فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ صحة السماع بدون النظر في الكتاب ] :

( ولينظر السامع ) استحبابا ( حين يطلب ) أي : يسمع ( في نسخة ) إما له أو لمن حضر من السامعين أو الشيخ ، فهو أضبط وأجدر أن يفهم معه ما يسمع ، لوصول المقروء إلى قلبه من طريقي السمع والبصر كما أن الناظر في الكتاب إذا تلفظ به يكون أثبت في قلبه ; لأنه يصل إليه [ ص: 83 ] من طريقين .

قال الزبير بن بكار في ( الموفقيات ) : ( دخل علي أبي وأنا أنظر في دفتر وأروي فيه بيني وبين نفسي ولا أجهر ، فقال لي : إنما لك من روايتك هذه ما أدى بصرك إلى قلبك ، فإذا أردت الرواية فانظر إليها واجهر بها ، فإنه يكون لك منها ما أدى بصرك إلى قلبك ، وما أدى سمعك إلى قلبك ) .

ولهذا قال الخطيب : ( حدثني أبو عبد الله الحميدي ) قال : أتى جماعة من الطلبة الحافظ أبا إسحاق إبراهيم بن سعيد بن عبد الله المصري الحبال ليسمعوا منه جزءا ، فأخرج به عشرين نسخة ، وناول كل واحد نسخة يعارض بها .

ويتأكد النظر إذا أراد السامع النقل منها ، كما صرح به ابن الصلاح تبعا للخطيب ، لكونه حينئذ كأنه قد تولى العرض بنفسه ، وبهذا يظهر مناسبة إدخال هذا الفرع في الترجمة ، وبكونه مستحبا صرح الخطيب ، ويشهد له قول علي بن عبد الصمد المكي : قلت لأحمد بن حنبل : أيجزئ ألا أنظر في النسخة حين السماع وأقول : ثنا . مثل الصك شهد بما فيه ولو لم ينظر فيه ؟ فقال لي : لو نظرت في الكتاب كان أطيب لنفسك . [ ص: 84 ] ( وقال يحيى ) بن معين كما رواه الخطيب في ( الكفاية ) من طريقه بسند فيه وجادة ، وأورده لذلك ابن الصلاح بصيغة التمريض ( يجب ) النظر ، وذلك أنه سئل عمن لم ينظر في الكتاب والمحدث يقرأ : أيجوز له أن يحدث بذلك عنه ؟ فقال : أما عندي فلا ، ولكن عامة الشيوخ هكذا سماعهم . قال : وكان ابن أبي ذئب يحدث من الكتاب ثم يلقيه إليهم فيكتبونه من غير أن يكونوا قد نظروا فيه . ولم ينفرد ابن معين بهذا ، فقد أورد الخطيب أيضا عن أبي عبد الله محمد بن مسلم بن وارة أنه قال : أنتم أهل بلد ينظر إليكم ، يجيء رجل يسألني في أحاديث وأنتم لا تنظرون فيها ثم تكتبونها ، لا أحل لمن لم ينظر في الكتاب أن ينسخ منها شيئا .

ونحوه عن عبد الرزاق قال : لما قدم علينا الثوري قال : ائتوني برجل يكتب ، خفيف الكتاب . قال : فأتينا بهشام بن يوسف فكان هو يكتب ونحن ننظر في الكتاب ، فإذا فرغ ختمنا الكتاب حتى ننسخه . لكن قال ابن الصلاح : إن هذا من مذاهب المتشددين في الرواية ، والصحيح عدم اشتراطه وصحة السماع ولو لم ينظر أصلا في الكتاب حالة السماع . انتهى .

ويمكن أن يخص الاشتراط بما إذا لم يكن صاحب النسخة مأمونا موثوقا [ ص: 85 ] بضبطه ، ولم يكن تقدم العرض بأصل الراوي ، فإنه حينئذ ، كما اقتضاه كلام الخطيب ، لا بد من النظر ، وعبارته : ( وإذا كان صاحب النسخة مأمونا في نفسه ، موثوقا بضبطه ، جاز لمن حضر المجلس أن يترك النظر معه اعتمادا عليه في ذلك ، بل ويجوز ترك النظر حين القراءة إذا كان العرض قد سبق بالأصل ) .

ثم ما تقدم من اشتراط الخطيب المقابلة في صحة الرواية هو المعتمد بين المتقدمين ، وبه صرح عياض أيضا فقال : ( لا يحل للمسلم التقي الرواية مما لم يقابل ، ولا ينخدع في الاعتماد على نسخ الثقة العارف ، ولا على نسخه هو بيده بدون مقابلة وتصحيح ; فإن الفكر يذهب ، والقلب يسهو ، والبصر يزيغ ، والقلم يطغى . بل واختاره من المتأخرين ابن أبي الدم ، فقال : لا يجوز أن يروي عن شيخه شيئا سمعه عليه من كتاب لا يعلم هل هو كل الذي سمعه أو بعضه ؟ وهل هو على وجهه أو لا ؟ ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية