فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
السماع على نوع من الوهن أو عن رجلين .


( 678 ) ثم على السامع بالمذاكره بيانه كنوع وهن خامره      ( 679 ) والمتن عن شخصين واحد جرح
لا يحسن الحذف له لكن يصح      (680 ) ومسلم عنه كنى فلم يوف
والحذف حيث وثقا فهو أخف [ ص: 206 ] (      681 ) وإن يكن عن كل راو قطعه
أجز بلا ميز بخلط جمعه      (682 ) مع البيان كحديث الإفك
وجرح بعض مقتض للترك      ( 683 ) وحذف واحد من الإسناد
في الصورتين امنع للازدياد

[ بيان بعض الوهن الواقع في السماع ] : الفصل الثالث عشر وفيه مسألتان :

الأولى : ( السماع على نوع من الوهن أو ) بإسناد قرنت فيه الرواية ( عن رجلين ) فأكثر ، ( ثم ) بعد استحضار ما تقدم من التحري في الأداء ( على السامع ) من حفظ المحدث ( بالمذاكره ) أي : في المذاكرة ، ( بيانه ) على الوجه الواقع ، كأن يقول : أنا فلان مذاكرة . وذلك مستحب كما صرح به الخطيب .

وإن كان ظاهر كلام ابن الصلاح الوجوب ، فقد فعله بدون بيان غير واحد من متقدمي العلماء ، بل يقال مما الظاهر خلافه كما تقدم آخر رابع أقسام التحمل : إن ما يورده البخاري في ( صحيحه ) عن شيوخه بصيغة : قال لي . أو : قال لنا . أو : زادنا . أو : زادني . أو : ذكر لنا . أو : ذكر لي . ونحوها مما حمله عنهم في المذاكرة .

( كنوع وهن خامره ) أي خالطه ، بأن سمع من غير أصل ، أو كان هو أو شيخه يتحدث أو ينعس أو ينسخ في وقت الإسماع ، أو كان سماعه أو سماع شيخه بقراءة لحان أو مصحف ، أو كتابة التسميع حيث لم يكن المرء ذاكرا لسماع نفسه بخط من فيه نظر ، أو نحو ذلك .

وقد أورد أبو داود في ( سننه ) عن شيخه محمد بن العلاء حديثا ثم قال بعده : لم أفهم إسناده من ابن العلاء كما أحب . وكذا أورد فيها أيضا عن بندار حديثا طويلا ، ثم قال في آخره : خفي علي منه بعضه . لمشاركة السماع في المذاكرة غالبا لهذه الصور في الوهن ، إذ الحفظ خوان ، وربما يقع فيها بسبب ذلك التساهل ، [ ص: 207 ] بل أدرجها ابن الصلاح فيما فيه بعض الوهن .

ولذا منع ابن مهدي وابن المبارك وأبو زرعة الرازي وغيرهم من التحمل عنهم فيها ، وامتنع أحمد وغيره من الأئمة من رواية ما يحفظونه إلا من كتبهم . وفي إغفال البيان إيهام وإلباس يقرب من التدليس ، وكما يستحب البيان فيما تقدم ، كذلك يستحب بيان ما فيه دلالة لمزيد ضبط وإتقان ، كتكرر سماعه للمروي ، وقد فعله غير واحد من الحفاظ ، فيقولون : ثنا فلان غير مرة .

[ لا يحسن حذف المجروح إذا كان الحديث عنه وعن ثقة ] :

المسألة الثانية : ( والمتن عن شخصين ) مقرونين من شيوخه الذين أخذ عنهم أو ممن فوقهم ( واحد ) منهما ( جرح ) ، والآخر وثق ، كحديث لأنس يرويه عنه مثلا ثابت البناني وأبان بن أبي عياش ( لا يحسن ) للراوي على وجه الاستحباب ( الحذف له ) أي : للمجروح وهو أبان ، والاقتصار على ثابت ، خوفا من أن يكون فيه شيء عن أبان خاصة ، وحمل المحدث عنهما أو من دونه لفظ أحدهما على الآخر . قاله الخطيب .

( لكن يصح ) لأن الظاهر - كما قال ابن الصلاح - : اتفاق الروايتين ، وما ذكر من الاحتمال نادر بعيد ، فإنه من الإدراج الذي لا يجوز تعمده . نعم قال الخطيب : إن أحمد سئل عن مثله فقال فيه نحوا مما ذكرنا .

ثم ساق من طريق حرب بن إسماعيل أن أحمد قيل له في مثل هذا : أتجوز أن أسمي ثابتا وأترك أبانا ؟ قال : لا ، لعل في حديث أبان شيئا ليس في حديث ثابت . وقال : إن كان هكذا فأحب أن أسميهما . وهذا محتمل .

ويتأيد الاستحباب بسلوك مسلم مع حرصه على الألفاظ له ، فإنه أخرج في النكاح من ( صحيحه ) عن محمد بن عبد الله بن نمير ، عن عبد الله بن يزيد المقرئ ، [ ص: 208 ] عن حيوة بن شريح ، عن شرحبيل بن شريك ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو حديث : ( الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة ) . فإن هذا الحديث قد أخرجه النسائي عن محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، عن أبيه ، عن حيوة ، وذكر آخر ، كلاهما عن شرحبيل به .

وكذا أخرجه ابن حبان في ( صحيحه ) من حديث الحسين بن عيسى البسطامي ، عن المقرئ ، عن حيوة وذكر آخر قالا : ثنا شرحبيل . وأخرجه أحمد في ( مسنده ) عن أبي عبد الرحمن المقرئ ، عن حيوة وابن لهيعة قالا : ثنا شرحبيل . إذ الظاهر من تشديد مسلم حيث حذف المجروح أنه أورده بلفظ الثقة إن لم يتحد لفظهما .

ونحوه ما وقع له في موضع آخر من ( صحيحه ) حيث أخرج من طريق ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن شريح ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عبد الله بن عمرو حديث : ( إن الله لا يقبض العلم ) . ولم يسق لفظه ، بل أحال به على طريق هشام بن عروة المشهورة ، فتبين من تصنيف ابن وهب فيما أفاده ابن طاهر أن اللفظ لابن لهيعة .

وذلك أن ابن وهب أخرجه عن ابن لهيعة ، عن أبي الأسود . وساق الإسناد والمتن ثم عقبه بأن قال : وأخبرني عبد الرحمن بن شريح ، عن أبي الأسود بذلك .

لكن أفاد شيخنا في هذا المتن بخصوصه أن حذف ابن لهيعة من ابن وهب لا من مسلم ، وأنه كان يجمع بين شيخيه تارة ، ويفرد ابن شريح أخرى ، بل لابن وهب فيه شيخان آخران بسند آخر أخرجه ابن عبد البر في ( بيان العلم ) له من طريق سحنون : ثنا ابن وهب : ثنا مالك وسعيد بن عبد الرحمن ، كلاهما عن هشام [ ص: 209 ] باللفظ المشهور .

( ومسلم ) أيضا ( عنه ) أي عن المجروح ربما ( كنى ) حيث يصرح بالثقة ثم يقول : وآخر . وهو منه قليل بخلافه من البخاري ، فإنه أورد في تفسير النساء وآخر الطلاق والفتن وعدة أماكن ، من طريق حيوة وغيره .

وفي ( الاعتصام ) من طريق ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن شريح وغيره . والغير في هذه الأماكن كلها هو ابن لهيعة بلا شك ، وكذا أورد في الطب من رواية ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث وغيره ، وهو أيضا هو ، لكن فيما يغلب على الظن .

وفي العتق من رواية ابن وهب ، عن مالك وابن فلان كلاهما ، عن سعيد المقبري . والمبهم هنا هو عبد الله بن زيادة بن سمعان . وكذا أكثر منه النسائي وغيره ( فلم يوف ) مسلم ولا غيره ممن أشرنا إليه بالخروج من عهدة المجروح إن اختص عن الثقة بزيادة ، لكن الظن القوي بالشيخين أنهما علما اتفاقهما ولو بالمعنى .

ولهذا الصنيع حينئذ فائدتان ، وهما الإشعار بضعف المبهم وكونه ليس من شرطه ، وكثرة الطرق التي يرجح بها عند المعارضة . وإن أشار الخطيب إلى أنه لا فائدة في هذه الصورة الخاصة فضلا عن غيرها ، قال : لأنه إن كان لأجل ما اعتللنا به فخبر المجهول لا تتعلق به الأحكام ، إذ [ ص: 210 ] إثبات ذكره وإسقاطه سواء ، وإن كان عول على معرفته هو به ; فلماذا ذكره بالكناية عنه ، وليس بمحل للأمانة عنده .

قال : ولا أحسب استجازة إسقاطه ذكره والاقتصار على الثقة إلا لأن الظاهر اتفاق الروايتين في لفظ الحديث . يعني ممن يحرص على الألفاظ ، كمسلم الذي الاحتجاج بصنيعه فيه أعلى أو في معناه ، إن لم يتقيد باللفظ ، واحتاط في ذلك بذكر الكناية عنه مع الثقة تورعا ، وإن كان لا حاجة به إليه .

وقد أشار أبو بكر الإسماعيلي في ( مدخله ) إلى أنه في ( مستخرجه ) تارة يحذف الضعيف ، وتارة ينبه عليه فقال : وإذا كتبت الحديث - فيه أي في ( المستخرج ) - عن رجل يرويه عن جماعة ، وأحدهم ليس من شرط هذا الكتاب ; فإما أن أترك ذكره وأكتفي بالثقة الذي الضعيف مقرون إليه ، أو أنبه على أنه محكي عنه في الجملة ، وليس من شرط الكتاب . انتهى .

وإذا تقررت صحة حذف المجروح فالظاهر عدم صحة الاقتصار عليه ; لما قد ينشأ عنه من تضعيف المتن وعدم الاحتجاج به للقاصر أو المستروح ، وفيه من الضرر ما لا يخفى .

[ حكم إسقاط أحد الثقتين ] :

( و ) أما ( الحذف ) لأحد الراويين ( حيث وثقا ) كما وقع للبخاري في تفسير المدثر ، فإنه روى عن محمد بن بشار ، عن ابن مهدي وغيره كلاهما ، عن حرب بن شداد حديثا . وفسر الغير بأنه أبو داود الطيالسي الذي لم يخرج له البخاري شيئا ، ( فهو أخف ) مما قبله ; لأنه وإن تطرق مثل الاحتمال المذكور أولا إليه ، وهو كون شيء منه عن المحذوف خاصة فمحذور الإسقاط فيه أقل ; لأنه لا يخرج عن كون الراوي ثقة كما إذا قال : [ ص: 211 ] أخبرني فلان أو فلان . فإنه إن كانا ثقتين فالحجة به قائمة ; لأنه دائر بين ثقتين ، وإن كان أحدهما غير ثقة ، وهو نحو الصورة الأولى ، لا يكون الخبر حجة ، لاحتمال اختصاصه بشيء من الخبر عن الآخر ، وإن كان الظاهر من المحتري خلافه كما قرر .

التالي السابق


الخدمات العلمية