقيقة التعليق عن الصورة التي قبل هذه ، إنما يتم لو قال المجيز : أذنت لمن أجزت له في الرواية عني إن شاء ، وإلا فلا فرق بينهما وبين التعليق بمشيئته في الإجازة ، ويتأيد بتسوية المصنف بين إرادة الإجازة أو الرواية في المعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية