فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ وجوب تعلم علم النحو ] :

وللخوف من الوعيد ( فحق النحو ) يعني : الذي حقيقته علم بأصول مستنبطة من اللسان العربي وضعت حين اختلاط العجم ونحوهم بالعرب ، واضطراب العربية بسبب ذلك ، يعرف بها أحوال الكلمة العربية إفرادا وتركيبا ، وكذا اللغة التي هي العلم بالألفاظ الموضوعة للمعاني ليتوصل بها إليها تكلما ، ( على من طلبا ) الحديث ، وأن يتعلم من كل منهما ما يتخلص به عن شين اللحن والتحريف .

وظاهره الوجوب ، وبه صرح العز بن عبد السلام حيث قال في أواخر ( القواعد ) : البدعة خمسة أقسام ، فالواجبة كالاشتغال بالنحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله ; لأن حفظ الشريعة واجب لا يتأتى إلا بذلك ، [ ص: 161 ] فيكون من مقدمة الواجب . ولذا قال الشعبي : ( النحو في العلم كالملح في الطعام لا يستغني شيء عنه ) .

ثم قال العز : وكذا من البدع الواجبة شرح الغريب ، وتدوين أصول الفقه ، والتوصل إلى تمييز الصحيح والسقيم . يعني بذلك علم الحديث . ثم ذكر المحرمة والمندوبة والمباحة ، ثم قال : وقد يكون بعض ذلك - يعني ما ذكر في المباحة - مكروها أو خلاف الأولى . وكذا صرح غيره بالوجوب أيضا .

لكن لا يجب التوغل فيه ، بل يكفيه تحصيل مقدمة مشيرة لمقاصده بحيث يفهمها ويميز بها حركات الألفاظ وإعرابها ، لئلا يلتبس فاعل بمفعول ، أو خبر بأمر ، أو نحو ذلك ، وإن كان الخطيب قال في ( جامعه ) : ( إنه ينبغي للمحدث أن يتقي اللحن في روايته ، ولن يقدر على ذلك إلا بعد دربة النحو ، ومطالعته علم العربية ) . ثم ساق عن الإمام أحمد أنه قال : ( ليس يتقي من لا يدري ما يتقي ) .

وممن أشار لذلك شيخنا فقال : وأقل ما يكفي من يريد قراءة الحديث أن يعرف من العربية ألا يلحن .

ويستأنس له بما رويناه أنهم كانوا يؤمرون ، أو قال القائل : كنا نؤمر أن نتعلم القرآن ، ثم السنة ، ثم الفرائض ، ثم العربية الحروف الثلاثة . وفسرها بالجر والرفع والنصب ، وذلك لأن التوغل فيه قد يعطل عليه إدراك هذا الفن الذي صرح أئمته بأنه لا يعلق إلا بمن قصر نفسه عليه ، ولم يضم غيره إليه .

وقد قال أبو أحمد بن فارس في جزء " ذم الغيبة " : إن غاية علم النحو وعلم ما يحتاج إليه منه أن يقرأ فلا يلحن ، ويكتب فلا يلحن ، فأما ما عدا ذلك ، فمشغلة [ ص: 162 ] عن العلم وعن كل خير . وناهيك بهذا من مثله .

وقال أبو العيناء لمحمد بن يحيى الصولي : ( النحو في العلوم كالملح في القدر ، إذا أكثرت منه صار القدر زعاقا ) .

وعن الشافعي قال : إنما العلم علمان : علم للدين ، وعلم للدنيا ، فالذي للدين الفقه ، والآخر الطب ، وما سوى ذلك من الشعر والنحو فهو عناء وتعب . رويناه في " جزء ابن حكمان " ، وعلى ذلك يحمل حال من وصف من الأئمة باللحن ، كإسماعيل بن أبي خالد الأحمسي ، وعوف بن أبي جميلة ، وأبي داود الطيالسي ، وهشيم ، ووكيع ، والدراوردي .

وقرأ عبد الله بن أحمد بن موسى عبدان حال تحديثه وابن سريج يسمع : " من دعي فلم يجب " . بفتح التحتانية ، فقال له ابن سريج : أرأيت أن تقول : يجب . يعني : بضمها ، فأبى أن يقول ، وعجب من صواب ابن سريج ، كما عجب ابن سريج من خطئه في آخرين ممن لا أطيل بإيراد أخبارهم لا سيما وقد شرعت في جزء في ذلك ، وإليهم أشار السلفي لما اجتمع بأبي حفص عمر بن يوسف بن محمد بن الحذاء القيسي الصقلي بالثغر ، والتمس منه السماع وتعلل بأمور عمدته فيها التحرز من الوقوع في الكذب ; لأنه لم يتقدم له قراءة في العربية ، بقوله : ( وقد كان في الرواة على هذا الوضع قوم ، واحتج برواياتهم في الصحاح ، ولا يجوز تخطئتهم وتخطئة من أخذ عنهم ) . وسبقه النسائي فقال فيما رواه الخطيب في ( الكفاية ) [ ص: 163 ] من طريقه : إنه لا يعاب اللحن على المحدثين ، وقد كان إسماعيل بن أبي خالد يلحن وسفيان . وذكر ثالثا . ثم قال : وغيرهم من المحدثين .

وقال السلفي أيضا في ترجمة محمد بن عبيد الله بن محمد بن عبيد الله بن كادش الحنبلي : إنه كان قارئ بغداد ، والمستملى بها على الشيوخ ، وهو في نفسه ثقة كثير السماع ، ولم يكن له أنس بالعربية ، وكان يلحن لحن أصحاب الحديث .

وقال ابن ماكولا : أخبرني أبو القاسم بن ميمون الصدفي : أنا عبد الغني الحافظ قال : قرأت على القاضي أبي الطاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر الذهلي كتاب ( العلم ) ليوسف القاضي ، فلما فرغت قلت له : قرأته عليك كما قرأته أنت . قال : نعم ، إلا اللحنة بعد اللحنة . فقلت له : أيها القاضي ، أفسمعته أنت معربا ؟ قال : لا . قلت : هذه بهذه ، وقمت من ليلتي فجلست عند ابن اليتيم النحوي .

وقال أبو بكر بن الحداد الفقيه : قرأت على أبي عبيد علي بن حسين بن حرب المعروف بابن حربويه جزءا من حديث يوسف بن موسى ، فلما قرأت قلت : قرأت كما قرئت عليك ؟ قال : نعم ، إلا الإعراب ، فإنك تعرب ، وما كان يوسف يعرب .

وفي ( اللقط ) للبرقاني ، وعنه رواه الخطيب في [ ص: 164 ] ( الكفاية ) من طريق عبد الملك بن عبد الحميد بن ميمون بن مهران قال : سألت أحمد بن حنبل عن اللحن في الحديث - يعني إذا لم يغير المعنى - فقال : لا بأس به .

وأما ما ورد من الذم الشديد لمن طلب الحديث ولم يبصر العربية ، كقول شعبة : إن مثله كمثل رجل عليه برنس وليس له رأس . وقول حماد بن سلمة : إنه كمثل الحمار عليه مخلاة لا شعير فيها . الذي نظمه جعفر السراج شيخ السلفي في قوله :


مثل الطالب الحديث ولا يحسن نحوا ولا له آلات     كحمار قد علقت ليس فيها
من شعير برأسه مخلات

فذاك في حق من لم يتقدم له فيها عمل أصلا ، على أن رب شخص يزعم معرفته بذلك ، وهو إن قرأ لحنه النحاة ، وخطأه لتصحيفه الرواة ، فهو كما قيل :


هو في الفقه فاضل لا يجارى     وأديب من جملة الأدباء
لا إلى هؤلاء إن طالبوه     وجدوه ولا إلى هؤلاء

وقد كان لعمرو بن عون الواسطي مستمل يلحن كثيرا فقال : أخروه . وتقدم إلى وراق كان ينظر في الأدب والشعر أن يقرأ عليه ، فكان لكونه لا يعرف شيئا من الحديث يصحف في الرواة كثيرا ، فقال عمرو : ردونا إلى الأول ، فإنه وإن كان يلحن فليس يمسخ . ونحو هذا الصنيع ترجيح شيخنا من عرف مشكل [ ص: 165 ] الأسماء والمتون دون العربية على من عرف العربية فقط .

التالي السابق


الخدمات العلمية