فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
لفظ الإجازة وشرطها


494 - أجزته ابن فارس قد نقله وإنما المعروف قد أجزت له      495 - وإنما تستحسن الإجازه
من عالم به ومن أجازه      496 - طالب علم والوليد ذا ذكر
عن مالك شرطا وعن أبي عمر      497 - أن الصحيح أنها لا تقبل
إلا لماهر وما لا يشكل      498 - واللفظ إن تجز بكتب أحسن
أو دون لفظ فانو وهو أدون

( لفظ الإجازة ) أي : كيفيته ( وشرطها ) في المجيز والمجاز والنية لمن كتب بها ، وكان الأنسب إيراده قبل أنواعها مع اشتقاقها وضابطها ووزنها الذي ذكرته هناك ، فأما لفظها ف ( أجزته ) أي : الطالب ، مسموعاتي أو مروياتي ، متعديا بنفسه وبدون ذكر لفظ الرواية أو نحوه الذي هو المجاز به حقيقة ( ابن فارس ) أبو الحسين أحمد اللغوي صاحب ( المجمل ) وغيره ، والقائل :


اسمع مقالة ناصح     جمع النصيحة والمقه
إياك فاحذر أن تبيت     من الثقات على ثقه

والمقتبس منه الحريري في مقاماته ، وضع المسائل الفقهية في المقامة [ ص: 283 ] الطيبية ( قد نقله ) أي : تعديه بنفسه في جزء له سماه : مآخذ العلم ; فإنه قال : معنى الإجازة في كلام العرب مأخوذ من جواز الماء الذي يسقاه المال من الماشية والحرث ، يقال منه : استجزت فلانا فأجازني ، إذا سقاك ماء لأرضك أو ماشيتك ، كذلك طالب العلم يسأل العالم أن يجيزه علمه ; أي : يجيز إليه علمه ، فيجيزه إياه ، قال ابن الصلاح : ( وإنما المعروف ) يعني : لغة واصطلاحا ، أن يقول : ( قد أجزت له ) رواية مسموعاتي ، يعني متعديا بحرف الجر وبدون إضمار ، قال : وهذا يحتاج إليه من يجعل الإجازة بمعنى التسويغ والإذن والإباحة ، قال : ومن يقول : أجزت له مسموعات ، فعلى سبيل الإضمار للمضاف الذي لا يخفى نظيره ، وحينئذ ففي الأول الإضمار والحذف دون الثاني الذي هو أظهر وأشهر ، وفي الثالث الإضمار فقط .

( و ) أما شرط صحتها فقال ابن الصلاح : ( إنما تستحسن الإجازة من عالم به ) أي : بالمجاز ( ومن أجازه ) أي : والحال أن المجاز له ( طالب علم ) أي : من أهل العلم ، كما هي عبارة ابن الصلاح ; إذ المرء ولو بلغ الغاية في العلم لا يزال لله طالبا ، ويروى أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( ( كل عالم غرثان إلى علم ) ) أي : جائع ، [ ص: 284 ] وقال أيضا : ( ( أربع لا يشبعن من أربع ، فذكر منها : وعالم من علم ) ) ، وقل رب زدني علما ; لأن الإجازة توسع وترخيص يتأهل له أهل العلم لمسيس حاجتهم إليها ، وهل المراد مطلق العلم أو خصوص المجاز به كما قيد في المجيز ، أو الصناعة كما صرح به ابن عبد البر ؟ الظاهر الأخير ( والوليد ) بن بكر أبو العباس المالكي ( ذا ذكر ) أي : نقل في كتابه ( الوجازة في صحة القول بالإجازة ) ( عن ) إمامه ( مالك ) ، هو ابن أنس رحمه الله ، [ علم المجيز والمجاز له المشار إليه ] ( شرطا ) فيها ، وعبارته : ولمالك شرط في الإجازة ، وهو أن يكون المجيز عالما بما يجيز ، ثقة في دينه وروايته ، معروفا بالعلم ، والمجاز به معارضا بالأصل حتى كأنه هو ، والمجاز له من أهل العلم أو متسما بسمته ، حتى لا يوضع العلم إلا عند أهله ، وكان يكره الإجازة لمن ليس من أهل العلم ويقول : ما أسلفته في أول أنواع الإجازة . وفي أخذ الاشتراط منها نظر ، إلا أن أول قوله : " أو متسما بسمته " بمن هو دون من قبله في العلم ، وكانت الكراهة للتحريم . ( وعن ) الحافظ ( أبي عمر ) ، هو ابن عبد البر كما في جامع العلم [ ص: 285 ] له ( أن الصحيح أنها ) أي : الإجازة ( لا تقبل إلا لماهر ) بالصناعة ، حاذق فيها ، يعرف كيف يتناولها ( و ) في ( ما لا يشكل ) إسناده ; لكونه معروفا معينا ، وإن لم يكن كذلك لم يؤمن أن يحدث المجاز له عن الشيخ بما ليس من حديثه ، أو ينقص من إسناده الرجل والرجلين ، وقد رأيت قوما وقعوا في هذا ، وإنما كره من كره الإجازة لهذا .

وقريب منه ما حكاه الخطيب في الكفاية ، قال : مذهب أحمد بن صالح أنه إذا قال للطالب : أجزت لك أن تروي عني ما شئت من حديثي ، لا يصح إلا أن يدفع إليه أصوله ، أو فروعا كتبت منها ، وينظر فيها ويصححها .

وعن أبي الوليد الباجي قال : الاستجازة إما أن تكون للعمل ، فيجب على المجاز له أن يكون من أهل العلم بذلك والفهم باللسان ، وإلا لم يحل له الأخذ بها ، فربما كان في مسألته فصل أو وجه لم يعلم به المجيز ، ولو علمه لم يكن جوابه ما أجاب به ، وإما أن تكون للرواية خاصة ، فيجب أن يكون عارفا بالنقل والوقوف على ألفاظ ما أجيز له ; ليسلم من التصحيف والتحريف ، فمن لم يكن عالما بشيء من ذلك ، وإنما يريد علو الإسناد بها ففي نقله بها ضعف .

وقال ابن سيد الناس : أصل الإجازة مختلف فيه ، ومن أجازها فهي قاصرة عنده عن رتبة السماع ، وحينئذ فينبغي أن لا تجوز من كل من يجوز منه السماع ، وإن ترخص مترخص وجوزها من كل من يجوز منه السماع ، فأقل مراتب المجيز أن يكون عالما بمعنى الإجازة العلم الإجمالي من أنه روى شيئا ، وأن معنى إجازته لغيره إذنه لذلك الغير في رواية ذلك الشيء عنه بطريق الإجازة المعهودة من أهل هذا الشأن ، لا العلم التفصيلي بما روي وبما يتعلق بأحكام الإجازة ، وهذا العلم الإجمالي حاصل فيمن رأيناه من عوام الرواة ، فإن انحط راو في الفهم [ ص: 286 ] عن هذه الدرجة - ولا إخال أحدا ينحط عن إدراك هذا إذا عرف به - فلا أحسبه أهلا لأن يتحمل عنه بإجازة ولا سماع ، قال : وهذا الذي أشرت إليه من التوسع في الإجازة هو طريق الجمهور .

قلت : وما عداه من التشديد فهو مناف لما جوزت الإجازة له من بقاء السلسلة ، وقد تقدم في سابع أنواعها عدم اشتراط التأهل حين التحمل بها كالسماع ، وفي أولها أنه لم يقل أحد بالأداء بها بدون شروط الرواية ، وعليه يحمل قولهم : أجزت له رواية كذا بشرطه ، ومنه ثبوت المروي من حديث المجيز .

وقد قال أبو مروان الطبني : إنها لا تحتاج لغير مقابلة نسخة بأصول الشيخ ، وأشار إمام الحرمين لذلك بقوله بالصحة مع تحقق الحديث ، وقال عياض : تصح بعد تصحيح شيئين : تعيين روايات الشيخ ومسموعاته وتحقيقها ، وصحة مطابقة كتب الراوي لها والاعتماد على الأصول المصححة . وقد كتب أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي كما أورده الخطيب في الكفاية وعياض في الإلماع :


كتابي إليكم فافهموه فإنه     رسولي إليكم والكتاب رسول
فهذا سماعي من رجال لقيتهم     لهم ورع مع فهمهم وعقول
فإن شئتم فارووه عني فإنما     تقولون ما قد قلته وأقول
[ ص: 287 ] ألا فاحذروا التصحيف فيه فربما     تغير عن تصحيفه فيحول

وقال غيره في أبيات :


وأكره فيما قد سألتم غروركم     ولست بما عندي من العلم أبخل
فمن يروه فليروه بصوابه     كما قاله الفراء فالصدق أجمل

وأما قول بعضهم : الشرط كونها من معين لمعين ، أو كونها غير مجهولة ، فليس بشيء ، وما أحسن من كتب لمن علم منه التأهل : أجزت له الرواية عني ، وهو لما أعلم من إتقانه وضبطه غني عن تقييدي ذلك بشرطه .

ثم الإجازة تارة تكون بلفظ المجيز بعد السؤال فيها من المجاز له أو غيره ، أو مبتدئا بها ، وتارة تكون بخطه على استدعاء كما جرت به العادة ، أو بدون استدعاء ( واللفظ ) بالإجازة ( إن تجز ) أيها المحدث ( بكتب ) أي : بأن تجمعهما ( أحسن ) وأولى من إفراد أحدهما ( أو ) بكتب ( دون لفظ فانو ) الإجازة ( وهو ) ، أي : هذا الصنيع ( أدون ) من الإجازة الملفوظ بها في المرتبة ; لأن القول دليل رضاه القلبي بالإجازة ، والكتابة دليل القول الدال على الرضى ، والدال بغير واسطة أعلى ، وبالثاني يوجه صحتها بالنية فقط ، بل قال ابن الصلاح متصلا بذلك : وغير مستبعد تصحيح ذلك بمجرد هذه الكتابة في باب الرواية الذي جعلت فيه القراءة على الشيخ ، مع أنه لم يلفظ بما قرئ عليه إخبارا منه بذلك ، ويتأيد بقول ابن أبي الدم : قد تقوم الأفعال مقام الأقوال كما في نقل الملك على القول بتصحيح المعاطاة ، فإن لم ينوها فقضية ما هنا - وقال الشارح : إنه الظاهر - عدم الصحة ; لأن الكتاب كناية ، والكناية شرطها النية ، ولا نية هنا فبطلت ، وكأن [ ص: 288 ] محل هذا حيث صرح بعدم النية ، أما لو لم يعلم حاله فالظاهر الصحة ، إذ الأصل كما قال بعضهم فيما يكتبه العاقل خصوصا فيما نحن بصدده أن يكون قاصدا له ، ولعلها الصورة التي لم يستبعد ابن الصلاح صحتها ، وإن احتمل كلامه ما تقدم فهو فيها أظهر ، وهو الذي نظمه البرهان الحلبي حيث قال :

وحيث لا نية قد جوزها ابن الصلاح باحثا أبرزها فرع : كثير تصريحهم في الأجايز بما يجوز لي وعني روايته ، فقيل كما نقله ابن الجزري : إنه لا فائدة في قول " وعني " ، قال : والظاهر أنهم يريدون ب " لي " مروياتهم ، وب " عني " مصنفاتهم ونحوها ، وهو كذلك ، وحينئذ فكتابتها ممن ليس له تصنيف أو نظم أو نثر [ أو بحث حفظ عنه وما أشبهه ] عبث أو جهل .

التالي السابق


الخدمات العلمية