فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء

488 - والتاسع الإذن بما أجيزا لشيخه فقيل : لن يجوزا      489 - ورد ، والصحيح الاعتماد
عليه قد جوزه النقاد      490 - أبو نعيم وكذا ابن عقده
والدارقطني ونصر بعده      491 - والى ثلاثا بإجازة ، وقد
رأيت من والى بخمس يعتمد      492 - وينبغي تأمل الإجازه
فحيث شيخ شيخه أجازه      493 - بلفظ ما صح لديه لم يخط
ما صح عند شيخه منه فقط

( و ) النوع ( التاسع ) من أنواع الإجازة : ( الإذن ) أي : الإجازة ( بما أجيزا لشيخه ) المجيز خاصة ، كأن يقول : أجزت لك مجازاتي ، أو رواية ما أجيز لي ، أو ما أبيح لي روايته . واختلف فيه ( فقيل ) كما قال الحافظ أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن البغدادي الحنبلي ، عرف بابن الأنماطي : إنه [ ص: 272 ] ( لن يجوزا ) ، يعني مطلقا ، عطف على الإذن بمسموع أم لا ، وصنف فيه جزءا وحكاه الحافظ أبو علي البرداني ، بفتح الموحدة والمهملتين وقبل ياء النسبة نون ، عن بعض منتحلي الحديث ، ولم يسمه ; لأن الإجازة ضعيفة ، فيقوى ضعفها باجتماع إجازتين ( و ) لكن قد ( رد ) هذا القول حتى قال ابن الصلاح : إنه قول بعض من لا يعتد به من المتأخرين ، والظاهر أنه كنى به عمن أبهمه البرداني ، وإن كان ابن الأنماطي متأخرا عن البرداني بأربعين سنة ، فيبعد إرادته له كونه - كما قال ابن السمعاني - كان حافظا ثقة متقنا ، وقال رفيقه السلفي : كان حافظا ثقة لديه معرفة جيدة ، وقال ابن الجوزي : كنت أقرأ عليه الحديث وهو يبكي ، فاستفدت ببكائه أكثر من استفادتي بروايته ، وانتفعت به ما لم أنتفع بغيره ، وكان على طريقة السلف ، وقال أبو موسى المديني : كان حافظ عصره ببغداد . فمن يكون بهذه المرتبة لا يقال في حقه : إنه لا يعتد به ، وإن قال البلقيني : قيل كأنه يشير إليه ، وجزم به الزركشي مع اعترافه بأنه كان من خيار أهل الحديث .

[ ص: 273 ] وقيل : إن عطف على الإجازة بمسموع صح ، وإلا فلا . أشار إليه بعض المتأخرين ( والصحيح ) الذي عليه العمل ( الاعتماد عليه ) أي : على الإجازة بما أجيز مطلقا ، ولا يشبه ذلك القول بمنع الوكيل من التوكيل بغير إذن الموكل ; فإن الحق في الوكالة للموكل بحيث ينفذ عزله له ، بخلاف الإجازة ; فإنها صارت مختصة بالمجاز له ، لو رجع المجيز عنها لم ينفذ ، وأيضا فإن موضوع الوكالة التوصل إلى تحصيل غرض الموكل على وجه الحظ والمصلحة ، وربما ضاع ذلك بالواسطة ، بل هو الظاهر من أحوال الوسائط ، فلا بد من إذن الموكل في ذلك ، محافظة على التخلص من ذلك المحذور ، بخلاف الإجازة ، فموضوعها التوصل إلى بقاء سلسلة الإسناد مع الإلمام بالغرض من الرواية ، وهو الإذن في الرواية أو التحديث بها ، وهو حاصل تعددت الوسائط أم لا ، بل إنما يتحقق غالبا مع التعدد ; فلذلك لم يحتج إلى إذن من المجيز الأول في الإجازة .

ولذا قال البلقيني : إن القرينة الحالية من إرادة بقاء السلسلة قاضية بأن كل مجيز بمقتضى ذلك آذن لمن أجازه أن يجيزه ، وذلك في الإذن في الوكالة جائز ، يعني حيث وكله فيما لا يمكن تعاطيه بنفسه ، و ( قد جوزه ) أي : ما مر ( النقاد ) ، منهم الحافظ ( أبو نعيم ) الأصبهاني ; فإنه قال فيما سمعه منه الحافظ أبو عمرو السفاقسي المغربي : الإجازة على الإجازة قوية جائزة ( وكذا ) جوزه ( ابن [ ص: 274 ] عقده ) بضم المهملة وقاف ساكنة ثم مهملة وهاء تأنيث ، وهو أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي ، لكن في المعطوف خاصة ، كما اقتضاه صنيعه ; فإنه قال : أجزت لك ما سمعه فلان من حديثي ، وما صح عندك من حديثي ، وكل ما أجيز لي أو قول قلته أو شيء قرأته في كتاب ، وكتبت إليك بذلك فاروه عن كتابي إن أحببت .

( و ) أبو الحسن ( الدارقطني ) فإنه كتب عن أبي الحسن علي بن إبراهيم المستملي ، عرف بالنجاد ، جميع التأريخ الكبير للبخاري بروايته له عن أبي أحمد محمد بن سليمان بن فارس النيسابوري سماعا ما عدا أجزاء يسيرة من آخره ، فإجازة عن مصنفه ، كذلك سماعا وإجازة كما حكى كل ذلك الخطيب ، وعقد له بابا في كفايته .

وقال : إذا دفع المحدث إلى الطالب كتابا وقال له : هذا من حديث فلان ، وهو إجازة لي منه ، وقد أجزت لك أن ترويه عني ، فإنه يجوز له روايته عنه ، كما يجوز ذلك فيما كان سماعا للمحدث ، فأجازه له ، بل نقل الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي الاتفاق بين المحدثين القائلين بصحة الإجازة على صحة الرواية بالإجازة على الإجازة ، ولفظه في جواب أجاب به أبا علي البرداني إذ سأله عن ذلك : لا نعرف خلافا بين القائلين بالإجازة في العمل بإجازة الإجازة على الإجازة ، ثم روى عن الحاكم أبي عبد الله صاحب ( المستدرك ) وغيره ، أنه حدث في تأريخه [ ص: 275 ] عن أبي العباس ، هو الأصم ، إجازة ، قال : وقرأته بخطه فيما أجاز له محمد بن عبد الوهاب ، هو الفراء ، قال المقدسي : وقرأت على أبي إسحاق الحبال الحافظ بمصر عن عبد الغني بن سعيد الحافظ أجازه عن بعض شيوخه إجازة - انتهى .

( و ) الفقيه الزاهد ( نصر ) ، هو ابن إبراهيم المقدسي ( بعده ) أي : بعد الدارقطني ، لم يقتصر على إجازتين ، بل ( والى ) أي : تابع ( ثلاثا ) بعضهم عن بعض ( بإجازة ) ، فقال ابن طاهر : سمعته ببيت المقدس يروي بالإجازة عن الإجازة ، وربما تابع بين ثلاث منها .

وذكر الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر أن أبا الفتح بن أبي الفوارس حدث بجزء من ( العلل ) لأحمد عن أبي علي بن الصواف إجازة ، عن عبد الله بن أحمد كذلك ، عن أبيه كذلك ، قال المصنف : ( وقد رأيت ) غير واحد من الأئمة والمحدثين زادوا على ثلاث أجايز ، فرووا بأربع متوالية ، يعني كأبي طالب محمد [ ص: 276 ] بن علي بن الفتح العشاري الحنبلي الثقة الصالح ، حدث بالإجازة عن ابن أبي الفوارس بالسند الذي قبله ، وأبي الفرج ابن الجوزي ، فكثيرا ما يروي في العلل المتناهية وغيرها من تصانيفه بالإجازة عن أبي منصور بن خيرون عن أبي محمد الجوهري عن أبي الحسن الدارقطني عن أبي حاتم بن حبان ، بل و ( من والى بخمس ) روى بعضهم عن بعض بالإجازة ممن ( يعتمد ) من الأئمة ، وهو الحافظ القطب أبو محمد عبد الكريم الحلبي الحنفي ; فإنه روى في عدة مواضع من تأريخ مصر له عن عبد الغني بن سعيد الأزدي الحافظ بخمس أجايز متوالية .

وكذا حدث الحافظ زكي الدين المنذري بالمحدث الفاصل بخمس أجايز متوالية عن ابن الجوزي ، عن أبي منصور بن خيرون ، عن الجوهري ، عن الدارقطني ، عن مصنفه ; لكونه علا فيه بها درجة عما لو حدث به بالسماع المتصل عن أصحاب السلفي ، عنه ، عن المبارك بن عبد الجبار ، عن [ ص: 277 ] الفالي ، عن النهاوندي ، عن مصنفه .

وحدث الحافظ عبد القاهر الرهاوي في الأربعين الكبرى التي خرجها لنفسه بأثر في الجزء الثاني عن الحافظ أبي موسى المديني إجازة ، عن أبي منصور بن خيرون بسنده الماضي أولا إلى ابن حبان في الضعفاء له ، قال : سمعت ، فذكره ، وقرأ شيخنا بعض الدارقطني على ابن الشيخة ، عن الدبوسي ، عن ابن المقير ، وسنده فقط على ابن قوام ، عن الحجار ، عن القطيعي ، [ ص: 278 ] كلاهما عن الشهرزوري ، عن ابن المهتدي ، عن الدارقطني ، ففي الثاني ست أجايز ، وأعلى ما رأيته من ذلك رواية شيخنا في فهرسته صحيح مسلم لقصد العلو عن العفيف النشاوري إجازة مشافهة عن سليمان بن حمزة ، عن ابن المقير ، عن ابن ناصر ، عن أبي القاسم بن منده ، عن الجوزقي ، عن مكي بن عبدان ، عن مسلم ، قال : وهو جميعه بالإجازات ، وهو عندي أولى مما لو حدثت به عن محمد بن قواليح ، في عموم إذنه للمصريين بسماعه من زينب ابنة كندي ، عن المؤيد الطوسي إجازة ، يعني مع استوائهما في العدد ، قال : لما قدمته من ضعف الرواية بالإجازة العامة - انتهى .

وفي كلام ابن نقطة وغيره ما يقتضي أن الجوزقي سمعه من مكي ، ومكي من مسلم ، فاعتمده ، وإن مشى شيخنا على خلافه ، وكذا أغرب [ ص: 279 ] أبو الخطاب ابن دحية فحدث بصحيح مسلم عن أبي عبد الله بن زرقون ، عن أبي عبد الله الخولاني ، عن أبي ذر الهروي ، عن أبي بكر الجوزقي ، عن أبي حامد بن الشرقي ، عن مسلم ، قال شيخنا : وهذا الإسناد كله بالإجازات ، إلا أن الجوزقي عنده عن أبي حامد بعض الكتاب بالسماع ، وقد حدث بذلك عنه في كتاب المتفق له .

( وينبغي ) ، حيث تقررت الصحة في ذلك وجوبا لمن يريد الرواية كذلك ( تأمل ) كيفية ( الإجازه ) الصادرة من شيخ شيخه لشيخه ، وكذا ممن فوقه لمن يليه ، ومقتضاها خوفا من أن يروي بها ما لم يندرج تحتها ، فربما قيد بعض المجيزين الإجازة ( فحيث شيخ شيخه أجازه ) أي : أجاز شيخه ( بلفظ ) : أجزته ( ما صح لديه ) أي : عند شيخه المجاز فقط ( لم يخط ) أي : لم يتعد الراوي ( ما ) أي : [ الذي ( صح عند شيخه منه ) أي : من مروي المجيز ( فقط ) ] ، حتى لو صح شيء من مروي هذا المجيز عند الراوي عن المجاز له لم يطلع عليه شيخه المجاز له ، أو اطلع عليه ولكن لم يصح عنده ، لا تسوغ له روايته بالإجازة .

[ ص: 280 ] وقد نازع بعضهم في هذا وقال : ينبغي أن تسوغ الرواية بمجرد صحة ذلك عنه ، وإن لم يتبين له أنه كان قد صح عند شيخه ; لأن صحة ذلك قد وجدت ، فلا فرق بين صحته عند شيخه وغيره ، قال : ونظيره ما إذا علق طلاق زوجته برؤيتها الهلال ; فإنه يقع برؤية غيرها حملا على العلم ، وفيه نظر ، وأما ما جرت به العادة في الاستدعاءات من استجازة الشيوخ لمن بها ما صح عندهم من مسموعاتها ، فالضمير في " عندهم " متردد بين المشايخ وبين المستجاز لهم ، ولكن الثاني أظهر ، والعمل عليه ، وكذا لا يسوغ للراوي ، حيث قيد شيخه الإجازة بمسموعاته خاصة ، التعدي إلى ما عنده بالإجازة ، كإجازة أبي الفتح أحمد بن محمد بن أحمد بن سعيد الحداد للحافظ أبي طاهر السلفي ، حيث لم يجز له ما أجيز له ، بل ما سمعه فقط ، ولذا رجع السلفي عن رواية الجامع للترمذي عنه عن إسماعيل بن ينال المحبوبي ، عن مصنفه ; لكون الحداد إنما رواه عن المحبوبي بالكتابة إليه من مرو .

وأخص من هذا من قيدها بما حدث به من مسموعاته فقط ، كما فعله التقي ابن دقيق العيد ; فإنه لم يكن يجيز برواية جميع مسموعاته ، بل بما حدث به منها على ما استقرئ من صنيعه ، [ ونقله أبو حيان في النضار ، وأن صورة إجازته له : أجزت جميع ما أجيز لي وما حدثت به من [ ص: 281 ] مسموعاتي ] ; لكونه كان يشك في بعض سماعاته على ابن المقير ، فتورع عن التحديث به ، بل وعن الإجازة ، فليتنبه لذلك كله ، لا سيما وقد غلط في بعضه غير واحد من الأئمة ، وكثر عثارهم من أجله ; لعدم التفطن له ، ونحوه رواية أبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله الأنصاري البلنسي ، عرف بالأندرشي وبابن اليتيم ، ولم يكن بالمتقن مع كونه رحلة الأندلس ، حيث كتب سنده بصحيح البخاري عن السلفي عن ابن البطر عن ابن البيع عن المحاملي عنه ، مع كونه ليس عند السلفي بهذا السند سوى حديث واحد ، وكذا وهم فيه بعض المتأخرين من الثغر الإسكندري ، بل والكرماني الشارح وآخرون .

فرع : الرواية بالإجازة عن شيخ سمع شيخه ، وبالسماع من شيخ أجيز من شيخ الأول ، ينزلان منزلة السماع المتصل .

[ ثم إن كل ما سلف في توالي الإجازة الخاصة ، أما العامة فنقل ابن الجزري عن شيخه الحافظ أبي بكر بن المحب منعه ، وأنه كان يقول : هي [ ص: 282 ] عدم على عدم ، وعن شيخه ابن كثير أنه كان يقول : أنا أروي صحيح مسلم عن الدمياطي إذنا عاما من المؤيد الطوسي ، كذلك قال : وما رأيت أحدا عمل به ، ولا سمعته من غيره . والله أعلم ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية