فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ ص: 244 ] [ تبيين التحديث وترتيله ] : ( وللحديث رتل ) استحبابا إن لم يخف منه شيء ، ولا تسرده سردا ، أي لا تتابع الحديث استعجالا ، بعضه إثر بعض ; لئلا يلتبس أو يمنع السامع من إدراك بعضه ; لحديث عائشة المتفق عليه : ( لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث سردكم ) .

زاد الإسماعيلي : ( إنما كان حديثه فهما تفهمه القلوب ) . وزاد الترمذي مما قال : إنه حسن صحيح : ( ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه ) .

ولا شك أن من المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يسردون الحديث بحيث لا يفهم بعضه ، بل اعتذر عن أبي هريرة الذي من أجله قالت عائشة ما قالت ، بأنه كان لكونه واسع الرواية كثير المحفوظ ، لا يتمكن من المهل عند إرادة الحديث ، كما قال بعض البلغاء : أريد أن أقتصر فتزاحم القوافي على في .

وقد قالت عائشة ما قالت ، فإذا خفي البعض فأولى أن ينكر ، ولذا قيل كما سلف في كتابة الحديث : ( شر القراءة الهذرمة ) .

وقد قال النحاس في ( صناعة الكتاب ) : قولهم : سرد الكاتب قراءته . معناه : أحكمها . مشتق من سرد الدرع إذا أحكمها ، وجعل حلقها ولاء غير مختلفة ، وأحسن صنعة المسامير .

واعلم أن القراء في هذه الأعصار المتأخرة ، بل وحكاه ابن دقيق العيد ، أيضا قد تسامحوا في ذلك ، وصار القارئ يستعجل استعجالا يمنع السامع من إدراك حروف [ ص: 245 ] كثيرة بل كلمات ، وقد اختلف السلف في ذلك كما تقدم في خامس الفروع التالية لثاني أقسام التحمل .

ولا تطل المجلس ، بل اجعله متوسطا ، واقتصد فيه حذرا من سآمة السامع وملله ، وأن يؤدي ذلك إلى فتوره عن الطلب وكسله ، إلا إن علمت أن الحاضرين لا يتبرمون بطوله ، فقد قال الزهري وغيره : إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب .

وقال المبرد : من أطال الحديث وأكثر القول ، فقد عرض أصحابه للملال وسوء الاستماع ، ولأن يدع من حديثه فضلة يعاد إليها ، أصلح من أن يفضل عنه ما يلزم الطالب استماعه من غير رغبة فيه ولا نشاط له .

وقال الجاحظ : قليل الموعظة مع نشاط الموعظ خير من كثير وافق من الأسماع نبوة ، ومن القلب ملالة . وقال الماوردي : قال بعض العلماء : كل كلام كثر على السمع ولم يطاوعه الفهم ، ازداد به القلب عمى ، وإنما يقع السمع في الآذان إذا قوي فهم القلب في الأبدان .

وقال الوليد بن مزيد البيروتي : المستمع أسرع ملالة من المتكلم ، وصح قوله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن [ ص: 246 ] أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية