فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ كيف يستدرك ما درس في الكتاب ؟ ] :

( و ) كذا ( صححوا ) أي : أهل الحديث ، ( استدراك ما درس في كتابه ) بتقطيع أو بلل أو نحوهما ، ( من ) كتاب آخر ( غيره إن يعرف ) المستدرك ( صحته ) أي ذاك الكتاب ، بأن يكون صاحبه ثقة ممن أخذه عن شيخه ، أو نحو ذلك ، بحيث تسكن نفسه إلى أن ذلك هو الساقط من كتابه ، فقد فعله نعيم بن حماد وغيره ، إذا كان الساقط ( من بعض متن أو ) بعض ( سند ) كما قيده الخطيب ومن تبعه ، وكذا ولو كان أكثر حيث اتحد الطريق في المروي ، ولم تتنوع المرويات ، بناء على الاكتفاء بذلك في المقابلة والرواية كما تقرر في محله .

[ ص: 176 ] وامتنع أبو محمد بن ماسي من مطلق الاستدراك ، فإنه احترقت بعض كتبه ، وأكلت النار بعض حواشيها ، ووجد نسخا منها فلم ير أن يستدرك المحترق منها .

قال الخطيب : واستدراك مثل هذا عندي جائز . يعني بشرطه المتقدم . ( كما ) يجوز فيما ( إذا ) شك الراوي في شيء ، و ( ثبته ) فيه ( من يعتمد ) عليه ثقة وضبطا ، من حفظه أو كتابه ، أو أخذه هو من كتابه ، حسبما فعله عاصم ، وأبو عوانة ، ويزيد بن هارون ، وأحمد ، وابن معين ، وغيرهم ، إذ لا فرق ، ( وحسنوا ) فيهما ( البيان ) كما صرح به الخطيب في الأولى ، وحكاه في الثانية عن يزيد بن هارون فإنه قال : أنا عاصم ، وثبتني فيه شعبة . وعن ابن عيينة فإنه قال : حدثنا الزهري ، وثبتني فيه معمر . وممن فعله ابن خزيمة .

وقال البخاري في باب تعديل النساء بعضهن بعضا : حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود ، وأفهمني بعضه أحمد بن يونس ، ثنا فليح . وساق الحديث ، واختلف : هل أحمد رفيق أبي الربيع في الرواية عن فليح ، ويكون البخاري حمله عنهما جميعا على الكيفية المذكورة ، أو رفيق البخاري في الرواية عن أبي الربيع ؟ ولكن لسنا بصدد بيانه هنا .

وفي باب تشبيك الأصابع في المسجد قبيل المساجد التي على طرق المدينة من ( صحيح البخاري ) أيضا من حديث عاصم بن علي ، ثنا عاصم بن محمد - هو ابن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب - قال : سمعت هذا الحديث من أبي فلم أحفظه ، فقومه لي واقد ، يعني أخاه ، عن أبيه - هو محمد بن [ ص: 177 ] زيد - قال : سمعت أبي - هو زيد بن عبد الله بن عمر - وهو يقول : قال عبد الله - يعني أباه - : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عبد الله بن عمرو ، كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس ؟ ) ، وفي باب قوله : ( واجتنبوا قول الزور ) من الأدب أورد حديثا عن أحمد بن يونس عن ابن أبي ذئب ، ثم قال في آخره : قال أحمد : أفهمني رجل إسناده .

وأخرج أبو داود الحديث المشار إليه عن أحمد بن يونس ، لكنه عكس فقال في آخره : قال أحمد : فهمت إسناده من ابن أبي ذئب ، فأفهمني الحديث رجل إلى جنبه ، أراه ابن أخيه .

وهكذا أخرجه الإسماعيلي عن إبراهيم بن شريك ، عن أحمد بن يونس . قال شيخنا : فيحمل على أن ابن يونس حدث به على الوجهين .

وفي باب ( قوموا إلى سيدكم ) من الاستئذان ساق حديثا عن أبي الوليد ، ثم قال في آخره : أفهمني بعض أصحابي عن أبي الوليد . ونحو هذا قول ابن عمر بعد قوله : ويزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ويهل أهل اليمن من يلملم ) لم أفقه هذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وصار يروي هذه الجملة عن غيره مع كونه سمعها ، لكن لم يفقهها .

وفي ( البخاري ) أيضا في أواخر الأحكام عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( يكون اثنا عشر أميرا ) فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : ( كلهم من قريش ) .

وأخرجه أبو داود بلفظ : ( لا يزال هذا الدين عزيزا إلى اثني عشر خليفة ) قال : فكبر الناس وضجوا ، فقال كلمة خفية ، وفي لفظ : كلاما لم أفهمه ، فقلت لأبي : يا أبه ، ما قال ؟ فذكره .

وأصله عند [ ص: 178 ] مسلم دون قوله : ( فكبر الناس وضجوا ) .

ووقع عند الطبراني من وجه آخر : فالتفت فإذا أنا بعمر بن الخطاب وأبي في أناس ، فأثبتوا لي الحديث .

على أنه روي بدون بيان ، ولكن هذا أرجح ، وعن عقبة بن عامر وغيره من الصحابة كما أشار إليه ابن كثير نحوه .

وروى الشافعي عن مالك رحمهما الله حديث مالك بن أوس بن الحدثان في الصرف بلفظ : حتى يأتي خازني من الغابة . أو قال : جاريتي . ثم قال : أنا شككت ، وقد قرأته على مالك صحيحا لا شك فيه ، ثم طال علي الزمان ولم أحفظ حفظا ، فشككت في جاريتي أو خازني ، وغيري يقول عنه : خازني .

وقد تقدم شيء مما نحن فيه في الفرع الخامس من الفروع التالية لثاني أقسام التحمل ، وهذا الفرع مما يفترق فيه الرواية مع الشهادة ، وإن استدل بعضهم لأصله بقوله تعالى : فتذكر إحداهما الأخرى فإن بين ولم يعين من ثبته فلا بأس ، كما في بعض هذه الأمثلة ، وقد فعله أبو داود أيضا في ( سننه ) عقب حديث الحكم بن حزن الكلفي فقال : ثبتني في شيء منه بعض أصحابنا .

( وكـ ) مسألة ( المستشكل كلمة ) من غريب العربية أو غيرها ; لكونه وجدها ( في أصله ) غير مقيدة ، ( فليسأل ) أي فلأجل ذلك يسأل عنها أهل العلم بها واحدا فأكثر ، وليروها على ما يخبر به ، وقد أمر أحمد بذلك ، فإنه سئل عن حرف فقال : سلوا عنه أصحاب الغريب ، فإني أكره أن أتكلم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظن . وسيأتي في الغريب .

وروى الخطيب في ذلك عنه أن رجلا قال له : [ ص: 179 ] يا أبا عبد الله ، الرجل يكتب الحرف من الحديث لا يدري أي شيء هو ، إلا أنه قد كتبه صحيحا ; أيريه إنسانا فيخبره به ؟ فقال : لا بأس .

وعن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني النحوي قال : كان عفان يجيء إلى الأخفش وإلى أصحاب النحو ، فيعرض عليهم الحديث يعربه ، فقال له الأخفش : عليك بهذا . يعني أبا حاتم .

قال أبو حاتم : فكان عفان بعد ذلك يجيئني حتى عرض علي حديثا كثيرا .

وعن الأوزاعي أنه كان يعطي كتبه إذا كان فيها لحن لمن يصححها .

وعن ابن المبارك قال : إذا سمعتم مني الحديث فاعرضوه على أصحاب العربية ، ثم أحكموه . وعن ابن راهويه أنه كان إذا شك في الكلمة يقول : أهاهنا فلان ؟ كيف هذه الكلمة .

وسمع سعيد بن شيبان - وكان عالما بالعربية - ابن عيينة وهو يقول : " تعلق من ثمار الجنة " . بفتح اللام ، فقال له : " تعلق " يعني بضمها من " علق " ، يعني بفتح اللام ، فرجع ابن عيينة إليه .

وسمع الأصمعي شعبة وهو في مجلسه يقول : " فيسمعون جرش طير الجنة " قاله بالشين المعجمة ، .

فقال له الأصمعي : جرس . يعني بالمهملة .

فقال شعبة : خذوها عنه فإنه أعلم بهذا منا .

وسمع أبو محمد عبد الله بن محمد البافي شيخ الشافعية أبا القاسم الداركي أحد أئمة الشافعية أيضا يقول في تدريسه : إذا أزفت الحدود فلا شفعة .

فسأل عنها ابن جني النحوي فلم يعرفها ، فسأل المعافى بن زكريا فقال : أرفت ، يعني بالراء والفاء المشددة ، والأرف المعالم ، يريد إذا ثبتت الحدود وعينت المعالم وميزت فلا شفعة .

إذا علم هذا فمن أراد الاستثبات من غيره عن شيء عرض له فيه شك ، فلا يذكر [ ص: 180 ] له المحل المشكوك فيه ابتداء خوفا من أن يتشكك فيه أيضا ، بل يذكر له طرف ذاك الحديث فهو غالبا أقرب في حصول الأرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية