فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ جواز اختصار الحديث مطلقا ] :

( أو ) هو القول الثاني ( أجز ) ذلك مطلقا احتاج إلى تغيير لا يخل بالمعنى أم لا ، تقدمت روايته له تاما أم لا ، لما سيجيء [ ص: 152 ] قريبا ، وبه قال مجاهد حيث قال : انقص من الحديث ما شئت ، ولا تزد فيه . ونحوه قول ابن معين : إذا خفت أن تخطئ في الحديث فانقص منه ولا تزد . ونسبه عياض لمسلم ، والموجود عنه ما سيأتي .

[ جواز اختصار الحديث مع الشروط ] :

( أو ) وهو القول الثالث : التفصيل ، فأجزه ( إن أتم ) بضم أوله مبنيا للمفعول ، إيراده منه أو من غيره مرة بحيث أمن بذلك من تفويت حكم أو سنة أو نحو ذلك ، وإلا فلا ، وإن جازت عند قائله - كما قال ابن الصلاح ومن تبعه - الرواية بالمعنى .

( أو ) وهو القول الرابع بتفصيل آخر : فأجزه ، كما ذهب إليه الجمهور ، إن وقع ( لعالم ) عارف ، وإلا فلا ، ( ومز ) . أي : ميز ( ذا ) القول عن سائرها بوصفه ( بالصحيح إن يكن ما اختصره ) بالحذف من المتن ( منفصلا عن ) القدر ( الذي قد ذكره ) منه غير متعلق به ، بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة فيما نقله بترك ما حذفه كالاستثناء ، مثل قوله : ( لا يباع الذهب بالذهب إلا سواء بسواء ) . والغاية ، مثل قوله : ( لا يباع النخل حتى تزهى ) . والشرط ونحوها .

قال صاحب ( المستصفى ) : ومن جوزه شرط عدم تعلق المذكور بالمتروك تعلقا يغير معناه ، فأما إذا تعلق به ، كشرط العبادة أو ركنها ، فنقل البعض تحريف وتلبيس . [ ص: 153 ] قال الخطيب : ولا فرق بين أن يكون ذلك تركا لنقل العبادة ، كنقل بعض أفعال الصلاة ، أو تركا لنقل فرض آخر هو شرط في صحة العبادة ، كترك نقل وجوب الطهارة ونحوها . قال : ( وعلى هذا الوجه يحمل قول من قال : لا يحل الاختصار ) . انتهى .

ومن الأمثلة لبعض هذا مما ذكره إمام الحرمين حديث ابن مسعود : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة يستنجي بهما فألقى الروثة ، وقال : ( إنها رجس ، ابغ لي ثالثا ) فلا يجوز الاقتصار على ما عدا قوله : ( ابغ لي ثالثا ) .

وإن كان لا يخل برمي الروثة وأنها رجس ، لإيهامه الاكتفاء بحجرين ، لكن فرق الإمام لمثل هذا بين أن يقصد الراوي الاحتجاج به لمنع استعمال الروث ، فيسوغ حينئذ ، أو لم يقصد غرضا خاصا فلا . وفيه توقف .

ثم إن ما ذهب إليه الجمهور لا ينازع فيه من لم يجز النقل بالمعنى ; لأن الذي نقله ، والذي حذفه ، والحالة هذه ، بمنزلة خبرين منفصلين في أمرين لا تعلق لأحدهما بالآخر ، وإليه الإشارة بقول مسلم في مقدمة ( صحيحه ) : إنه لا يكرر إلا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى ، أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك ; لأن المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام ، فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة ، أو يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن ، ولكن تفصيله ربما عسر من جملته ، فإعادته بهيئته إذا ضاق ذلك أسلم .

فأما ما وجدنا بدا من إعادته [ ص: 154 ] بجملته من غير حاجة منا إليه فلا نتولى فعله . والقصد أن في قوله : " إذا أمكن " وكذا في قوله : " ولكن تفصيله " إلى آخره . الإشارة إلى ما ذهب إليه الجمهور ، وأنه لا يفصل إلا ما لا ارتباط له بالباقي ، حتى إنه لو شك في الارتباط أو عدمه تعين ذكره بتمامه وهيئته ليكون أسلم ، مخافة من الخطأ والزلل . قاله النووي .

وسواء في الجواز للعارف بشرطه ، رواه هو أو غيره ، تاما أم لا ، قبل أو بعد ، لكن محل تسويغ روايته أيضا ناقصا إذا كان رفيع المنزلة في الضبط والإتقان والثقة بحيث لا يظن به زيادة ما لم يسمعه ، أو نسيان ما سمعه لقلة ضبطه وكثرة غلطه ، ( و ) إلا فـ ( ما لذي ) بكسر اللام وذال معجمة ، أي : صاحب خوف من تطرق ( تهمة ) إليه بذلك ( أن يفعله ) سواء رواه كذلك ابتداء حيث علم من روايته له أيضا بعد أو من غيرها أنه عنده بأزيد ، أو بعد روايته له تاما ، بل واجب عليه أن ينفي هذه الظنة عن نفسه ، كما صرح به الخطيب وغيره .

وكذا قال الغزالي في ( المستصفى ) بعد اشتراطه في الجواز روايته مرة بتمامه : إن شرطه ألا يتطرق إليه سوء الظن بالتهمة ، فإن علم أنه يتهم باضطراب النقل وجب الاحتراز عنه .

وممن أشار لوجوب التحرز للخوف من إساءة الظن ابن دقيق العيد ، وعبارته : إن التحرز متأكد في حق العلماء ومن يقتدى به ، فلا [ ص: 155 ] يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب الظن السوء بهم وإن كان لهم فيه مخلص ; لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم . ولكن في كلام البيهقي والخرائطي ما يشهد للاستحباب ، وهو ظاهر كما بينته في موضع آخر .

( فإن ) خالف ( وأبى ) إلا أن يرويه ناقصا لعدم وجوب ذلك عنده ، ( فجاز ) لهذا العذر ، كما صرح به سليم الرازي : إذا لم يكن رواه قبل تاما ( ألا يكمله ) بعد ذلك ، ويكتم الزيادة ، وتوقف فيه العز بن جماعة ; لأن المفسدة المرتبة على الكتم وتضييع الحكم أشد من الاتهام وما يتعلق به ، وأشد المفسدتين يترك بارتكاب الأخف إذا تعين طريقا خصوصا .

والزيادة غير قادحة ، وأخص منه إذا قلنا : إنها مقبولة . وكيف يكون ذلك عذرا في شيء تحمله عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن يحمل العذر على أنه عذر في التأخير لا في الإهمال ، ويتطرق إلى هذا أيضا الكلام في وقت الحاجة باعتبار التأخير عنها .

نعم قيد ابن الصلاح المنع من الاختصار ممن هذا حاله بمن تعين عليه أداء تمامه فإنه قال : إن من اتصف بتطرق الاتهام إليه وكان قد تعين عليه أداء تمامه لا يجوز له أن يرويه ابتداء ناقصا ; لأنه بذلك يعرض الزائد لإخراجه عن حيز الاستشهاد به أو المتابعة ونحوها .

ومن الأدلة لهذا القول ما احتج به عبد الغني بن سعيد الحافظ لمطلق الجواز ، [ ص: 156 ] وهو أنه صلى الله عليه وسلم قام ليلة بآية يرددها حتى أصبح ، وصلى صلاة ابتدأ فيها بسورة حتى إذا بلغ ذكر موسى أو عيسى أخذته سعلة فركع .

وإذا كان سيد الخلق قد فعل هذا في سيد الحديث وهو القرآن ، ففصل بعضه من بعض ; كان غيره بذلك أولى . ولكنا نقول على تقدير تسليم الاستدلال به : العلة في جوازه في القرآن ، وهي حفظه في الصدور ، موجودة والحالة هذه ، حيث أمنا الإلباس من حذف الباقي .

ونحوه أنه صلى الله عليه وسلم قال لبلال رضي الله عنه : ( قد سمعتك يا بلال وأنت تقرأ من هذه السورة ، ومن هذه السورة ) قال : كلام طيب يجمعه الله تعالى بعضه إلى بعض . فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم . رواه أبو داود وغيره .

وكذا من أدلة الجواز - فيما قيل - قوله صلى الله عليه وسلم : ( نضر الله من سمع مقالتي فلم يزد فيها ) إذ لو لم يجز النقص لذكره كما ذكر الزيادة ، وأيضا فعمدة الرواية في التجويز هو الصدق ، وعمدتها في التحريم هو الكذب ، وفي مثل ما ذكرناه الصدق حاصل ، فلا وجه للمنع . قاله ابن دقيق العيد قال : فإن احتاج ذلك إلى تغيير لا يخل بالمعنى فهو خارج على جواز الرواية بالمعنى ، وكل ما تقدم في الاقتصار على بعض الحديث في الرواية .

التالي السابق


الخدمات العلمية