فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ حكم من رأى سماعه في الكتاب ] :

( وإذا رأى ) المحدث ( سماعه ) في كتاب بخطه ، أو بخط من يثق به - سواء الشيخ أو غيره - فلا يخلو ، إما أن يتذكره أو لا ، فإن تذكره - وهو أرفع الأقسام - جازت له روايته على المعتمد إن لم يكن حافظا له ، وبلا خلاف إن كان له حافظا ، وإن لم يتذكره بل تذكر أنه غير سماعه فقد تعارضا ، والظاهر اعتماد ما في ذكره ، وقد حكى لنا شيخنا عن بعض المحدثين ممن أخذ عن شيخنا ، بل وأخذ شيخنا أيضا عنه ، وثنا عنه غير واحد أنه كان يكتب الطبقة قبل سماعه قصدا للإسراع ، لكن يؤخر تعيين التاريخ ، وطعن فيه بسبب ذلك ونحوه ، وفيه متمسك للمانعين .

( و ) إن ( لم يذكر ) سماعه له ، يعني : ولا عدمه ( فعن ) أبي حنيفة ( نعمان ) أي : النعمان أيضا ( المنع ) من روايته ، يعني : وإن كان حافظا لما في الكتاب فضلا عما لم يعرفه ، كما جاء عن ابن مهدي أنه قال : وجدت في كتبي بخطي عن شعبة ما لم أعرفه فطرحته . وعن شعبة قال : وجدت بخطي في كتاب عندي ، عن منصور ، عن مجاهد قال : لم يحتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم . ما أدري كيف كتبته ، ولا أذكر أني سمعته .

وهو مقتضى ما ذهب إليه مالك والصيدلاني أيضا في المسألة الأولى ، إذ ضبط أصل السماع كضبط المسموع ، ولعل الصيدلاني هو المقرون عند ابن الصلاح تبعا لعياض بأبي حنيفة حيث قال : [ ص: 128 ] فعن أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي عدم الجواز . وهو قول الجويني كما قال عياض ، بل قال القاضي حسين في ( فتاواه ) : إنه كذلك من طريق الفقه .

واختاره ابن دقيق العيد فقال القطب الحلبي : أتيته بجزء سمعه من ابن رواج الطبقة بخطه ، فقال : حتى أنظر فيه . ثم عدت إليه فقال : هو بخطي لكن ما أحقق سماعه ولا أذكره . ولم يحدث به .

( وقال ) صاحب أبي حنيفة ( ابن الحسن ) هو محمد ( مع ) شيخه ورفيقه القاضي ( أبي يوسف ثم ) إمامنا ( الشافعي والأكثرين ) من أصحابه ( بالجواز الواسع ) الذي لم يقل الشافعي وأكثر أصحابه بمثله في الشهادة ; لأن باب الرواية أوسع ، والأولان ممن سوى بين البابين .

على أن الإمام من أصحابنا قال : كان شيخي يتردد فيمن شهد شهادة ووضعها عنده في صندوق بحيث كان يتحقق أن أحدا لم يصل إليه ، ثم دعي إلى تلك الشهادة فلم يتذكر ، هل يجوز له أن يشهد ؟ [ ص: 129 ] ولكن الجواز قد حكاه القاضي حسين في " فتاواه " عن المحدثين ، ولم يحك عنهم خلافه ; إما بالنظر لما استقر عليه عملهم - كما نقله ابن دقيق العيد - أو لكونه مذهب أكثرهم كما اقتضاه تقرير ابن الصلاح في كونه لا فرق بين مسألتنا والأولى التي الأكثر فيها على الجواز .

وعلى هذا المذهب مشى شيخنا ، بل وجد في ( صحيح ابن حبان ) بلاغا بخطه عند موضع منه ، وفي أوله أثبت ما يدل لأزيد منه ، فحكى حين إيراد سنده صورة الحال مع غلبة الظن بصحة كل منهما ، وعدم منافاة أحدهما للآخر ، ولذا أقول : إنه يحسن الإفصاح بالواقع ، بل قال العز بن جماعة : إنه يتعين .

ثم إنه لكون المعتمد أن نسيانه غير مؤثر يجوز للفرع رواية ما سمعه من شيخه مع تصريح الشيخ بعد تحديثه إياه بما يقتضي نسيانه ، ولذا قال ابن كثير هنا : وهذا يشبه ما إذا نسي الراوي سماعه ، فإنه يجوز لمن سمعه منه روايته عنه ، ولا يضره نسيان شيخه . انتهى .

على أن ابن الصباغ قد حكى في ( العدة ) في هذه الصورة إسقاط المروي عن أصحاب أبي حنيفة كما تقدم في الفصل العاشر من معرفة من تقبل روايته ، مع الإشارة للتوقف فيه ، فإما أن يخص بالمتأخرين منهم كما صرح به الخطيب ، أو يستثنى أبو يوسف ومحمد من أصحابه ، أو يفرق بين البابين .

وبقيت مسألة أخرى عكس التي قبلها ، وهي ما إذا كان ذاكرا لسماعه ، ولكن لم يجد بذلك خطا ، وقد قال القاضي حسين في " فتاواه " : إن مقتضى الفقه [ ص: 130 ] الجواز . ونقل المنع عن المحدثين .

وقال الفرغاني : الديانة لا توجب روايته ، والعقل لا يجيز إذاعته ; لأنه في صورة كذاب وإن كان صادقا في نفس الأمر . قال : وللراوي أن يقلده فيه إذا احتاج إليه وعلم حفظه لما فيه ، إلا أنه لا يجوز له أن يكتب سماعه على كتابه لئلا يوهم الجزم بصحته . انتهى . والمعتمد الجواز .

ثم إن محل الجواز كما قال ابن الصلاح - يعني في مسألتي اعتماد الكتاب في المسموع وأصل السماع - إذا سكنت نفسه إلى صحته ، ولم يتشكك فيه ، فإن تشكك - يعني في تطرق التزوير ونحوه إليه ، بحيث لم تسكن نفسه إلى صحته ، أو كان كل من الطرفين على حد سواء ، فلا .

قال ابن معين : ( من لم يكن سمحا في الحديث - بمعنى أنه إذا شك في شيء تركه - كان كذابا ) .

وعن الشافعي أن مالكا كان إذا شك في شيء من الحديث تركه كله .

ونحوه تقييد غيره بما إذا لم تظهر فيه قرينة التغيير ; لأن الضرورة دعت لاعتماد الكتاب المتقن من جهة انتشار الأحاديث والرواية انتشارا يتعذر معه الحفظ لكله عادة ، فلو لم نعتمد غلبة الظن في ذلك لأبطلنا جملة من السنة أو أكثرها .

وكذا خص بعض المتشددين الجواز بما إذا لم يخرج الكتاب عن يده بعارية أو غيرها ، قال بعضهم : ( وهو احتياط حسن . يقرب منه صنيع المتقدمين أو جلهم في المكاتبة حيث يختمون الكتاب كما تقدم في محله ) .

وممن امتنع من رواية ما غاب عنه محمد بن عبد الله الأنصاري ، وإسماعيل بن العباس جد أبي بكر الإسماعيلي ، وهو مقتضى صنيع ابن مهدي حيث جلس مع من رام استعارة كتابه حتى نسخ منه ، وقال : خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن ; [ ص: 131 ] الحكم والحديث .

وابن المبارك ورواه نازلا عن الذي أخذ منه الكتاب من رفقائه عن ذاك الشيخ فإنه قال : سمعت أنا وغندر حديثا من شعبة ، فباتت الرقعة عند غندر ، فحدثت به عن غندر ، عن شعبة . وهو شبيه بمن كان يروي عن تلميذه عن نفسه ما نسي أنه حدث التلميذ به في آخرين .

والأصح أنه ( إن يغب ) الكتاب عنه غيبة طويلة فضلا عن يسيرة ، بإعارة أو ضياع أو سرقة ، ( وغلبت ) على الظن ( سلامته ) من التغيير والتبديل ( جازت لدى ) ; أي : عند ( جمهورهم ) كيحيى بن سعيد القطان وفضيل بن ميسرة وغيرهما من المحدثين كما حكاه الخطيب وجنح إليه .

( روايته ) لا سيما إذا كان ممن لا يخفى عليه في الغالب إذا غير ذلك أو شيء منه ; لأن باب الرواية مبني على غلبة الظن ، فإذا حصل أجزأ ، ولم يشترط مزيد عليه .

قال الخطيب : ( وهكذا الحكم في الرجل يجد سماعه في كتاب غيره ) ، وقد قال أحمد : إنه لا بأس به إذا عرف الخط .

وقيده القاضي أبو الطيب الطبري بأن يعرف الشيخ ، وذلك أن الخطيب سأله عمن وجد سماعه في كتاب من شيخ قد سمي ونسب في الكتاب غير أنه لا يعرفه ; أي : الشيخ ، فقال : لا تجوز له رواية ذلك الكتاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية