فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ معنى شرط الصحيحين ] إذا تقرر هذا ، فاعلم أنه لم يصرح أحد من الشيخين بشرطه في كتابه ولا في غيره ، كما جزم به غير واحد ، منهم النووي ، وإنما عرف بالسبر لكتابيهما ، ولذا اختلف الأئمة في ذلك .

فقال أبو الفضل بن طاهر الحافظ في جزء سمعناه أفرده لشروط الستة : ( شرطهما أن يخرجا الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الأثبات ، ويكون إسناده متصلا غير مقطوع .

فإن كان للصحابي راويان فصاعدا فحسن ، وإن لم يكن له إلا راو واحد وصح الطريق إليه كفى ، وما ادعاه من الاتفاق على ثقة نقلتهما قد لا يخدش فيه وجود حكاية التضعيف في بعضهم ممن قبلهما ; لتجويز أنهما لم يرياه قادحا ، فنزلا كلام الجمهور المعتمد عندهما منزلة الإجماع .

وكذا قوله : ( من غير اختلاف بين الثقات ) ليس على إطلاقه ، فإنه ليس كل خلاف يؤثر ، وإنما المؤثر مخالفة الثقات لمن هو أحفظ منه ، أو أكثر عددا من [ ص: 67 ] الثقات ، كما سيأتي في الشاذ .

وقال الحافظ أبو بكر الحازمي في جزء شروط الخمسة له مما سمعناه أيضا ما حاصله : إن شرط الصحيح أن يكون إسناده متصلا ، وأن يكون راويه مسلما صادقا غير مدلس ولا مختلط ، متصفا بصفات العدالة ، ضابطا متحفظا ، سليم الذهن ، قليل الوهم ، سليم الاعتقاد .

وأن شرط البخاري أن يخرج ما اتصل إسناده بالثقات المتقنين الملازمين لمن أخذوا عنه ملازمة طويلة سفرا وحضرا ، وإنه قد يخرج أحيانا ما يعتمده عن أعيان الطبقة التي تلي هذه في الإتقان والملازمة لمن رووا عنه ، فلم يلزموه إلا ملازمة يسيرة .

وأما مسلم فيخرج أحاديث الطبقتين على سبيل الاستيعاب ، وقد يخرج حديث من لم يسلم من غوائل الجرح ، إذا كان طويل الملازمة لمن أخذ عنه ; كحماد بن سلمة في ثابت البناني ; فإنه لكثرة ملازمته له وطول صحبته إياه ، صارت صحيفة ثابت على ذكره وحفظه بعد الاختلاط كما كانت قبله ، وعمل مسلم في هذه كعمل البخاري في الثانية .

قلت : ولا يمنع من هذا اكتفاء مسلم في السند المعنعن بالمعاصرة ، والبخاري باللقاء ولو مرة لمزيد تحريهما في صحيحيهما .

وقال ابن الجوزي : اشترط البخاري ومسلم الثقة والاشتهار . قال : وقد تركا أشياء تركها قريب ، وأشياء لا وجه لتركها .

فمما تركه البخاري الرواية عن حماد بن سلمة مع علمه بثقته ; لأنه قيل : إنه كان له ربيب يدخل في حديثه ما ليس منه .

وترك الرواية عن سهيل بن أبي صالح ; لأنه قد تكلم في سماعه من أبيه ، وقبل صحيفة ، واعتمد عليه مسلم لما وجده تارة يحدث عن أبيه ، وتارة عن عبد الله بن [ ص: 68 ] دينار عن أبيه ، ومرة عن الأعمش عن أبيه ، فلو كان سماعه صحيفة كان يروي الكل عن أبيه . انتهى .

ورد كل من الحازمي وابن طاهر على الحاكم دعواه التي وافقه عليها صاحبه البيهقي ; من أن شرطهما أن يكون للصحابي المشهور بالرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - راويان فصاعدا ، ثم يكون للتابعي المشهور راويان ثقتان ، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور ، وله رواة ثقات من الطبقة الرابعة ، ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظا متقنا مشهورا بالعدالة في روايته وله رواة ، ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا ; كالشهادة على الشهادة .

قال شيخنا : وهو " وإن كان منتقضا في حق الصحابة الذين أخرجا لهم ، فإنه معتبر في حق من بعدهم ، فليس في الكتاب حديث أصل من رواية من ليس له إلا وار واحد فقط " . انتهى .

وقد وجدت في كلام الحاكم التصريح باستثناء الصحابة من ذلك ، وإن كان مناقضا لكلامه الأول ، ولعله رجع عنه إلى هذا ، فقال : الصحابي المعروف إذا لم نجد له راويا غير تابعي واحد معروف ، احتججنا به ، وصححنا حديثه ; إذ هو صحيح على شرطهما جميعا .

فإن البخاري قد احتج بحديث قيس بن أبي حازم عن [ ص: 69 ] كل من مرداس الأسلمي ، وعدي بن عميرة ، وليس لهما راو غيره ، كذلك احتج مسلم بأحاديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه ، وأحاديث مجزأة بن زاهر الأسلمي عن أبيه .

وحينئذ فكلام الحاكم قد استقام ، وزال بما تممت به عنه الملام ، وإن كان الذي أخرج حديث عدي إنما هو مسلم لا البخاري ، مع كون قيس لم ينفرد عنه ، والذي أخرج حديث زاهر إنما هو البخاري لا مسلم ، نعم أخرجا معا للمسيب بن حزن ، مع أنه لم يرو عنه سوى ابنه سعيد ، ولكن له ذكر في السير .

قال ابن يونس : إنه قدم مصر لغزو إفريقية ، سنة سبع وعشرين ، وأورد الحاكم أيضا حديث أبي الأحوص عوف بن مالك الجشمي عن أبيه في مستدركه .

وقال : قد أخرج مسلم لأبي المليح بن أسامة عن أبيه ، ولأبي مالك الأشجعي عن أبيه ، ولا راوي لوالدهما غير ولدهما ، وهذا أولى من ذلك كله . انتهى . وسيأتي الإشارة لذلك فيمن لم يرو عنه إلا واحد .

ثم ما المراد بقوله : ( على شرطهما ) ؟ فعند النووي وابن دقيق العيد والذهبي تبعا لابن الصلاح : هو أن يكون رجال ذلك الإسناد المحكوم عليه بأعيانهم في كتابيهما ، وتصرف الحاكم يقويه ، فإنه إذا كان عنده الحديث قد أخرجا معا أو أحدهما لرواته قال : صحيح على شرطهما أو أحدهما ، وإذا كان بعض رواته لم يخرجا له .

قال : صحيح الإسناد حسب ، ويتأيد بأنه حكم على حديث من طريق أبي عثمان بأنه صحيح الإسناد .

ثم قال : أبو عثمان هذا ليس هو النهدي ، ولو كان [ ص: 70 ] النهدي ، لحكمت بالحديث على شرطهما .

وإن خالف الحاكم ذلك ، فيحمل على السهو والنسيان ; ككثير من أحواله .

ولا ينافيه قوله في خطبة ( مستدركه ) : وأنا أستعين الله تعالى على إخراج أحاديث رواتها ثقات ، قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما ; لأنا نقول : المثلية أعم من أن تكون في الأعيان أو الأوصاف ، لا انحصار لها في الأوصاف ، لكنها في أحدهما حقيقة ، وفي الآخر مجاز ، فاستعمل المجاز ; حيث قال عقب ما يكون عن نفس رواتهما : " على شرطهما " ، والحقيقة حيث قال عقب ما هو عن أمثال رواتهما : ( صحيح أفاده شيخنا ) .

وعليه مشى في توضيح النخبة فقال : لأن المراد به - يعني بشرطهما - رواتهما مع باقي شروط الصحيح ، يعني من نفي الشذوذ والعلة ، وسبقه لنحوه غيره ، قال رجل لشريح : إني قلت لهذا : اشتر لي مثل هذا الثوب الذي معك ، فاشترى ذلك الثوب بعينه . فقال شريح : لا شيء أشبه بالشيء من الشيء بعينه ، [ وألزمه أخذ الثوب ] .

وكذا هل المراد بالمثلية عندهما أو عند غيرهما ؟ الظاهر - كما قال المؤلف - الأول ، وتعرف بتنصيصهما ، وقلما يوجد ذلك ، أو بالألفاظ الدالة على مراتب التعديل ، ولكن ينبغي ملاحظة حال الراوي مع شيخه .

فقد يكون من شرط الصحيح في بعض شيوخه دون بعض ، وعدم النظر في هذا من جملة الأسباب المقتضية لوهم الحاكم ، ولذا لما قال عقب حديث أخرجه من طريق الحسن عن سمرة : " صحيح على شرط البخاري " قال ابن دقيق العيد : ليس من رواية الحسن عن سمرة من شرط البخاري ، وإن أراد أن الحسن أو سمرة في [ ص: 71 ] الجملة من شرطه ، فهو من شرط مسلم أيضا . انتهى .

فعلم منه أن الشرط إنما يتم إذا خرج لرجال السند بالصورة المجتمعة ، ويمكن أن يجاب عن الحاكم : بأنه أراد أن مسلما ينفي سماع الحسن من سمرة أصلا ، والبخاري ممن يثبت ذلك ، بدليل إخراجه [ في صحيحه من حديث حبيب بن الشهيد ، أنه قال : قال لي ابن سيرين : سئل الحسن ممن سمع حديث العقيقة ؟ فسألته فقال : من سمرة ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية