فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ متى يمسك المحدث عن التحديث ؟ ] :

وبالجملة فوقت التحديث دائر بين الحاجة أو سن مخصوص ، وهل له أمد ينتهي إليه ؟ اختلف فيه أيضا ، فقالعياض وابن الصلاح : ( وينبغي ) له ، أي : استحبابا ( الإمساك ) عن التحديث ، ( إذ ) أي : حيث ( يخشى الهرم ) الناشئ عنه غالبا التغير ، وخوف الخرف والتخليط بحيث يروي ما ليس من حديثه .

قال ابن الصلاح : والناس في السن الذي يحصل فيه الهرم يتفاوتون بحسب اختلاف أحوالهم . يعني : فلا ضابط حينئذ له . ( و ) لكن ( بالثمانين ) أبو محمد ( ابن خلاد ) الرامهرمزي أيضا ( جزم ) حيث حده بها ، وعبارته : فإذا تناهى العمر بالمحدث فأعجب إلى أن يمسك في الثمانين ، فإنه حد الهرم . قال : والتسبيح والذكر وتلاوة القرآن أولى بأبناء الثمانين .

قال : ( فإن يكن ثابت عقل ) مجتمع رأي ، يعرف حديثه ويقوم به ، وتحرى أن يحدث احتسابا ، ( لم يبل ) أي لم يبال بذلك ، بل رجوت له خيرا .

ولذا قال ابن دقيق العيد : وهذا ، أي التقييد بالسن ، عندما تظهر منه [ ص: 234 ] أمارة الاختلال ، ويخاف منها ، فأما من لم يظهر ذلك فيه فلا ينبغي له الامتناع ; لأن هذا الوقت أحوج ما يكون الناس إلى روايته .

يعني كما وقع لجماعة من الصحابة ( كأنس ) هو ابن مالك ، وحكيم بن حزام ، حيث حدث كل منهما بعد مجاوزة المائة .

ولجماعة من التابعين كشريح القاضي ، ومن أتباعهم كالليث ، ( ومالك ) هو ابن أنس ، وابن عيينة ، ( ومن فعل ) ذلك غيرهم من هذه الطباق وبعدها ، ومنهم الحسن بن عرفة .

( و ) أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ( البغوي ) ، ( و ) أبو إسحاق إبراهيم بن علي ( الهجيمي ) بالتصغير نسبة لهجيم بن عمرو ، ( وفئه ) أي جماعة غيرهم ( كـ ) القاضي أبي الطيب طاهر بن عبد الله ( الطبري ) ، والحافظ أبي طاهر السلفي كلهم ( حدثوا بعد المائه ) .

واختص الهجيمي عمن ذكر حسبما ذكره ابن الصلاح في فوائد رحلته بأنه كان آلى ألا يحدث إلا بعد استيفاء المائة ; لأنه قد رأى في منامه أنه قد تعمم ورد على رأسه مائة وثلاث دورات ، فعبر له أن يعيش سنين بعددها فكان كذلك .

وممن قارب المائة من شيوخنا وهو على جلالته في قوة الحافظة والاستحضار ، القاضي سعد الدين بن الديري ، ولم يتغير واحد من هؤلاء ، بل ساعدهم التوفيق ، وصحبتهم السلامة ، وظهر بذلك مصداق ما روي عن مالك أنه قال : إنما يخرف الكذابون . يعني غالبا ، حتى إن القارئ قرأ يوما على الهجيمي بعد أن جاوز المائة حديث عائشة في قصة الهجرة ، وفيه أن الحمى أصابت أبا [ ص: 235 ] بكر وبلالا أو عامر بن فهيرة ، وكانوا في بيت واحد ، فقالت له عائشة : كيف تجدك يا عامر ؟ فقال :


إني وجدت الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه     كل امرئ مجاهد بطوقه
كالثور يحمي جسمه بروقه

فقال : كالكلب . بدل قوله : كالثور . ورام اختباره بذلك ، فقال له الهجيمي : قل : كالثور . يا ثور ، فإن الكلب لا روق له ، إذ الروق بفتح الراء ثم السكون القرن ، ففرح الناس بصحة عقله وجودة حسه .

قال عياض : وإنما كره من كره لأصحاب الثمانين التحديث لكون الغالب على من يبلغ هذا السن اختلال الجسم والذكر ، وضعف الحال وتغير الفهم وحلول الخرف ، فخيف أن يبدأ به التغير والاختلال فلا يفطن له إلا بعد أن جازت عليه أشياء .

وتبعه ابن الصلاح في هذا التوجيه فقال : من بلغ الثمانين ضعف حاله في الغالب ، وخيف عليه الاختلال والإخلال ، وألا يفطن له إلا بعد أن يخلط ، كما اتفق لغير واحد من الثقات ، منهم عبد الرزاق وسعيد بن أبي عروبة . على أن العماد ابن كثير قد فصل بين من يكون اعتماده في حديثه على حفظه وضبطه .

فينبغي الاحتراز من اختلاطه إذا طعن في السن ، أو لا ، بل الاعتماد على كتابه أو الضابط المفيد عنه ، فهذا كلما تقدم في السن كان الناس أرغب في السماع ، منه كالحجار ، فإنه جاز المائة بيقين ; لأنه سمع ( البخاري ) على ابن الزبيدي في سنة ثلاثين وستمائة ، وأسمعه في سنة ثلاثين وسبعمائة ، وكان عاميا لا يضبط شيئا ، ولا يتعقل كثيرا ، ومع هذا تداعى الأئمة والحفاظ فضلا عمن دونهم إلى السماع منه ، لأجل تفرده ، بحيث سمع منه مائة ألف أو يزيدون .

[ ص: 236 ] قلت : وقد أفرد الذهبي كراسة أورد فيها على السنين من جاز المائة ، وكذا جمع شيخنا كتابا في ذلك على الحروف ، ولكن ما وقفت عليه ، بل وما أظنه بيض .

ويوجد فيهما جملة من أمثلة ما نحن فيه ، وفيه رد على أبي أمامة ابن النقاش حيث زعم أنه لا يعيش أحد من هذه الأمة فوق مائة سنة ، متمسكا بحديث جابر في ( الصحيح ) : ( ما على الأرض نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة ) حسبما سمعه البرهان الحلبي من الناظم عنه .

( و ) كذا ( ينبغي ) استحبابا ( إمساك الاعمى ) بنقل الهمزة ، سواء القديم عماه أو الحادث ، عن الرواية ، ( إن يخف ) أن يدخل عليه في حديثه ما ليس منه ; لكونه غير حافظ ، بل ولو كان حافظا ، كما وقع لجماعة حسبما قدمته في الفصل الأول من صفة رواية الحديث وأدائه مع الإمعان فيه وفي الأمي ، ما يغني عن إعادته .

وينبغي استحبابا أيضا حيث بان الحض على نشر الحديث مع ما بعده من المسائل التي انجر الكلام إليها ألا تحمله الرغبة فيه على كراهة أن يؤخذ عن غيره ، فإن هذه مصيبة يبتلى بها بعض الشيوخ ، وهي دليل واضح على عدم إرادة وجه الله ، ولا على إخفاء من يعلمه من الرواة ممن لا يوازيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية