فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء

( 561 ) وينبغي إعجام ما يستعجم وشكل ما يشكل لا ما يفهم      ( 562 ) وقيل كله لذي ابتداء
وأكدوا ملتبس الأسماء      ( 563 ) وليك في الأصل وفي الهامش مع
تقطيعه الحروف فهو أنفع

[ حكم ضبط الحديث وغيره ] :

المسألة الثانية : ( وينبغي ) استحبابا متأكدا ، بل عبارة ابن خلاد وعياض تقتضي الوجوب ، وبه صرح الماوردي ، لكن في حق من حفظ العلم بالخط لطالب العلم ، لا سيما الحديث ومتعلقاته مع صرف الهمة لضبط ما يحصله بخطه أو بخط غيره من مرويه وغيره من كتب العلوم النافعة ضبطا يؤمن معه الالتباس .

( إعجام ) أي : نقط ( ما يستعجم ) بإغفال نقطه ، بحيث تصير فيه عجمة بأن يميز الخاء المعجمة من الحاء المهملة ، والذال المعجمة من الدال المهملة ، كحديث : ( عليكم بمثل حصى الخذف ) فيعجم كلا من الخاء والذال بالنقط وكالنقيع والبقيع ، فيميز ما يكون بالنون مما هو بالموحدة .

وكذا في الأسماء ، يبين خبابا من جناب وحباب ، وأبا الجوزاء من أبي الحوراء ، وما أشبه ذلك ، وإن لم يعتن بذلك الكثير من المتقدمين اتكالا على حفظهم ، كإيرادهم [ ص: 43 ] الموضوعات بدون تصريح ببيانها ، فقد قال الثوري فيما نقله عنه الماوردي في ( أدب الدنيا والدين ) له : الخطوط المعجمة كالبرود المعلمة .

وقال بعض الأدباء : رب علم لم تعجم فصوله استعجم محصوله .

وقال الأوزاعي عن ثابت بن معبد : نور الكتاب العجم . وكذا يروى من قول الأوزاعي ، وقال غيره : إعجام المكتوب يمنع من استعجامه . بل أورد الخطيب في " جامعه " من طريق قيس بن عباد ، عن محمد بن عبيد بن أوس الغساني كاتب معاوية ، عن أبيه أنه قال : كتبت بين يدي معاوية رضي الله عنه كتابا ، فقال لي : يا عبيد ، ارقش كتابك ، فإني كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : ( يا معاوية ، ارقش كتابك ) قلت : وما رقشه يا أمير المؤمنين ؟ قال : إعطاء كل حرف ما ينوبه من النقط .

[ ص: 44 ] ( و ) كذا ينبغي ( شكل ما يشكل ) إعرابه من المتون والأسماء في الكتاب ، فذلك يمنع من إشكاله .

( لا ما يفهم ) بدون شكل ولا نقط . فإنه تشاغل بما غيره أولى منه ، وفيه عناء ، بل قد لا يكون فيه فائدة أصلا ، وعن أحمد بن حنبل قال : كان يحيى بن سعيد يشكل الحرف إذا كان شديدا ، وغير ذلك لا .

وكان عفان وبهز وحبان بن هلال أصحاب الشكل والتقييد ، وحكى علي بن إبراهيم البغدادي في كتابه ( سمات الخط ورقومه ) أن أهل العلم يكرهون الإعجام والإعراب إلا في الملبس ، وربما يحصل للكتاب إظلام .

( وقيل ) بل ينبغي الشكل والإعجام للمكتوب ( كله ) أشكل أم لا . وصوبه عياض ( لـ ) أجل ( ذي ابتداء ) في الصنعة والعلم ممن لا يعرف المؤتلف والمختلف وغيرهما من السند والمتن ; لأنه حينئذ لا يميز المشكل من غيره ، ولا صواب وجه الإعراب للكلمة من خطئه ، وأيضا فقد يكون واضحا عند قوم مشكلا عند آخرين ، كالعجم ومن شاكلهم ، والقصد عموم الانتفاع ، وربما يظن هو لبراعته المشكل واضحا ، بل وقد يخفى عنه الصواب بعد .

ولذا قال ابن الصلاح : وكثيرا ما يتهاون في ذلك الواثق بذهنه وتيقظه ، وذلك وخيم العاقبة ; فإن الإنسان معرض للنسيان .

قال أبو الفتح البستي - وكان يكثر التجنيس [ ص: 45 ] في شعره - :


يا أفضل الناس إفضالا على الناس     وأكثر الناس إحسانا إلى الناس
نسيت وعدك والنسيان مغتفر     فاعذر فأول ناس أول الناس

وقال أبو تمام : سميت إنسانا لأنك ناس .

وممن كان كثير العجم والنقط لكتابه أبو عوانة الوضاح أحد الحفاظ ، فقدم كتابه على حفظ غيره لشدة إتقانه وضبطه له .

وربما - كما أشار إليه عياض - يقع النزاع في حكم مستنبط من حديث يكون متوقفا على ضبط الإعراب فيه ، فيسأل الراوي : كيف ضبط هذا اللفظ ؟ فيصير متحيرا لكونه أهمله ، أو يجسر على شيء بدون بصيرة ويقين كقوله : ( ذكاة الجنين ذكاة أمه ) فأبو حنيفة ومن تابعه يرجحون النصب لاشتراطهم التذكية ، والجمهور كالشافعية والمالكية وغيرهما يرجحون الرفع لإسقاطهم ذكاته .

على أن بعض [ ص: 46 ] المحققين وجه النصب أيضا بما يرجع إليه ، وقوله : ( لا نورث ، ما تركنا صدقة ) فالجماعة يروونه برفع صدقة على الخبرية ; لأن الأنبياء لا يورثون ، والإمامية يروونه بالنصب على التمييز ، والمعنى أنه لا يورث ما تركوه صدقة دون غيره . على أن ابن مالك وجه النصب بما يوافق الجماعة فقال : التقدير : ما تركنا مبذول صدقة . فحذف الخبر وبقي الحال منه .

ونظيره : ونحن عصبة بالنصب ، وقوله : ( هو لك عبد بن زمعة ) فالجماعة على حذف حرف النداء بين " لك " و " عبد " وبعض المخالفين من الحنفية على حذفه بين " عبد " و " ابن " مع تنوين " عبد " .

ونحوه في السند عبد الله بن أبي ابن سلول ، فلكون سلول أمه ; إن لم يثبت [ ص: 47 ] الألف في ابن سلول وينون أبيا يظن أنه جد عبد الله ، وعبد الله بن مالك ابن بحينة ، كما سيأتي مبسوطا فيمن نسب إلى غير أبيه .

ورحم الله كلا من السلفي والمزي فقد كانا مع جلالتهما يضبطان الأشياء الواضحة ، حتى إن السلفي تكرر له نقط الخاء من " أنا " ، والمزي قد يسكن النون من " عن " ، ولكن هذا تكلف ، وقد لا يكون مقصودا ، والحاصل أنه يبالغ في ضبط المتون ; لأن تغييرها يؤدي إلى أن يقال عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل أو يثبت حكم شرعي بغير طريقه .

( و ) لكن ( أكدوا ) أي : الأئمة من المحدثين وغيرهم ( ملتبس ) ; أي : ضبط ملتبس ( الأسماء ) لا سيما الأسماء الأعجمية والقبائل الغريبة لقلة المتميزين فيها . بخلاف الإعراب ، ولأنها - كما قالأبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله النجيرمي : أولى الأشياء بالضبط . قال : لأنها لا يدخلها القياس ولا قبلها ولا بعدها شيء يدل عليها .

وما لعله يقال في رد هذا التعليل من كون الراوي عن ذاك الملتبس أو شيخه مما يدل عليه قد يجاب عنه بأن ذلك إنما هو بالنظر للعالم به ، والكلام فيما هو أعم منه .

وممن كان يحض على الضبط حماد بن سلمة وعفان ، كما حكاه عنهما عياض . ( وليك ) بسكون اللام كما هو الأكثر فيها مثل : وليؤمنوا بي ضبطه للمشكل من الأسماء والألفاظ ( في الأصل و ) كذا ( في الهامش ) مقابله [ ص: 48 ] حسبما جرى عليه رسم جماعة من أهل الضبط ; لأن جمعها أبلغ في الإبانة وأبعد من الالتباس ، بخلاف الاقتصار على أولهما فإنه ربما داخله نقط أو شكل لغيره مما فوقه أو تحته ، فيحصل الالتباس لا سيما عند دقة الخط وضيق الأسطر ، قاله ابن الصلاح تبعا لعياض .

ويكون ما بالهامش من ذلك ( مع تقطيعه الحروف ) من المشكل ( فهو أنفع ) وأحسن ، وفائدته أنه يظهر شكل الحرف بكتابته مفردا في بعض الحروف كالنون والياء التحتانية ، بخلاف ما إذا كتبت مجتمعة والحرف المذكور في أولها أو وسطها ، وهو وإن لم يصرحا به فقد فعله غير واحد من أهل الضبط .

نعم نقله الزركشي عن عياض ، وهو إما سهو أو رآه في غير " الإلماع " وقد نص عليه وحكاه عن المتقنين ابن دقيق العيد ، فقال في " الاقتراح " : ومن عادة المتقنين أن يبالغوا في إيضاح المشكل فيفرقوا حروف الكلمة في الحاشية ويضبطوها حرفا حرفا فلا يبقى بعده إشكال .

[ فائدة ] :

ومما ينبه عليه شيئان : أحدهما أنه ينبغي التيقظ لما يقع من الضبط نقطا وشكلا في خط الأئمة بغير خطوطهم ولو كان صوابا ، فضلا عن غيره ، فإن [ ص: 49 ] ذلك مما يخفى ، وربما لا يميزه الحذاق ، ويا فضيحة من اعتمد صنيعه بقصد التخطئة للأئمة .

الثاني : قد استثنى ابن النفيس مما تقدم القرآن الكريم وقال : إن الأولى تجريده عن الإعجام والإعراب ; لأن هذه جميعها زوائد على المتن . وبما تقرر في كون دقة الخط قد تقتضي الالتباس كان إيضاحه مما يتم به الضبط .

التالي السابق


الخدمات العلمية