فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ التوضي والغسل والآداب الأخرى عند التحديث ] :

( ثم ) عند إرادتك نشر الحديث بالنية الصحيحة إن شاء الله تعالى ( توضأ ) وضوءك للصلاة ، ( واغتسل ) اغتسالك من الجنابة بحيث تكون على طهارة كاملة ، وتسوك ، وقص أظفارك ، وخذ شاربك ، ( واستعمل ) مع ذلك ( طيبا ) وبخورا في بدنك وثيابك ، فقد قال أنس : ( كنا نعرف خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بريح الطيب ) .

وقال ابن عمر : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستجمر بالألوة غير المطراة وكافور يطرحه معها ) .

( و ) كذا استعمل معه ( تسريحا ) للحيتك وتمشيطا لشعرك إن كان ، بأن ترسله وتحله قبل المشط ; لما [ ص: 221 ] في الشمائل النبوية أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته .

والبس أحسن ثيابك ، وأفضلها البياض ، إلى غير ذلك مما يتجمل به من سائر أنواع الزينة المستحبة ، فالله ورسوله يحبان الجمال .

( و ) كذا استعمل في حال تحديثك ( زبر ) أي : نهر ( المعتلي صوتا ) أي : صوته ( على ) قراءة ( الحديث ) ، والإغلاظ له ، لشمول النهي عن رفع الأصوات فوق صوته صلى الله عليه وسلم ذلك .

كما صرح به مالك حيث قال : إن من رفع صوته عند حديثه صلى الله عليه وسلم فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

( واجلس ) حينئذ مستقبل القبلة متمكنا بمقعدتك من الأرض لا مقعيا ونحوه ، ( بأدب ) ووقار ( وهيبة بصدر مجلس ) يكون القوم فيه ، بل وعلى فراش مرتفع يخصك أو منبر ، لما روينا عن مطرف قال : كان الناس إذا أتوا مالكا رحمه الله خرجت إليهم الجارية فتقول لهم : يقول لكم الشيخ : تريدون الحديث أو المسائل ؟ فإن قالوا : المسائل . خرج إليهم في الوقت ، وإن قالوا : الحديث . دخل مغتسله فاغتسل وتطيب ولبس ثيابا جددا وتعمم ولبس ساجه ، وتلقى له منصة فيخرج فيجلس عليها ، وعليه الخشوع ، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث .

قال ابن أبي أويس : فقيل له في ذلك ، فقال : ( أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنا ) . ويقال : إنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب .

وكان عبد الله بن عمر بن أبان يخرج إلى مجلس تحديثه وهو طيب الريح حسن الثياب ، [ ص: 222 ] فلقبه أهل خراسان لذلك مشكدانة ، إذ المشك ، بضم الميم ، وبالمعجمة ، بالفارسية المسك ، بالكسر والمهملة ، والقول بأنه وعاء المسك تجوز ، ودانة الحبة ومعناه حبة مسك ، كل ذلك على وجه الاستحباب .

وكره قتادة ومالك وجماعة التحديث على غير طهارة ، حتى كان الأعمش إذا كان على غيرها يتيمم ، لكن قال بعضهم : إن هذه الأمور المحكية عن مالك لا ينبغي اتباعه فيها إلا لمن صحت نيته في خلوص هذه الأفعال تعظيما للحديث لا لنفسه ، لأن للشيطان دسائس في مثل هذه الحركات ، فإذا عرفت أن نيتك فيها كنية مالك فافعلها ، ولا يطلع على نيتك غير الله .

ونحوه قول شيخنا في ( العذبة ) : إن فعلها بقصد السنة أجر ، أو للتمشيخ والشهرة حرم . ولا شك أن حرمته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره بعد مماته عند ذكره وذكر حديثه وسماع اسمه وسيرته كما كانت في حياته ، وكذا معاملة آله وعترته وتعظيم أهل بيته وصحابته لازم ، وربما تعرض للمحدث ضرورة لا يتمكن معها من الجلوس ، فلا حرج في القراءة عليه وهو نائم .

قال ابن عساكر : كنت أقرأ على أبي عبد الفراوي فمرض ، فنهاه الطبيب عن الإقراء ، وأعلمه أنه سبب لزيادة مرضه ، فلم يوافقه على ذلك ، بل كنت أقرأ عليه في مرضه وهو ملقى على فراشه إلى أن عوفي .

وكذا قرأ السلفي وهو متكئ لدمامل أو نحوها كانت في مقعدته على شيخه أبي الخطاب بن البطر ، [ ص: 223 ] وغضب الشيخ لعدم علمه بالعذر .

التالي السابق


الخدمات العلمية