فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ المذهب الراجح في إصلاح اللحن ] :

( ومذهب المحصلين ) والعلماء من المحدثين ، كما صرح به الخطيب في ( جامعه ) ، ومنهم همام ، وابن المبارك ، وابن [ ص: 169 ] عيينة ، والنضر بن شميل ، وأبو عبيد ، وعفان ، وابن المديني ، وابن راهويه ، والحسن بن علي الحلواني ، والحسن بن محمد الزعفراني ، وغيرهم ممن سأحكيه عنهم وغيرهم ، وصوبه من المتأخرين ابن كثير ، أنه ( يصلح ) فيغير ( ويقرأ الصواب ) من أول وهلة . قال الأوزاعي : أعربوا الحديث ، فإن القوم كانوا عربا .

وعنه أيضا : لا بأس بإصلاح اللحن في الحديث . وممن حكي ذلك عنه الشعبي ، وعطاء ، والقاسم بن محمد ، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ، حيث سئلوا عن الرجل يحدث بالحديث فيلحن ; أيرويه السامع له كذلك أم يعربه ؟ فقالوا : بل يعربه . ذكره ابن أبي خيثمة في كتاب ( الإعراب ) له .

وعن الأعمش قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلحن ، فقوموه . وروينا في " جزء عبد الله بن أحمد الخرقي " عن علي بن الحسن قال : قلت لابن المبارك : يكون في الحديث لحن ، نقومه ؟ قال : نعم ، القوم لم يكونوا يلحنون ، اللحن منا . وعن عباس الدوري أنه قيل لابن معين : ما تقول في الرجل يقوم للرجل حديثه ، يعني ينزع منه اللحن ، فقال : لا بأس به .

وقال أبو داود : كان أحمد بن صالح يقوم كل لحن في الحديث . قال الخطيب : وهذا إجماع منهم على أن إصلاح اللحن جائز .

وقال في ( الجامع ) : إن الذي نذهب إليه رواية الحديث على الصواب ، وترك اللحن فيه وإن كان قد سمع ملحونا ; لأن من اللحن ما يحيل الأحكام ، ويصير الحرام حلالا ، والحلال حراما ، فلا يلزم اتباع السماع فيما هذه سبيله . ومقتضاه أنه لا فرق في ذلك بين المغير للمعنى وغيره .

( وهو ) أي الإصلاح ( الأرجح في اللحن ) الذي ( لا يختلف المعنى به ) وفي أمثاله ، أما الذي يختلف المعنى به فيصلح عند المحصلين جزما . وعبارة بعض المتأخرين في المغير للمعنى : لا تجوز الرواية له اتفاقا . قال عبد الله بن [ ص: 170 ] أحمد : ما زال القلم في يد أبي حتى مات ، وكان يقول : إذا لم يتصرف الشيء في معنى فلا بأس أن يصلح . أو كما قال .

واحتج ابن المنير لهذا المذهب بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث : ( نضر الله ) : ( فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ) . يعني لما فيه من الإشارة إلى عدم تقليد الراوي في كل ما يجيء به .

وكذا احتج له ابن فارس بقوله في الحديث المشار إليه : ( فبلغها كما سمع ) لكون المراد به : كما سمع من صحة المعنى واستقامته من غير زيادة ولا نقص .

وقد قال بعضهم كما روينا في ( جامع الخطيب ) : إذا كتب لحان ، وعن اللحان آخر مثله .

وعن الثاني ثالث مثله صار الحديث بالفارسية . ونحوه ما قيل في ترك المقابلة كما تقدم .

قال ابن الصلاح : والقول به ، أي بالرواية على الصواب مع الإصلاح ، لازم على مذهب الأكثرين في تجويز الرواية بالمعنى . فقوله : لازم . يحتمل الوجوب ; لأنه إذا جاز التغيير في صواب اللفظ فلا يمتنع أن يجب في خطئه ، ولكن الظاهر أنه إنما أراد مجرد إلزامهم القول به لكونه هنا آكد ، لا سيما وقد صرح الخطيب بالجواز فقال : وقد أجاز بعض العلماء ألا يذكر الخطأ الحاصل في الكتاب إذا كان متيقنا ، بل يروى على الصواب .

بل كلامه في ( الكفاية ) قد يشير إلى الاتفاق عليها ، فإنه قال : إذا كان اللحن يحيل المعنى فلا بد من تغييره ، وكثير من الرواة يحرفون الكلام عن وجهه ، ويزيلون الخطاب عن موضعه ، وليس يلزم من أخذ عمن هذه سبيله أن يحكي لفظه إذا عرف وجه [ ص: 171 ] الصواب ، وخاصة إذا كان الحديث معروفا ، ولفظ العرب به ظاهرا معلوما ، ألا ترى أن المحدث لو قال : لا يؤم المسافر المقيم . بنصب المسافر ورفع المقيم ، كان قد أحال المعنى ؟ فلا يلزم اتباع لفظه .

ونحوه قول عبد الله بن أحمد : كان إذا مر بأبي لحن فاحش غيره ، وإن كان سهلا تركه وقال : كذا قال الشيخ .

وكذا يشبه أن يكون محل الخلاف فيما لم يكن مجمعا على الخطأ فيه ، إما بالاستقراء التام للسان العرب ، أو بوضوح الأمر فيه ، وقد صرح ابن حزم في ( الإحكام ) له فيما يكون كذلك بالتحريم ، فإنه قال : إن الواقع في الرواية إن كان لا وجه له في الكلام ألبتة حرم عليه تأديته ملحونا ، لتيقننا أنه صلى الله عليه وسلم لم يلحن قط ، وإن جاز ولو على لغة بعض العرب أداه كما سمعه .

ونحوه قول أبي عمران الفسوي فيما حكاه عنه القابسي : إن كان مما لا يوجد في كلام أحد من العرب قرئ على الصواب وأصلح ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن ، وإن كان مما يقوله بعض العرب ولم يكن في لغة قريش ، فلا ; لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكلم الناس بلغتهم . يعني كقوله على لغة الأشعريين في قلب اللام ميما : ( ليس من امبر امصيام في امسفر ) .

ومن ثم أشار ابن فارس إلى التروي في الحكم على الرواية بالخطأ ، والبحث الشديد ، فإن اللغة واسعة ، بل قال ابن الصلاح : إن كثيرا ما نرى ما يتوهمه كثير من أهل العلم خطأ ، وربما غيروه ، صوابا ذا وجه صحيح ، وإن خفي واستغرب ، لا سيما فيما يعدونه خطأ من جهة العربية .

وذلك لكثرة لغات العرب [ ص: 172 ] وتشعبها ، هذا أبو الوليد الوقشي مع تقدمه في اللغة وكثرة مطالعته وافتنانه وثقوب فهمه وحدة ذهنه ، كان يبادر إلى الإصلاح ، ثم يتبين الصواب فيما كان في الرواية ، كما قدمته في التصحيح والتمريض ، وكذلك غيره ممن سلك مسلكه ، لا سيما وقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام : لأهل العربية لغة ، ولأهل الحديث لغة ، ولغة أهل العربية أقيس ، ولا نجد بدا من اتباع لغة أهل الحديث من أجل السماع .

ورئي بعض أهل الحديث في المنام وكأنه قد مر من شفته أو لسانه شيء فقيل له في ذلك ، فقال : لفظة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرتها برأيي ، ففعل بي هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية