فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ عدم جواز الرواية من الكتب ] :

( و ) روي ( عن ) الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ( المنع ) ، وأنه لا حجة إلا فيما رواه الراوي من حفظه وتذكره للمروي تفصيلا من حين سمعه إلى أن يؤديه .

قال ابن معين فيما رواه الخطيب : كان [ ص: 125 ] أبو حنيفة يقول : لا يحدث الرجل إلا بما يعرف ويحفظ . و ( كذا ) روي عن الإمام ( مالك ) هو ابن أنس كما أخرجه جماعة منهم الخطيب وأبو الفضل السليماني في ( الحث على طلب الحديث ) له ، واللفظ له من حديث ابن عبد الحكم ، عن أشهب بن عبد العزيز قال : سألت مالكا : أيؤخذ العلم عمن لا يحفظه - زاد الخطيب : وهو ثقة صحيح - ؟ قال : لا . قلت له : إنه يخرج كتابه ويقول : هو سماعي . قال : أما أنا فلا أرى أن يحمل عنه ، فإني لا آمن أن يكتب في كتابه - يعني ما ليس منه - زاد الخطيب : بالليل - ثم اتفقا - وهو لا يدري .

( و ) روي أيضا عن أحد أئمة الشافعية أبي بكر ( الصيدلاني ) المروزي ، ونسب للزين الكتناني من المتأخرين اختياره ، حتى كان يقول : أنا لا يحل لي أن أروي إلا حديث : (

أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب

) لأني من حين سمعته لم أنسه .

وظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أما بعد ، فإني أريد أن أقول مقالة قد قدر أن أقولها ، لا أدري لعلها بين يدي أجلي ، فمن وعاها وعقلها وحفظها فليحدث بها حتى تنتهي به راحلته ، ومن خشي ألا يعيها فإني لا أحل لأحد أن يكذب علي .

وحديث أبي موسى الغافقي الذي أخرجه الحاكم في [ ص: 126 ] ( مستدركه ) بلفظ : آخر ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال : ( عليكم كتاب الله ، وسترجعون إلى قوم يحبون الحديث عني - أو كلمة تشبهها - فمن حفظ شيئا فليحدث به ) قد يشهد له .

ولذا استدل بهما الخطيب في ( الكفاية ) على وجوب التثبت في الرواية حال الأداء ، وأنه يروي ما لا يرتاب في حفظه ، ويتوقف عما عارضه الشك فيه .

وقال الحاكم عقب المرفوع : ( قد جمع هذا الحديث لفظتين غريبتين : إحداهما قوله : ( يحبون الحديث ) . والأخرى قوله : ( فمن حفظ شيئا فليحدث به ) قال : وقد ذهب جماعة من أئمة الإسلام إلى أنه ليس للمحدث أن يحدث بما لم يحفظه ) . انتهى .

وكذا يشهد له قول هشيم : من لم يحفظ الحديث فليس هو من أصحاب الحديث ، يجيء أحدهم بكتاب كأنه سجل مكاتب . ومن ثم - كما قال شيخنا - قلت الرواية عن بعض من قال بهذا مع كونه في نفس الأمر كثير الرواية .

وعلى كل حال فهو - كما قال ابن الصلاح - من مذاهب المتشددين الذين أفرطوا وباينوا بصنيعهم المتساهلين الذين فرطوا ، بحيث قالوا بالرواية بالوصية والإعلام والمناولة المجردات ، ومن النسخ التي لم تقابل ، ونحو ذلك مما بسط في محاله .

والصواب الأول ، وهو الذي عليه الجمهور ، سواء كان كتابه بيده أم بيد ثقة ضابط ، وإن اشترط بعضهم - والحالة هذه - كونه بيده ، كما سلف في أول الفروع التالية لثاني أقسام التحمل ، وسواء خرج كتابه عن يده أم لا ، إذا غلب على الظن سلامته ، وإن منع منه بعضهم كما سيأتي قريبا .

وسواء حدث من كتابه ابتداء [ ص: 127 ] أو حفظ من كتابه ثم حدث من حفظه ، لكن قد كان شعبة ربما نص على أن حفظه من كتابه لئلا يتوهم - والله أعلم - أنه حفظه من فم شيخه ابتداء . ثم إن المصنف لم يتعرض لتصويب ابن الصلاح لما ذهب إليه الأكثر ، وقد نظم ذلك بعضهم فقال :


وصوب الشيخ لقول الأكثر     وهو الصواب ليس فيه نمتري

التالي السابق


الخدمات العلمية